أنفاسصحوت على نقرات حادة على زجاج باب الشرفة ، فركت عينى المغمضتين نفضت عن ملامحي بقايا حلم مزعج ، رأيت حبات المطر المتساقطة من سمائي تنقر باب الحجرة وتدعوني إلى الاستيقاظ .
مازال المنبه يئن معلناً الثالثة صباحاً .. أزحت عنى غطائي الثقيل كثقل أيامي .. غصت في الظلام .. ارتداني صقيع الشتاء فتحت باب الشرفة ولم أخش البرد .. خشيت فقط غضب سعاد الساكنة معي في غرفة بيت الطالبات .
استنشقت هواء طمى مندى وأشجار مورقة .. انتفضت أنفاسي ربما هذه هي أولى أغنيات المطر.. أمد يدى وأرتشف من صلاتي الأبدية ماء المحاياة ، على جدران الصدر يتراكم ثلج كثير يحبس بداخله الهواء.. أشتاق لبعض هواء ..
أنادي على سعاد فيهرب صوتي بعيداً عنى .. أتدثر بالبرد يتحالف مع ثلج صدري ويخطف منى الضياء ويلقى على برد الظلام .. المطر يهطل على جسدى .. صدرى يستول الهواء .. ضوء أصفر شاحب يتسلل إلى .. تتبعه سعاد في حنو .. تصرخ في وجهي أنت مجنونة تحملني على السرير وتغلق باب الشرفة المبتلة نزعتها عنى .. أعد عظام جسدي الناحل محاولة اكتشاف تفاصيل جسدي من جديد .

أنفاس= رأيتـُـهُ :
     في " على كيفــك ". الموائد شـبه خالية. المكانُ مُحكَـمٌ، والدفءُ يشيعُ في جوانبه. أبرزُ الأصواتِ وقعُ خطوات النادل في تحركاته لخدمة الرواد القليلين، في بداية اليوم. ضوء النهار بالخارج مختنق، يحاول – عبثاً – أن يجد منفذاً بين طبقات السحب السـوداء الكثيفة التي يدفعها الهواء العاصف من اتجاه البحر الثائر. مسَّت إصبعه جدار الكوب. أدرك أن الكاكاو برد. رشـف لآخر مرة منه. تناهت إلى سمعه كلمات تشوبها لكنة أجنبية، ثم ضحكة صغيرة بدت غريبة. كانت سيدة شـــقراء تداعب النادل النوبي.
     تزايدت وطأة المطر بالخارج، وكان لارتطام خيوطه المائلة بواجهة المحل الزجاجية العريضة صوت واضح؛ وكانت الخيوط تجرى في انكساراتها والتواءاتها إلى أسفل. لم يجد بينها خيطا واحداً مستقيما. تنهد ضائقاً. لا يحب من المطر غير رائحته، ولكنها لا تصل إلى فتحتي أنفه في هذا الصندوق الزجاجي الأنيق. تزايدت أبخرة الداخل، وافترشت غلالة منها أسطح الجدار الزجاجي. فقد المكان سحره وميزته كموقع لمراقبة حركة الحياة بميدان " محطة الرمل " في النهار الوليد. أشار للنادل. حاسبه. هــمَّ نصف واقف، وأعـدَّ ساقَـه الاصطناعية للحركة. اســـتقام، وأتخذ طريقه إلى باب الخروج.

أنفاسأطرق  اطرق باب المساء فتفتح لى ...... وتولى الوجه ولا ترد على السلام ... اعفو أنا عن صمتك وأغزل منه نسيج الوقار ...
أغاضب أنت منى .. فمنذ عشرة أيام لم تستبح صورتك فضاءات حلمي ... تقول لي في صوت يسكنه العتاب .. وأنا انتظر منذ
عشرة أيام سورة يس ترتلينها على ...
أفتح فم الدهشة ألهذا أنت غاضب منى ؟ ....
وأنت تعلم يا جدى أننى ما تركت يس أو الفاتحة مذ كنت مسجيا على فراش الصمت ...
جدي الاطار المطلي بماء الذهب
ازدان بصورتك .. لحيتك استطالت
فأخذت مساحة كبرى من الاطار ... من فوق الحائط
أنزلت صورة مايكل جاكسون .... وقلت وأنا ألقيها على الأرض جدى بألف منك يا هذا الجاكسون ... جدي إليك أخبار البيت .

أنفاسكان قرارها الانفصال عنه مؤلما أشد الألم, كطعم الموت في حلق ذلك الواقف أمام مشنقة الإعدام, والحبل يلتف حول رقبته, ولكنه كان الخيار الوحيد, فلا بد من الرحيل, إلى أين كانت قد قررت سلفا وجهتها إلى القادمة.
عندما قابلته أول مرة قفز قلبها بين ضلوعها وارتجف جسدها كله, لم يكن الحب الأول في حياتها, ولكنها امرأة تدخل سن اليأس ب"كامل مشمشها" لن تخطيء في تجربة الحب من جديد, غرقا في بحر الحياة, ونهلا منه الحب والسعادة, عاشا كقصص الحب الجميلة في تراث البشرية الزاخر.
ولكن هي كانت تدرك حقيقة أخرى, قد لا يتحدث بها الأصدقاء أمامها, لكنها كانت الحقيقة, كانت الغصة التي ما فتئت تقف في حلقها منذ أن عرفته في ذلك اليوم وقررا الارتباط سويا, الأطفال, نعم تلك هي الحكاية, كل رجل يريد طفلا من صلبه يكمل به مشوار الإنسانية, كل رجل يرغب في وريث يرث اسمه ويورثه للأجيال القادمة, كيف لا؟! وهي التي حلمت دوما بطفل تحمله بين يديها, طفل لها وحدها, ليس أطفال العالم, بل مثلها هي فقط, هي حرمت من هذا الطفل بدون إرادتها, ولكنها تحرمه منه بإرادتها وهي التي تعلم أن عمرها ما عاد يؤهلها للحمل بتاتا.
إذن هذه هي الحكاية, قرأتها في عينيه كلما رأى أو لمس طفل لصديق من أصدقائهما, كما قرأتها في عيون الآخرين, وأحست بالذنب, ذنبها هي وحدها, فهو لازال قادرا على إنجاب الأطفال أما هي فلا, فقررت الرحيل....

أنفاسمالت الشمس لتهوي لولا أن امسك بها فم المدى وأخذ يلتهمها ببطء لقمة وراء لقمة حتى ابتلعها كما الفريسة الكبيرة في فم تمساح ، وبسط الكون عباءته . السيجارة في فمي يقصر عمرها مع كل شهقة عميقة مضطربة وزفرة طويلة متوترة .. و ها هي ذي ساعة يدي تتأفف لكثرة نظراتي لها وقد فات على الموعد المحدد للقاء نصف ساعة بلا أي زيادة أو نقصان . لم يعد بإمكاني انتظارها أكثر من ذلك .. فبات واضحا أنها لن تأتي . هممت بالمغادرة ، لكنها جاءت فخفق قلبي خفقات طمأنينة لا تخلو من قلق .
جلست ووضعت رجلا فوق رجل وأكدت حضورها بهزة من رأسها ،هي هزة تحية صامتة ، فرددت عليها تحيتها بهزتين من راسي ، نظرت إليّ بنصف بسمة فنظرت إليها ببسمة كاملة . فجأة أشارت بسبابة اليمنى و سألت ما هذا ؟
عجبت لسؤالها ! فنظرت حولي إلى الوجوه المستكينة لرواد المقصف بنظرات ملؤها الحيرة ، ثم حدقت بوجهها الأصفر والأملس كالصابون المبلول وقلت لها بصوت خافت متقطع : إنه تمثال الجندي المجهول ! وأسندت ظهري واستنشقت بعمق رائحة عطرها الساطعة وتمنيت لو بإمكاني تخزينها في رئتيّ . وما هي إلا لحيظات قليلة حتى عادت  تسأل ثانية ..
- لماذا هو مجهول هذا الجندي ؟
- لأنه رمز للتضحية والفداء والبطولة لناس لا احد يعرف شخصيتهم .

أنفاسكان ويوما جميلا منذ الصباح الباكر, الشمس أشرقت كالعادة وأدفأت هذا الصباح الخريفي الجميل, الأطفال يسيرون إلى مدارسهم فرادى وجماعات, والعاملون إلى أماكن عملهم, لا شيء يعكر روتين هذا اليوم الجديد من أيام قطاع غزة سوى أجواء الحصار, و إحساس داخلي تولد لدي بأن خطبا ما سيقع ليعكر صفاء هذا اليوم الغير عادي لقطاع غزة, مددت يدي لأوقف سيارة تقلني إلى مكتبي في المدينة, فتوقفت أربع سيارات دفعة واحدة, فالبطالة وسوء الأحوال الاقتصادية والحصار جعلت مهنة السائق من المهن الأوسع انتشارا هنا في غزة, أضف إلى ذلك بسطات السجائر المنتشرة في كل مكان, جلست في المقعد الخلفي حيث كان المقعد الأمامي المفضل للجميع مشغولا من قبل شاب في منتصف العمر.مددت يدي لأعطي للسائق أجره إلا أنه كان مشغولا بإشعال سيجارة والنظر إلى الطريق في نفس الوقت, انتظرت إلى أن فرغ من إشعال السيجارة وناولته شيكلا.
- الأجرة شيكل ونص يا أستاذ.
- ليش مين اللي قال؟
- إمبارح سعر الدولار ارتفع والأجرة صارت شيكل ونص.
- يا سيدي تفضل.

أنفاسكنت آخـــر المغادرين عند انتهاء دوام المساء. آخر كلمات أسمعها – واليـــوم ينتهـــي - لا أكاد أفهمها… البنجـــلاديشي يقترب ويرطن ؛ لا أفهـــم مـن رطانته غير أنه معجب برباط عنقي. أغلق الباب ورائي.
تركت الجدران الدافئة إلي الشارع المتسع. تبدأ البرودة تتهابط فوق أسفلته ، تمسح مقدمة رأسي العارية. ليتني أجد الباص العام سريعاً. تسربوا من الدار واحداً بعد الآخر… لم أعد وافداً جديداً، وفقدت غطاء مجاملاتهم. لم أسع إلي منافسة، ولكن بعضهم استشعر في مجيئي خطراً علي وجوده، فشحذ أظافره. مضوا في سياراتهم. عرضت مقابلاً للتوصيل… لعله لم يكن مغرياً. أنهي "ماجد" حديثي عن الغربة في قسوة واضحة: " دعك من التخاذل… افتح على آخر سرعة، واترك العداد يعمل… لماذا أتينا إلي هنا، إذن؟! ". كان يترك مكتبه بالطابق الأعلى ويمر عليًّ، يمازحني، وقد يجالسني، نشرب الشاي، إذا لم يكن صاحب الدار موجوداً. فجأة، لم أعد أراه، وأصبح يرد عليَّ بكلمات قليلة، عندما أرفع السمَّاعة لأجيبه، في الصباح أو المساء. لعله خاف أن تخترق عدوى الغربة درعه الواقية.
هل سيطول انتظاري، والهواء البارد يضغط علي رأسي ووجهي؟.
 لماذا وافقت علي هذا المسكن البعيد؟.

أنفاس قرص الشمس يغرق في البحر , فتيان وفتيات بين متشابك للأيدي ومختلس للنظرات , يقف أحدهم ببذلته السوداء ليلتقطوا له صورة مع عروسه , صبي صغير يحمل أطواق الفل يغري بها متشابكي الأيدي , أصوات السيارات تعلو على صوت البحر الهادر, أمشي وحدي واضعاً كلتا يدي في جيبي البنطال , أتأمل أضواء كوبري ستانلي المتلألئة , أتفحص المارين والواقفين ,أدقق النظر في وجوههم لعلي أجد أحداً أعرفه أو يعرفني فيخبرني من أنا.
الكل مشغول ومنهمك في الحديث ،  لا أحد غيري يحدق في قرص الشمس الذي ذاب الآن في البحر مخلفاً وراءه خطوطاً ذهبية مخضبة بالدماء ، لا أدري أهي نازلة من السماء لتلتقي بالبحر ؟ أم متفجرة من البحر لتصبغ زرقة السماء من فوقه ؟  اختلط  الظلام فوق البحر بضوء القمر وانعكاس ضوء المصابيح ،  فظهر موجهه كحيتان تطفو.
رأيتها وحيدة تقف على حافة السياج الحديدي للكوبري لتلقي بنفسها في الماء ،  أسرعت إليها الخطى ،  تسارعت أنفاسي ، اهتز جسدي مترجرجاً على وقع أقدامي ،  قبل أن أصل إليها ،  هوت ، فقدت الجاذبية  ، حركتها الرياح هنا وهناك  ،  رقصت معها ،  انعكس عليها ضوء المصابيح فأشرقت .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة