أنفاس " … أكتب لك هذه الرسالة على أنغام أغنية ( في يوم من الأيام )، تأتيني من إذاعة القاهرة؛ وذلك لأنني اشتريت مذياعاً به 9 موجات قصيرة .. أسمع مصر باستمرار، يعني أخباركم عندي .. ومبروك على المدرب الأجنبي للزمالك؛ ولكن، لا فائدة .. الأهلي هو الأول !… ".
          كان صـــديقــــي .. ظــلَّ – طول الوقت – نقيـــاً كطفـــل …
     " … أهم أخباري، أنني انتقلت إلى مسكن خاص، وتركت الفندق .. شقة صغيرة، مكونة من حجرة ومطبخ ( الحقيقة، واســع )؛ والحجرة بها تليفزيون، وهو يفيدني كثيراً في اللغة؛ والإيجار 100 فرنك، شهرياً، فقط. المهم، أنا الآن مستريح جداً عن أيام الفندق، وأطبخ الأطباق المصرية ( مسـقَّعة – ملوخية – بامية .. أحمدك يارب ! )؛ وأيضاً، الفول المدمَّــس !. عثرت هنا، في ( فيشي ) على بقَّـال يهودي؛ وطبعاً، هو يعرف أن العرب في طريقهم لاحتلال ( فيشي )، ثم فرنسا بأسرها، لذا، فقد جلب في دكانه كل ما قد يطلبه العرب !
     أما حديثك عن ( صدمة الانتقال )، فأنا أتعجب منه؛ إذ لم أشعر بأي صدمة، بل بالعكس، وجدت أنه من السهل جداً التأقلم على الحياة هنا. قد أكون أحسست بالغربة في أول أسبوع، حتى أنني اتصلت بمصر تليفونياً أكثر من مرة، ولكني اعتدت الحيــاة هنا .. ".
          كان صـديقـــي .. وكان – على الدوام – بسيطاً، كنبتة ترى الشمس لأول مرة
     " …  والنهار هنـا طويل جداً؛ يعني الساعة الآن 10 وربع مساءً، والظلام غير كثيف، إذ أن المغرب لم يؤذَن له إلاَّ منذ حوالي 20 دقيقة؛ لذا، فعندما يعمل الناس هنا حتى الساعة الرابعة أو الخامسة، مثلاً، فهو أمر طبيعي. والعجيب، أن الإنسان لا يحـس بالتعب، مع انتشار ضوء النهار كل هذا الوقت، فالإجهاد والحاجة للنوم لا يأتيان – كما تعرف – إلاَّ مع الظلام. أرجو أن أكون استطعت أن أنقل إليك ما أقصد، فأنا لست كاتباً كبيراً مثلك !

أنفاسكانت الأضواء الهادئة تختفي في صالة سينما شيراطون ، بينما   أنا أترقب وبشدة بدء العرض ، فأنا انتظر منذ مدة وبدأت اشعر بالملل فلا يوجد معي صديق أو رفيق ....
أعتقد أنه بدأ العرض الآن ، لكن قامات الذين يبحثون عن مقاعد خالية تحجب عني الشاشة ....
المقاعد تمتلئ وتجلس بجواري فتاه كانت تتقدم الأسرة الصغيرة التي احتلت المقاعد الثلاثة عن يميني .
 كان من الضروري ان اعتدل في جلستي ، حتي وإن كنت معتدلا...
كانت مجرد فتاه مجهولة ، وكان وجودي بجوارها مجرد صدفة ، فتعمدت ألا أتصرف بطريقة تجعل جارتي تفكر في تغيير مقعدها..
لم أحاول أن التفت ناحية الفتاة ، وكنت متحفظا جدا في تحركاتي على المقعد ، مر الوقت والفتاه تتصرف بكل بساطة وتلقائية وأنا مازلت متحفظا في نظراتي وتحركاتي....
لا لن أظل هكذا سأحاول أن اختلس منها أي نظرة ولكني أخشي أن ألفت إنتباه والدتها ،  فتقوم بتغير مقعدها فوالدتها هي الأقرب منا لكي تشعر بذلك .
يمر الوقت والوضع لم يتغير كثيرا فمازالت الفتاه تتصرف بتلقائية وتتحدث مع والدتها وتعلو صيحات الضحك بينهما ، بينما أنا مازلت متحفظا نفس التحفظ وكأنني غير موجود!!!

أنفاس (..مدينة الدشيرة تغيرت كثيرا ، و لم تعد كما كانت في سنوات خلت ..صامتة .. هادئة و خضراء ..).هذا ما فكر فيه ، و هو في طريقه إلى "المارشي" ..ثم تدارك .. (هذا أمر طبيعي ..التطور و التغير سنة الحياة) . .لكن رغم هذا التغير السريع ، الذي عرفته مدينته ، فهي لم تفقد جماليتها المنبعثة من رائحة الدكاكين الصغيرة ، الموجودة على جانبي الطريق الرئيسي  ..و السنوات الطويلة و الصعبة ، في كثير من الأحيان ، لم تنل من شوارعها .. و جدرانها .. و كذلك من بعض أشخاصها ..، إلا بصورة أقل مما كان يتصور ، قبل أن يجمع لوازمه في حقيبته ،  في بلاد الأنوار كما يسميها : بلاد الغربة و العجب ، و يعود متلهفا حتى النخاع ، إلى وطنه و بلدته ..، لكن كما سافر منها ، من مدينته ، في ذلك اليوم المشؤوم ، يعود إليها خاوي الوفاض ..هذه المدينة التي كانت في ذلك الزمن الغابر، عبارة عن قرية غارقة في بدويتها ،تتخللها حقول فلاحية ، تخترقها السواقي الجارية و الباردة ..، حيث تعلم الدروس الأولى للسباحة ، مع ثلة من رفاقه المشاغبين أنذاك..، قبل أن يكتشف أمواج البحر الواسعة .. بعملية الأوتوستوب ..
 لحسن حظه يملك اليوم دراجة هوائية ، لا يوجد في حيه أصلب منها ..رحم الله أبوه الحاج الحسن التاجر ، الذي زار الديار المقدسة مشيا على الأقدام ، و عندما رجع من بلاد الحج ..، لم يرجع خاوي الوفاض ، كما رجع الآن ابنه البكر السيد عمر ، و بعد "مضي سنتين بالتمام و الكمال – يحكي لحجام الحومة – (استطاع المرحوم أبي أن يجمع ثروة كبيرة ، وأن يبدأ حياة تجارية نشيطة نال منها أرباحا لا تحصى .. لكن أين هو العقل ؟؟، لو فكر جيدا في ذلك الزمن ..لاشترى الدشيرة بترابها و حقولها و بنواعرها وأشجارها و طيورها ، هذه التي لم يعد لها وجود اليوم ، في حياة هذه المدينة المليئة بالضجيج و الثرثرة ..).

أنفاسلمّا اشتد الحصار على غزة وطال حتى يئس عوض من الحصول على أي فرصة للعمل باع أسورة الذهب التي تزين معصم زوجته ، واشترى بثمنها كومة كبيرة من البطيخ . ثم صنع عريشه من جريد النخيل واخذ يمكث بها من الصباح حتى الليل . وهي فرصة أيضا للقاء أصدقائه للتسلية معهم في النهار والسمر حتى منتصف الليل .. وإن كان قد علَّقَ يافطة كبيرة من الورق المقوى وكتب عليها بخط رديء بالكاد يمكن قراءته : الدَّين ممنوع و العتب مرفوع والرزق على الله .
في جلسة عوض الأخيرة مع أصدقائه ظهر لهم من بعيد حمار هزيل برزت عظام مفاصله و بالكاد يستطيع المشي ، و يئن بحمل حمدان وقد اخذ يلكزه بعقب صندله  كي يحثه على الإسراع . ما أن رأوه قادما حتى غرقوا في الضحك والقهقهة المجلجلة .. واخذوا يتذكرون نوادره التي قيلت أمامهم ملايين المرات . فذكر احدهم كيف أن حمدان خلال الانتفاضة الأولى وضع كيسا صغيرا من النايلون في منتصف الشارع مما استدعى الجيش إلى جلب خبراء المتفجرات من تل أبيب ليكتشفوا انه كيس مملوء بالزبالة . وذكر آخر كيف امسك به الجيش ذات يوم و هو يقذفهم بالحجارة  فتظاهر بالجنون فأخلى الجند سبيله بعد أن أشبعوه ضربا ، فضحكوا كثيرا حتى أخذت موجات الضحك تتعالى مستدعية موجات أخرى وراءها.. أما عوض فذكر لهم كيف أن الجند داهموا الحارة ذات يوم أثناء قيام حمدان بكتابة الشعارات الوطنية على الجدران ، فارتبك و اختلطت عليه الأمور فبدل أن يهرب مبتعدا عن الجند جرى باتجاههم وارتطم بسيارتهم العسكرية فامسكوا به وسجنوه ستة شهور.. أخذت أجسادهم تهتز من شدة الضحك ..

أنفاس(1)
سرّحت شعرها وعقدته بمشبك مذهب تاركة خصلات نافرة فوق الجبين..نظرة أخيرة إلى الدمع الوردي المبتهج فوق الشفتين , الجاكيت الجلدية السوداء والكولون, ثم وقع قدميها: تيك تيك تيك, باتجاه الخارج.. الصباح ينتظر فاردا ذراعيه, وهي : تيك تيك تيك, لا تبالي بالنظرات المتقافزة نحوها كالفراش , بكراسي المقاهي والواجهات .تبلغ مقصدها , فيكف الكعبان عن التكتكة..تلم كل الفراشات التي لاحقتها, تضعها في حقيبة اليد, وتصعد الأدراج.
ويبقى السؤال الذي ينوشني على الدوام: ما الذي يشدني إليها, أ جمالها أم وقع قدميها؟ تلك التكتكة الموزونة..الموزونة بدقة متناهية كأجراس القيامة, وتلك الموسيقى:
نغمات ناي وأنا عائد من المدرسة , صغيرا ونحيلا , تتقاذفني الريح إذا اشتدت , فوق البيادر والأسطح, أعشاش السقساق واليمام..صغيرا ونحيلا وعائدا من أول حصة دراسية , ثم سمعت الموسيقى..رأيتها أمامي في هيأة شاب مقرفص فوق العشب , وحبات تين تتساقط من ثقوب الناي , حبات عنق حمام حزينة جدا وشفافة..وحين سألتني أمي عن المدرسة, حدثتها عن الشاب المقرفص على العشب والموسيقى الحزينة, التي سكبت في دمي نهرا من البكاء..فهل هو جمالها أم الموسيقى التي توقعها القدمان؟

أنفاس قاعة المتحف رحبة ومضاءة..
الزائرون كأنهم يتحركون وسط نيام,لا تسمع لأقدامهم حفيفا...يتبادلون النظرات فقط...يقتربون ما أمكن لقراءة أسماء وتواريخ....
حين ولجت قاعة المتحف المضاءة بشكل ينعدم فيه خيال الأشياء المتحركة,أدركت أن التماثيل كانت تكلم الزائرين...وهم ـ الزائرون يستمعون باستلاب شديد ـ على غير عادتهم ...الثرثرة...
عضلات رجل سيزيفي, يحمل الارض بسهولة, تصبغ على الجسم كمال البنية...لحية ككبة نحل تنهش عسلا... وغصن زيتون يشد انسياب شعر الرأس الصغيرة التى احنتها الارض...كل مساحة من جسم هذا الرجل تكلمك...
ارتجفت قليلا لما التقت أعيننا ...لبؤة رابضة تتربص غزالا يجتر في اطمئنان ولم ارتجف يوم كدت ان الامسها بسيرك الحي وسط صخب الاطفال...
تماثلهم الخارق أدهشنى ولم يستوقفنى مثلما شدتني هذه المرأة المجنحة,العارية باستحياء...حصنت ما بين فخديها بكف وبأخرى نهدها الناتئ...
سرحت في ضمور الخصر وامتلاء الصدر وتلك الحلمة التى تطل بحياء من انفراج السبابة والوسطى وأنامل تتقطر رقة...
أين الرأس؟ ترى لو كان ,أكان لهذه المرأة العارية بحياء ,الاتية من الجنة على ما يبدو, هذا السحر ؟أقطعوه لكي لا يتحول كل من نظرت اليه الى حجر؟ أم مر الفتى من هنا ؟

أنفاس بين ذراعي، كان الرجل الثالث لهذا اليوم، يبكي!  لكن لا وقت لدي لأواسيه. فبعد ساعتين سينطلق قطاري إلى الرباط. لي موعد غدا زوالا هناك.
أترك الرجل يسترسل في حزنه. لا أسمعه. لي ما يشغلني. لذا أنظر إلى تفاصيل غرفة الفندق. ورق الحائط الرديء اللامبالي. الهالة السوداء حول المصباح المعلق في السقف. الستائر التي لا تترك الضوء يتسرب إلى الغرفة. طاولة صغيرة قرب السرير، تركت عليها حقيبة يدي. و.. السرير المنحني تحت ثقل الأزواج الذين طالما تعاركوا فوقه.. والرجل المجرد من أناقته. ساعته اليدوية وحدها، مازالت متعلقة به، تعلم عن الوقت وعن ثرائه المفترض..وثم جسدي، الممتلئ كفاية دون إفراط، المنحوت من قطعة طين طرية الملمس.. يعشقها الرجال..
- مرة أخرى، همس الصوت المتقطع من بقايا بكاء.
- لا، قلت بحزم. وهممت بالنهوض..
- مرة أخرى، ردد الصوت.
ترددت قليلا، فجلس الرجل، بحث سريعا عن بنطلونه وسط كومة الثياب. أخرج ورقة مالية وأضافها إلى المبلغ فوق الطاولة.
- في ثلاثين دقيقة لا أكثر، قلتُ..

أنفاس عندما رمى الحطاب فأسه بعيداً عن الخشب الذي كان يحطبه قرر أنه لن يحطب مجدداً.
قال لنفسه :
- الحطابة ليستِ الشيء الأهم في حياتي. لايوجد شيء ذو أهمية قصوى بالنسبة لي مثل رؤية الله!
أدرك أن الله حين خلقني غرس في قلبي هذا الشوق العظيم لرؤيته والتمتع بجمال وجهه. لكن أين أنت يالله ؟
قلَّب الحطاب نظرهُ في السماء و كأنه يتفحصها جيداً قبل الذهاب لكوخه بأخشابه المقطعةِ.
الحقيقة أنه يعلن اعتزاله لمهنة الحطابة يومياً و لكنَّ الفقر وشدة الحال تجعله يرجع لحرفته التي لا يعرفُ غيرهَا. لم يكن همُ الحطاب في هذه الدنيا إلاَّ مسألة لقاءه مع الله. هذا الهاجس جعله منعزلاً عن مجتمعه القرويِّ ، فهو لبث في التفكير بملاقاة الله منذ أن تهامست القرى في ديار السامرة أنَّ عزرا وليُ الله قد رأى الله بعينيه الإثنتين ثم ماتَ. لم ير أحدٌ عزرا و هو يرى الله و لكنَّ الكُهان يرددون هذا بين الناس و هذا الخبر هو ما يتناقله أهالي السامرة منذ أعوامٍ. هذه الحادثة أوحتْ للحطاب أنه يستطيع رؤية اللهِ في يومٍ ما ،و هذا ما جعله يقوم بزيارة ضريح عزرا كلَّ سبت طالباً للبركة وداعياً أيضًا بكل المقدسات أن يستطيع ملاقاة الله.
استمرت أيام الحطابِ على هذا المنوالِ حتى جاءت ليلة الأحد العظيمة و هي الليلةُ التي مات فيها عزرا. حلمَ الحطابُ في تلك الليلة أنه يرى السماء تنشق فيهبط منها شيخٌ وقورٌ ذو لحيةٍ بيضاء كثيفة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة