أنفاسالليلة الأولى التي أقضيها وحدي، لا أكاد أصدق أنها ذهبت هكذا، بهذه البساطة، أظن أنها لم تحمل معها أي شيء، غير ما هو ضروري ولازم : بعض الملابس ومواد التجميل وأوراق تعريفها، لازلت أتخيل المشهد كاملا : بدت متكبرة، بعيدة كأنها أميرة أسيوية سلبوا منها كل ما تملك، لاشك أنها، بعد قليل ستعترض طريقها مشاكل. اهتمت فقط بمشط شعرها، وملاءمة الحذاء الذي تلبسه للقميص. تريد أن تنزل الدرج لآخر مرة دون أن يراها أحد، كأنها تقوم بأداء دور "ماريا إستوردو" وهي في طريقها إلى منصة المشتقة : متكلفة الرصانة والوقار، محترمة ومكرمة، سائدة ...
تركت من ورائها ثماني سنوات من الحياة الزوجية، بالأمس وبفتور وبلا مبالاة باردة رفضت بنصف جملة ما كان منذ يومين يساوي عندها الكون كله : تركت لي الأطفال، وذهبت كي لا تعود أبدا.
إنها تستحق الإعجاب على موقفها المفاجئ والأصيل، وتلك السهولة في رمي كل شيء إلى جانب، هجرت كل شيء حتى أتمتع أنا وحدي بما كسبناه معا، وحتى لا يتمتع غيري برؤية الأطفال يكبرون ويضحكون، وأجلس بجانبهم مشغول البال عندما يمرضون، وعلي أن أحمل ذكريات فراش الحياة الزوجية، وألبوم الصور الفوتوغرافية، والحديقة التي تنام فيها نباتات الخزامى التي غرستها بنفسها، وقريبا ستنبت زهورها.
تركت لي كل شيء، وكأنها حملت معها كل الأشياء، أسمع خطاها الثابتة وهي تمر عبر الغرفة، المدخل الصغير وصعقة الباب من ورائها، غادرت الدار وبقيت خالية. أن الأثاث بقي في مكانه، اللوحة ذات الزهور الصفر، إحدى اللوحات الأولى التي رسمها صديق العائلة المحبوب "ألدو" لم تتحرك من مكانها ولو مليمترا واحدا –أما الأشياء- البساط الذي تبادلنا الحب فوقه يوما مرتجفين في غيبوبة وجنون، والكرسي الذي غلفناه بثوب رمادي غليظ والذي قرأت لها وأنا جالس عليه أول قصة كتبتها وأنا أنتظر حكمها بقلب نابض، و"بيلافونت" الذي صاحبنا ليالي عديدة "جين" في رقصنا – هذه الأشياء فقدت الروح، إن كانت لها روح فقد حملتها معها.

أنفاسهانت .... قالها  لسائق النصف نقل بعد أن قطعا سويا مسافة الليلِ كلِه  من ميناء سفاجة حتى عبرا  مزلقان بولاق الدكرور ـ أقذر أحياء القاهرة ـ وما برح يواصل الاعتذار للرجل , عن هذا المطب وتلك الأحافير , التي تتأرجحُ السيارةُ فوقها صاعدةً وهابطةً , في اتجاه اليمين تميلُ كثيرا  , ثم في اتجاه اليسار مالت قليلا , والسائق متشبث بعجلة القيادة محاولا النجاة بسيارته أولا ثم بنفسه ثانية  ثم حفاظا عليه  أيضا , ليس من أجل عينيه , بل من  أجل ما تبقى له من الأجر المتفق عليه ,فهو لم يأخذ منه سوى عشرين جنيها , استكمل بها ما معه ثمنا لتعبئة السيارة بالديزل على الطريق , من أجل كل ذلك جاءت إجابته أسوأ من صمته و تبرمه الذي يبين على سحنته ليقول : ولا يهمك ...... بتوددٍ  , أشار له  على مبنى اختلف اتساعا ولونا , انه  مصنع للخشب , على  يمين الطريق , قال : فادخل في الشارع المقابل له على يسار الطريق , لم يُظهر السائقُ أيَ نوع من الاستجابة , استمر في صمته  مؤجلا انفجاره المروّع , جراء ما عانت سيارته مذ عبرا مزلقان القطار.....إلا أنه  قد رآه وهو يختلس النظر على يافطة المصنع , ثم يدير عجلة القيادة في اتجاه اليسارـ تأرجحت "سورة الإنسان " والتي طُبِعت على رقعة من البلاستيك , وهي معلقة تتأرجح  في سبحة من الزجاج على طول الطريق أمامهما ؛ أسقطتها من مقصلتها الزجاجية بين  رجليه , زفرة أطلقها غضبا واحتجاجا  وهو يستدير في اتجاه اليسار بسرعة وقوة , جعلت توازن السيارة يختل , تفادى ذلك سريعا , ليدخل في شارع فاروق حرب , طمأنه فقال : بعد خمس حارات على اليمين تجيء حارة ربيع حسن رقم 11 , وقفت السيارة أمام المنزل , تجمّع الصبية من كل صوب وحدب , وهم يتصايحون مرحبين بصديق قديم  , صافحهم واحدا واحدا , تاركا السائق يفك الحبال حول الأجولة  والكراتين والحقائب , المكومة  فوق ظهر السيارة بغير نظام , أطل سكان الحارة رجالا ونساء وأطفالا من الشبابيك والبلكونات , سمع للنسوة لغطا , ـــ   فهمه بعد حين ـــ قالت واحدة  : مسكين !!!!!,  فتجيبها أخرى:  بنت الحرام!!!!!! ,قالت الثالثة وهي تتأوه :

أنفاسوأخيرا حصلت على رخصة استثنائية لنصف يوم حتى أتمكن من إيداع رسالة بالبريد المضمون في مكتب البريد المركزي ،استيقظت باكرا لأكون في أول الطابور تفاديا للازدحام،والتدافع،واللغط في الكلام ،ولأستمتع بما يتبقى لي من رخصتي الاستثنائية، وبالفعل كنت في موعد الحدث،فاجأني بهو المكتب الفارغ إلا من موظفين يتوسدون أدرعهم،فقلت الحمد لله سأتمكن من إنهاء المهمة في زمن قياسي لأتفرغ لنصف يومي الاستثنائي .بحثت عن وجهتي في اللوحات الالكترونية المعلقة فوق المكاتب فوجدتها تتفق على عبارة واحدة "مرحبا بزبنائنا الكرام"،سررت بهذه العبارة التي تحترم الزبون،وتوجهت إلى أٌقرب مكتب وطلبت،بحماس مستعجل،من الموظف مباشرة الترتيبات بعدما قدمت له رسالتي وهممت بدفع واجب الطابع البريدي فقاطع استرسالي فقال،وعينيه تنمان عن الاستهجان والإحساس بالمهانة ،ماذا رسالة بالبريد المضمون؟!!.وما أن نطق الجملة حتى بدأت رؤوس الموظفين تشرئب من وراء المناضد وكأنها تتعرف على مخلوق غريب ،وبدأ التهامس بين الموظفين بغمغمات كسرت جو الرتابة السائد،فخرج موظف من مكتبه مستنكرا هذا الضجيج،فتقدم موظف هامسا في أذنه والتف حوله الباقي وكأنهم يشكلون خلية للتشاور في النازلة ،وفي كل مرة يرمقني أحد الموظفين ،تم توجه الموظف رئيس الحلقة نحوي، بعدما أفسحوا له الطريق،دون أن يتوقف عن تفحص رسالتي،وأخذ يحذق في بعينين ماكرتين في وضع احترازي وكأنه يتهيأ للأسوأ ، فقدم لي نفسه على أنه الرئيس المسؤول عن مكتب البريد هذا وشد دراعي برفق وأزاحني بعيدا عن الموظفين في زاوية منعزلة فقال لي:
ـ ماهذا التأخر والتخلف؟! ،كنت أظنك في البداية جئت مازحا أو مستفزا للموظفين ،ولكن تبن لي من هيأتك وصرامتك أنك جاد في طلبك.
ـ وأين التأخر والتخلف في طلبي هذا؟
ـ أما زلت تعاند؟!!، ألا تعرف أنن نعيش عصر الثورة الرقمية ؟

أنفاس(إليك أنيس هذه الموسيقى) 
 

"لنفترض أن لدينا فندقا بغرف لامتناهية ,يقيم بها زبناء بعدد لا متناه أيضا ..
 كيف نتيح لمجموعة لا متناهية من الزبناء الجدد أن يقيموا في ذات الفندق ذي الغرف اللانهائية والزبناء اللانهائيين الأصليين؟"

والفندق ليس غرفا فحسب..

الفندق مقصف أيضا..

وبالمقصف نزفت جراح وتصافحت نظرات غير بريئة وصدح الأرغن بنوتات تسدل شراشف بهيجة على أسرّة الروح.

أضواء خافتة تضفي على الفضاء سحر الكهوف الأولى, تكسرها بين الفينة والأخرى اشتعالات للأحمر الباذخ ..يباغت إغفاءات العيون المسدلة على غوامضها , فتتسع الحدقات باحثة عن بعضها البعض وتتحفز الجوارح لاقتراف الغوايات.

ومثلما يعبر وليّ ذو كرامات مبهرة فوق الماء, تمر أنامل العازف على لوحة الملامس بالشكل الذي يتيح للهواء أن يتوزع بمقدارعلى أنابيب الآلة ويرسل الصوت المبتغى الذي يحاكي دهشة البدايات.

يستمر للحظاتٍ دبيب واحد الخلية في نسغ الأرض , ثم يتدفق الأحمر المباغت على أرجاء المقصف مصحوبا بغرغرة للأرغن شبيهة بأنّات ماموث سينقرض بعد حين.

عندها يقول الرجل الذي تعتعه السكر دون أن يدرك ذلك :

- بإمكاني الآن أن أكتب القصة .

فيرد عليه الرجل الآخر الذي تعتعه السكر أيضا دون أن يدرك ذلك :

- تلك القصة المزعومة عن ساحر للمنطق والرياضيات يدعى "رايموند صموليان" يتحدث عن فندق بعدد لامتناه من الغرف وزبائن لانهائيين... 

أنفاس في تلك المقهى المعزولة بين أشجار حديقة السندباد بمدينة الدارالبيضاء، جلس ليقرأ صحيفته الحزبية وهو يرتشف قهوة فاحمة السواد. تصفح العناوين دون أن يجد موضوعا واحدا يستحق القراءة. طوى إذن الصحيفة وأسلم بعد ذلك نفسه لأحلام اليقظة وسط ركام هائل من الهموم تنفجر داخل رأسه بين الفينة والأخرى لتعيده إلى التفكير في هذا الوضع المزري الذي أصبح يعيشه.
انتبه إلى حذائه الذي تقادم ولم يعد ينفع تلميعه بعد أن بدأت جوانبه تتفتق. أخذ على نفسه وعدا بأن يشتري حذاءا جديدا حين يقبض راتبه مع حلول آخر الشهر. فكر لو كان لديه بعض المال، لذهب لزيارة أحد أصدقائه بمدينة إيفران خلال العطلة الربيعية القادمة. لكنه بعد أن محص الأمور، وجد أن اقتناء الحذاء أولى من السفر.
أخذ الصحيفة مجددا ليقرأ كلمة العدد. بعد دقائق معدودات رمى بها وهو يردد بصوت خافت: صحافيو آخر زمن، منتحلون لكلام الآخرين، هراء في هراء، كلام مزيف ليس إلا....
جال بنظره مجددا في الكراسي التي من حوله، لا شئ يثير الاهتمام. نهض ليتمشى وسط الأشجار تحت شمس دافئة تغري بإمضاء اليوم كله خارج البيت. لم يكن يعلم أنه سيمضي الليل واليومين الموالين أيضا خارج بيته.
في جولته هذه، سيلتقي المسماة نادية. امرأة قد يتجاوز عمرها الأربعين بقليل. يبدو رغم جمالها الطافح أنها عانس لم تتزوج قط. يحب هذا الصنف من النساء اللواتي يكبرنه سنا، لأنه يعلم أنهن أكثر عطاءا ولا شروط مسبقة لديهن، خصوصا إذا ترأءى لهن بصيص من الأمل في إمكانية الزواج منه. هو لا يكترث، يتركهن يحلمن كما يشأن. لا يقطع عليهن بصيص الأمل هذا، إنه بالمجان ولا يتطلب منه شيئا يذكر. ثم ما أن يقضي مآربه، حتى ينتصب واقفا ويولي هاربا خوفا من إحكام قبضتهن عليه.

أنفاسصمت رهيب يخيم على المقهى ،كل العيون مشدودة نحو تلفاز بالأبيض والأسود أمام نافدة كبيرة فوق طاولة غزاها الصدأ.دخان السجائر غمر الفضاء المعتم وكاد يخنقه ،الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا .
من خلف واجهة زجاجية صغيرة محاذية للباب الرئيسي شبه المتداعي ،بدت حركة سريعة بالخارج ،بداية يوم جديد.
قرب محطة حافلات النقل العمومي وبجانب شجرة توت كبيرة اتكأ شيخان مسنان على جدعها ،غير بعيد منهما وتحت سقيفة تمدد رجل مخمور في عقده الخامس فوق كرسي إسمنتي غير عابئ بركا مات قمامة أمامه وقد تجمع حولها مجموعة من القطط والكلاب المتشردة .
طقس بارد وجو بدأ يندر بزخات مطرية ...مرت متسولة من أمامهم ،مدت يدها نحوهم دون أن يحركوا ساكنا ..ظلت متسمرة للحظات ،توقفت حافلة واستأنفت مسارها وهم لايزالون في أماكنهم .اكتظت جنبات الشارع الرئيسي بشاحنات عسكرية ،زحمة قاتلة ..وهم لا يزالون كالإيقونات بدون حراك ...عبرت المتسولة الشارع بسرعة ،دخلت المقهى حانقة ،طال انتظارها واستجداؤها ،جف حلقها وكل متنها فأخذت تسب وتلعن الزمن الذي تحجرت فيها القلوب ...قفز النادل من خلف الدكة "الكونتوار" دفعها بقوة نحو الباب ،قاومته فركلها على مؤخرتها ،سبها سبابا فاحشا ،هددها ،وعاد مزهوا بنفسه ،لكن لاأحد من رواد المقهى أعار المسألة اهتماما يذكر .
في زاوية شبه معتمة ،انزوى شاب أنيق خلف جريدة صفراء ،وقد تسمرت عيناه على أعمدتها ،وقف النادل أمامه مسح الطاولة بعناية ،انتظر طويلا ثم عاد حاملا منفضة ممتلئة بأعقاب السجائر من أمامه غير راض بتجاهل الشاب له.

أنفاسماذا تنتظر..؟   مسكين أنت و بليد .لأنك ما زلت قادرا على ممارسة سلوك الانتظار، في محطة وهمية صنعتها لنفسك ،رغم كل ما وقع من أحداث ..هم ..سحبوا من تحت أقدامك الجريحة بساط الأمل و صدقتهم ..إنهم بارعون في الكذب عليك ، و يجب بدورك أن تكون بارعا أكثر في عدم تصديقهم .
زمن الزيارة اليوم مر مرور البرق ..، كل يوم تضيق علي رقعة زنزانتي ..مللت من قراءة جرائدهم التافهة مثلهم ،حكمهم علي كان ظلما و عدوانا .لهذا لا يمكن أن أتحمل العمر كله في علبة كهذه ..ومع كائنات كهؤلاء .لابد من إيجاد حل مناسب لهذه "التوريطة"..يجب أن أفكر جديا في مسألة هروبي من هذا الجحيم :ابتلاع أمواس كذبة قديمة مملة و مفروضة.
أحاول الآن أن أعيد الانسجام إلى جسدي . قرأت ذات يوم ، و أنا في السلك التعليمي الثانوي ، في إحدى الكتب الشائعة بيننا أنذاك نحن التلاميذ ، أن الفرد إذا أراد ، و بالإرادة فقط ..، يمكن أن يسترجع قٌوته الداخلية ،في لحظات ضعفه ، بل يمكن أن تتضاعف قوته هذه إلى قدرات  لا حدود لها ..، و ذلك  بالعمل على ترويض جسده،  و التحكم فيه بالكثير من التركيز الشديد،  و ذلك بالقيام بالحركات الرياضية ..،كما يفعل أصحاب اليوكا .
عدت ..و ألقيت بجسدي على الأريكة ، في الركن الأيسر للغرفة ..لآخذ قسطا من الراحة. الوجوه الحزينة المحيطة بي ، نبت في ملامحها فجأة شجر الأركان .

أنفاسيتماهى الجسد مع ظله، يبوح له باعتراف الوجدان المنفلت من حدود اليم، ما كان له أن يعشق القلنسوة لولا رائحة زبد البحر التي تفوح منها، زغاريد تملأ الفضاء ، يتموج فوقها نعش المرأة ، تبكي الجثة غربتها، حين ولدت ، عشقت ، أحبت وماتت. غربة الذات في انبثاقها ، مع ذاتها ، في وصالها وفي نعشها.
ترانيم المشيعين تذكر الذات بنبعها ، تكبر لله الذي يسكنها ، توحد بعاشقها الوحيد، تنتصب الذات فوق نعشها تبحث عن اتزانها على تموجات التشييع تنسل لتطل على شبح غربتها، يتراءى لها بين المشيعين، تكتوي بسؤال الوجود الميتافيزيقي كيف للغربة تلاحقها في موتها؟ والكينونة تتجرد من ماهيتها؟
عين تفيض جمالا قدسيا بها بحيرة بجع وسحر الموسيقى تحيي فيها شجن العشق، أحزان شتاء الانتظار، رومانسية الطفلة الثاوية فيها لحظات الانبهار باكتشاف ثورة الجسد..تتوحد مع ترانيم المشيعين في سيمفونية تكبر للعشق والخلود.
بين الهجران والنفي القسري عن دنيا الجسد والارتماء إلى حيث السمو و الحياة، تنشطر الذات في مفارقات التفكير والاعتقاد بازدواجية الحياة وانبعاث الذات في لحظات العدم ورعب اللاتناهي، كيف لا والطبيعة تخشى الفراغ، والطبيعة كامنة في الجسد بإشراطاتها المتوحشة.
أدعية تخترق الثرى تجفف دمع الجثة المتحجر في مقلة الزمن، تتوسل رحمة بذات يفترضون معاصيها المتراكمة امتداد العمر، تمثل ذواتهم في ذات منفلتة من التناهي، توحدهم بلحظات الأفول يغرقهم في يم التكبير و التوحيد، يمارسون طقوس التطهير الذاتي...