أنفاسمازال الليل لم يستر عورته بعد، بدأ دبيب الحياة يسري بعد ليلة طويلة من الشخير، الناس يهرولون في اتجاه "باب الرب" لاستقبال شاحنات "الهندية" القادمة من المناطق المجاورة للمدينة.
أجلس فوق كرسي خشبي صلب يكاد عظم عجيزتي أن يلامسه من فرط النحافة. يضع النادل أمامي إبريق الشاي والبيصارة ورغيف الشعير الخشن دون أن أتكلم معه. انهمكت في الأكل بنهم لعلي أتمكن من طرد دوران الرأس الذي ألم بي، وأن أنعم بهذا الهدوء الذي يستعمر المكان. إنني عشقت التلذذ بنسيم صباح هذا اليوم قبل أن أعود إلى غرفتي بالفندق لأخلد لنوم عميق ينسيني صخب موسيقى علب الليل وترهات الندامى أو لعلي أحتمي ببرودة غرفة الفندق الاصطناعية قبل أن يحرق لفح الهجير جمجمتي. أعرف بأن الناس يهربون من هذه المدينة في فصل الصيف، لكنني أحب قضاء نصف عطلتي بها خلسة وخوفا من زوجتي سليطة اللسان. أنام طيلة النهار وأستيقظ في الليل لأهيم بصفة عشوائية في دروب المدينة وحاناتها.
جلست أمامي تضع قبعتها المبرقشة ذات الأهذاب السوداء المنسدلة فوق وجهها الأبيض؛ عيناها منغرستان في صحن البيصارة بشدة، قطعت جزءا من الخبز وناولتها إياه لعلها تكون ساغبة؛ لكنها رفضت أن تشاركني الأكل. أكملت وجبة إفطاري بتلذذ حتى النهاية دون مبالاة. فجأة فاجأتني بسؤالها:

ـ أتعرف ما حاجة الإناث بالذكور؟

أجبتها وأنا أبتسم مستغربا:

ـ لكنك لا تزالين صغيرة..

أنفاساسمه أمين ، في مرحلة المراهقة من دورة حياته . جسمه نحيل كدودة القز ، وجهه رفيع دقيق اسمر كقرن الخروب ، يبرز من رأسه انف طويل حاد مدبب كالمنقار ، ساقاه رفيعان ضعيفان كعصوان من الخيزران ، حملاه إلى بوابة حديقة الحيوان الواقعة في طرف المدينة .. الدخول بتذكرة غالية الثمن ، ليس بمقدور الفقراء تحمل عبئها ، وهو في غاية الفقر أو هو الفقر ذاته .. جمهرة خفيفة على البوابة لناس ملابسها نظيفة و مرتبة بدقة كأنها ذاهبة إلى حفل موسيقي ساهر، انتقوها لتليق بمناسبة الدخول إلى حديقة مليئة بالحيوانات الضارية والأليفة و الطيور .. على البوابة يقف حارس جسمه ضخم مثل البقرة الهولندية ، عضلاته مفتولة بدقة كأنه فتلها ونسقها عضلة عضلة .. داخل و خارج الحديقة ينتشر رجال أمن لمنع الشغب و الحفاظ على حياة الزوار و الممتلكات .
حين وقعت من فم أحد الزوار قطعة حلوى تزحلق بها الحارس فوقع أرضا، استغل أمين الجلبة و تسلل من وسط الزوار ، لم يلحظه الحارس ورجال الأمن فانطلق داخل الحديقة مسرعا ككلب السلق ، لفت  انتباهه القرد الذي ينعم بالموز الكثير داخل قفص حديدي كبير، يرمي الناس الموز إليه بفرح فيلتقطه  بسرعة مسرورا ، و يقذفه بفمه الواسع كمن يحرز هدفا في لعبة كرة السلة.
أخذ أمين يحدق بالقرد ويحسده على هذا النعيم ، وهو متشوق لأكل الموز الذي لا يستطيع شراءه  حتى بالأحلام ، تمنى أن ترمي الناس له بالموز ، أو أن يصبح مكان القرد في القفص .

أنفاسأختنق ...
الأرض بداخلي تنصهر، تتمرغ في وحلها، كأنه بركان عظيم يتكاثف أمام طوفان الموت. أرتطم في حلقي وجوعي يصدمني، يفجر ينابيع العطش. بينما يسافر الماء مع اليباب. كل ما حولي ظلام دامس، وكمقطع من قصيدة تبدأ معدتي في الصفير، تنادي وتنادي، لحظتئذ أسمعها كصرير ليلة كابية السواد، تدفع من بداخلها إلى الانفجار، الاختناق حتى الهذيان.
أذوب ...
كأنني جائع، كأنني أختنق، أو كأن الأرض ما عادت تحملني. فضاء يسافر بي إلى أفق صحراوي رهيب، صحراء من السحب الغامقة، لكنها كغبار ينزف دون أن تسقط معها طائرتي التي تقلني وأقلها، داخل تلك الأرض الصحراوية القاحلة هواء متسكع يفر كمجنون أمام تلك السفينة الهوائية العجيبة، تفر كمجهول تطارده قرية بحثت عن غريمها لعقود طويلة من الزمن، وها أنا ذا في أرض الله الصحراوية ذات الفضاء الخانق، أمامي اللاشيء وحده، أمامي الفراغ وأغنية أحبها، تحيطني أسيجة من جنون. الطائرة تغرق في بركان من جوع، وأنا أتيه على أعتاب قصيدة تتهادى مع صوت رنان. أتنفس الصعداء، أحقاً أنني خرجت الآن، أو قبل الآن بزمن بعيد، أحقاً أن الأرض ما عادت تلك التي وطأتها لوقت قاتل، حقير، أحقاً أن الأرض ما عادت صحراء قاحلة هذوت معها لشهور عجاف، يراودني سؤال حد الاختناق: كيف خرجت؟! وهل سأفكر بالعودة إليها مرة أخرى؟ ولا ادري بماذا كنت أفكر حين راودتني ( إليها ) تلك؟
***

سألتني يوماً حبيبتي:
لماذا ستتركنا؟
.............
وهل ستعود لو خرجت قدماك من غزة؟

أنفاس...لماذا يضعون العراقيل و الأشواك في طريقي ، و يطالبونني بالقفز عليها..؟ .بل ما يدعو حقيقة للسخرية ،هو كونهم يطالبونك بالمزيد من بذل الجهد  .،و بعدم التسرع في إعمال التفكير ، حتى تستطيع تحقيق القفزة النوعية المطلوبة ، و تسقط في إحدى الحفر التي أعدوها لك بإتقان، و لأمثالك من الكائنات المفروض عليها أن تخضع للتعليمات و النصح الأمومي إلى يوم الدين .هل هذا معقول ..؟أنت كائن يجب أن تكون مختلفا عن هؤلاء المدمنين على تدخين التعليمات ..تعليماتهم بنشوة . أنت ابن زمنك . جرب.. قل مثلا ولو مرة واحدة كلمة "لا" لأبيك ، طبعا إذا كان على خطأ . و ما أكثر أخطاء آبائنا .لكن نبحث لهم دائما عن مختلف التبريرات من أجل طمس محتواها الفاسد ،و هنا يكمن مربط الفرس ..هم يستمرون في تفريخ الأخطاء، و نحن نستـمر بدورنا في البحث لهم عن التبريرات المناسبة ،و كأننا نتواطأ معهم ،و ضد العالم و الإنسان و التاريخ في جريمة خنق الحقيقة حتى الموت ..دون أن نشعر بفعلتنا هذه الشنعاء ..لكن ،أنا لست من طينة هؤلاء ..

تعبت من كثرة المشي . بسبب حقيبة الأغراض التي أحملها على كتفي الأيسر ..الطريق ما تزال طويلة .فكرت في الجلوس . تحسست الصخرة الملساء بالقرب من الشجرة الوارفة الظل فجلست .نظرت بعيدا .تأكدت أن هذه الأرض في دمي لكن ..لن أقول أحلم أن أطير منها فقط بل شبعت لكثرة ما حلمت . لن يمضي هذا العام حتى أجد نفسي هناك ، حيث يجب أن أكون ..سأكسر ثقل هذه الصورة التي كونها علي هؤلاء المحيطون بي . سأخرج من هذا السجن العقيم الذي وجدت نفسي فيه رغما عني .. هم يعتقدون أنني لا أصلح لشيء ، و لا يمكن أن أنقذ نفسي من قبضة الاختناق التدريجي، الذي أصبنا به جميعا ، هذه العدوى التي جاءتنا من استسلامنا للصمت و الخمول و الكسل ..العدوى التي هي مثل ديدان الجثة ..

  أنفاس"لا تكن قوسا في يد أحد
كن سهما يغازل الريح ويوغل في لحم العدو"
الطفل على طريق مترب يمشي الهوينى..أشجار مانجا تُظل خطاه, وعلى الشفتين انزياحات أغنية حزينة. يلمح الرجل القادم عن بعد.. الرجل الشبيه بذئب, أو الذي كان بالأحرى ذئبا ذات تجسيد حار, فينكسر لحن الأغنية في فمه, وخلف المظهر البرئ لطفل بين الأشجار, تنتعظ صورة دامية لحروب طازجة بالأشلاء والصرخات, دم القتل والألم الذي لا ينتهي إلا ببتر الأطراف.
ليس هناك عصافير في الجو, بل محض أرواح شريرة.
مع ذلك لم يغير الطفل وتيرة مشيه, ولم تمنعه صورة الرجل القادم ولا الصور الأخرى للجذام , من أن يفكر في ثمرة مانجا باشتهاء بالغ, بات على يقين معها من أن الثمرة المفكر فيها جعلت منه في نفس اللحظة موضوع تفكير: التقطت بحر اشتهائه, ولن تبطئ في السقوط بين يديه.
ومثل نجم في المدار..
كان الرجل يقترب.."هكذا..أُدن مني أيها الرعب, فلست أتوقع غيرك" قال الطفل دون انفعال..وبات محتما وقوع الكارثة.
صار الرجل الآن حُذاءه..يمنع بعض الشمس المسافر عبر الفروع, ويعد بتفاح مر..هكذا, دون تردد أو إبطاء, مد إليه يدا من حديد, وجعل يضربه بعنف متعذر الوصف..ضربة..اثنتين..ثلاث ضربات..
سقط الطفل أرضا..ونزّ دم.
وبما أنه لم يكن في آخر تجسيد له مجرد عربة يجرها حصان متعب, بل المرجح أنه كان ببرا توقد لياليه إرادة فتك رجيم, فما أسرع ما استل من تحت القميص مسدسه المحشو, وضغط على الزناد بأصابع محترف للقتل..
رصاصة..اثنتين..ثلاث رصاصات..

أنفاس انتظر عائدا من يم كان قد اشتاق إليه مند زمن غابر،في ثناياه عثر على محياه المفقود،تحسس وجهه الملتوي في أعماق ذات مازالت تتشكل عبر صيرورة الزمن. كان الوجه قد غادر صاحبه ذات ليلة بعد أن انتشت ثملة بنبيذ عنب عرصة جدته،ليلة حولت الوجود لقناعات مشروخة تعيد البدايات الأولى للجزئيات ، تنفتح على جنيالوجيا الذات المهووسة بتراكمات القطائع الراجعة في تعاليها الدائم وسموها نحو اللاتناهي ، في شظاياه ضياع الفكر وتيه العقل وجنون المنطق.. يأتيها البحر ليأخذها معه،تأسرها أمواج الريبة ليل نهار، آه من مفارقات السؤال ومن تعايش نجوم الليل مع إشراق النهار . كيف للذات أن تقبل بتساكن عداء الأضداد وتمازج الانشطار ، سواد البياض وانسداد التراخي  تمدد الانصهار المنسكب على مرايا الوجود.
تتداخل أسئلة لغة الصمت المدوي في أعماق الذات بصدد حياة الأشياء التافهة المؤثتة لفضاء الكون،هي هوامش الأشياء وأشياء الهوامش توحدا في نسيان يخلدهما..تسألني عن النسيان؟ قل هي الذاكرة الحافظة للتفاصيل والهوامش والبياض ، لكل ما هو آت يجعلها مهيمنة آسرة للذات وللأغيار،تفصح عن المسكوت المعلن على حيطان الأزقة وأسوار المدينة ،في همسات النساء،أجساد الباغيات ، ترنح المتسكعين،في كتابات سجينة على الأوراق، في هاهنا الآن واللاهنا أبدا ، في مذكرات الأسرى وأغاني المساجين و أوراق عصابية في يد دهاني يؤرخ
للذات بواقعية الفانتزم؛ ما أن تنتشي بلذة الحياة حتى تنمحي في الموت وما أن تكشف قوانين الصيرورة حتى تقذف في عبثية التفاصيل و فوضى النظام.
هو ذا النسيان. إنه الوجود الآن ، الوجود أبدا ، الممكن الوجود في جوهر العدم.

أنفاسجلست إليه في المقهى وكان الوقت أصيلا..يدنو الليل من المدينة شيئا فشيئا.. و تزحف الظلمة لتلفّ العالمين بلباس شفاف يجد منه الحالمون نعيما.. أما من قست عليهم الحياة فالليل في المدينة هاويةٌ.. الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... غادرت الشمس إلى مخدعها  بعد عراك النهار و صار للأضواء شأن.. تنبجس من الظلمة وتلقي علينا ببريق خافت فتبدو الأجسام في مواقعها معتمة بطريقة يهتدي معها الكل إلى البغية.. يختار العشاق العتمة حتى يقضي من شاء مأربه ويروي من ظمئه.. ويبل ريقه بما يطفئ حريقه.. كنت ترى الفتاة كأنها القطة تظهر بعض مخافة ما دامت في العلن حتى إذا صارت إلى السكن سلك الطريق وسال الريق.. واحتبس الشهيق.. أما في دائرة الضوء فلا تكاد تجد سوى الرجال .. ليس لدى الرجال ما يدعو إلى الخوف أو ما يثير الريبة.. وليس في الأمر ما يمكن أن يُدبَّر بليل..بل ليس لأحد من الناس أن يدبِّر.. فقد ذهب المدبّرون جميعا وعمّ الوفاق.. واحتدم العناق..
كان جليسي أستاذي.. جلس وجلست ورحب ورحبت.. عرفته في الجامعة .. في القسم تحديدا.. لم يخف إعجابه بي.. يحتدم النقاش أحيانا بيني وبينه.. وليس لأحد من الطلبة أن يضيف إلى ما نقول شيئا..هو بعلمه وتجربته.. وباسمه.. وأنا بحماستي التي تحملني على افتراس الكتب افتراسا ما عاد لي الآن بعضه..

أنفاس..لم يهتم بالمطر ، الذي بدأ يسقط بغزارة على جسده النحيل في هذه المدينة ،التي فتن بها حتى الثمالة .. مذ صغره  .مدينة الحركة و البطالة  كما يسميها ..،المدينة التي تكبر كل يوم ، لكن هو.. يصغر كل يوم .إنها مدينة المتناقضات ،حسب تعبيره : الكبير يزداد كبرا ، و الصغير يزداد صغرا ، بل غرقا ..
ظل في مكانه ، بقامته القصيرة ، وشعره الأشعث .عدل من جلسته ، بفعل قوة المطر ،فعاد شيئا ما إلى الخلف .جلس على كرسيه الخشبي ، كما يفعل دائما ،منذ مغادرته للمدرسة بسبب مشاكل أسرته .
كان في حدود العاشرة من عمره .رغم ذلك يبدو أكبر بكثير .لكن "الشطارة "لا تقاس بالسن ، بل بالخبرة في الحياة .ليقنع نفسه في النهاية ، أنه في خارج أسوار المدرسة و في أرصفة الشوارع ،على الأقل ، يكون أقرب إلى  كسب قوت يومه ،الذي يدعم به وضعية أسرته المدعمة ..
يرتدي ثيابا رثة ،و ممزقة من بعض الجوانب .هو لا يهمه الشكل :هذا ما يقوله لرفيقه هشام دوما ،رفيقه في الحرفة .. الرصيف حيث هو قابع الآن ينتظر خال من المارة إلا من بعض الرجال  الذين يسرعون في خطواتهم ، غير مهتمين بصيحاته الخافتة أحيانا و الصارخة في الكثير من الأحيان ،من أجل أن يتوقفوا ولو لحظة لتلميع أحذيتهم .
-آسي ..أرا سباطك ..أرا تسيري ..