أنفاسلم اسمع شيئا يمنعني من الوصول إلى البيت المهجور .
يتقول الاهالي ، بأقوال وقصص شتى حول البيت القديم .. لكني لم اُمنع  صراحة من احد بالوصول .قررت لملمة شجاعتي والذهاب بمفردي الى البيت الواقع في أقصى الطرف الجنوبي من المدينة .
سكان المدينة ، الكبار منهم والصغار ، يتكلمون بشيء من الرعب وبعض الخيال واللامعقول مما يحدث في البيت ليلا وخاصة في ايام الشتاء الممطرة .
احدهم ، عجوز جليس المقاهي ورائد الحكايات الخرافية المهولة في المدينة ، ضحك علي وأنا اعد نفسي للوصول الى البيت واقتحامه . ضحك بشيء من الهزx وأنا اخبره نيتي .  لم أبال بشيء من هذا لأني بصراحة تامة لم اسمع ما يمنعني وكل الذي صدر منهم سوى قصص لإحداث من خيالهم . ولم اسمع احدهم يردعني من الوصول .يبدو ان الأقاويل والإشاعات تنتشر كالنار في عيدان القش . ولكني ضحكت حينما سمعت قصة غريبة ظلت في مخيلتي فتحولت ريبة الاجتياح الى ابتسامة مفتعلة مني ..
يقول العجوز :
بومة كبيرة تخرج ليلا من كوة في سقف البيت وتعود بطفل او طفلين . بعد سنوات يتحول الأطفال الى طيور كاسرة .

أنفاسإهداء : إلى "غزة" كل الشعوب العربية .
رأيت العقل يسقط أرضاً ..
ومن جوف سؤال الثلج أخرجُ رملاً بزهرات الرمان ..
 يطاردني شبح كان أخي ، هو اليوم يكتب تاريخ سيف لفظ عربي غريب ، عرفته في الأمس البعيد ، منذ كان طفلا يحبو في ظلمة الزقاق ..

هذا العدل شقيق البحر ، الذي يغذي جياع أرصفة الميناء .
 فلمَ اعتقلوا العقل داخل زنزانة لفظ بليغ ، هجرته طيور المعنى ، منذ خروج الماء ، من دائرة الجدب إلى ساحات الخصب ؟
لمَ يصرخون في وجهي أن أكون أجوفاً كالليل ، و ينحني ظهري الأخضر للرياح حتى الانبطاح ، كلما رأت عيناي مملكة اللفظ قادمة ؟
لمَ يحاولون أن يسرقوا أنفاسي ، كلما شاهدوني أتجول وحيداً تحت أقواس أسواقهم ، ممتطيا صهوة بعض عناصر البحر؟

أنفاس- انظر هناك يا سانشو ، ينبغي أن أصل إلى قمة هذا الجبل .
لكن سانشو لم يتسن له أن ينظر إلى حيث أشار دونكيشوت ، فقد كان مشغولا بربط الأمتعة ببعضها .
- كل الفرسان العظام صعدوا إلى قمة الجبل وضربوا صخرة القمة بسلاحهم.
لم يجبه سانشو  بل غطى الأمتعة بمعطفه ودفعها في كهف صغير لأن السماء بدأت تمطر.
حمل سانشو دونكيشوت فوق ظهره وبدأ يصعد الجبل .
- كنت أعرف أن هذا اليوم سيأتي، الآلهة لا تخدع الفارس الأصيل.
طلب سانشو من الآلهة في سره أن تمنحه القوة وقد بدأ ثقل دونكيشوت فوق ظهره يزداد كلما تقدم في صعود الجبل.
-  وأنا أصعد يا سانشو أعرف أن عقلك الصغير التافه لن يجعلك تفهم سر المجد الذي أسير نحوه.
فوق القمة انهار سانشو وتمدد بعد أن أنزل دونكشوت الذي ضرب صخرة القمة بسلاحه وهو يقول:
-  لابد أن الآلهة ياسانشو تكتب أن دونكيشوت  العظيم قد بلغ قمة جبل الفروسية وضرب صخرة القمة بسلاحه.

أنفاسيستحيل أن تجد من يجيبك بحقيقة الأمر، أو بحقيقة كيف وقع ذلك ؟ ولماذا هنا بالضبط ؟ وكل محاولة من هذا القبيل هي جهد مجاني يقبض فاعله خسارته مسبقا.
ولكن الحدث الذي وقع ، ويستحيل على من حضره وعاينه وعايش مراحل وكيفيات حدوثه، أن يشك في وقوعه إلا إذا مسه مس ؛ هز ركنا من أركان وجوده هزا عنيفا ، وألحق بمداركه تلفا أصاب أسس جدرانها الضابطة.
يستحيل على العاقل أن يفسر كيف وقع ذلك، ومن هم أبطاله ؛ وما هي دواعيه و أسبابه، ولكنه وقع بالفعل في صبيحة ذلك اليوم ، كانت صبيحة  مشرقة ، مشعة ، دافئة تمنح الكائنات إحساسا بمتعة تتغلغل إلى أعماق الأعماق ، وتنساب بين حنايا الكون تفتح لها طرقا حيث يصعب على الأحلام أن تمد أرجلها ، حتى ليخيل إليك أن هذا اليوم سيكون له شأن كشأن الأيام القليلة التي حفرت التاريخ وأطرت توجهه.
 كان الاستمتاع بروعة الصبيحة باديا على الجميع، الواعي ، والبهيمة ، والنبات بل حتى مياه النهر المجاور كانت منتشية تبث رذاذ المن والسلوى، توزعها يمنة ويسرى  مندفعة على سجيتها ؛ صافية رقراقة تناغي ضفافها  لاغية كأنها تخاف أن تفضح أشجار التوت  سر نشوتها.

أنفاسمـهــداة إلى : وحـيـد حامــد
يرتعش جسدي تحت رشاش الماء البارد .. يتناهى إلى مسامعي آذان الصلاة الوسطى ...
يتجه عبد الله ، جارنا الكهل الملتحي إلى المسجد وحيدا .. تعكس ملامحه صفاء دواخله .. تراودني ابتسامة شقية حين ترن في أذني عبارة أحد ركاب الحافلة ، متسلقي الأكتاف :" لم لا تتزاحمون هكذا في المساجد ؟ ! "
*    *    *
تحت جنح الظلام ، وفي خلوتنا السرية .. يكون الضحك سابعنا ، وصلاتنا الوحيدة .. يتساءل أحدنا ضاحكا :
لماذا يرهق جارنا عبد الله نفسه في الذهاب إلى المسجد وحيدا ؟ لم لا يصلي كالآخرين في أحضان زوجاتهم فقط ؟؟
أشفق على زوجته .. المحرم عليها أن تطل من الشباك .. هذه المهرة لا يستحقها ناسك رهباني ... يا تارك الصلاة !
كل همه الوضوء الأصغر وينسى الوضوء .. الآ..خ .. ر !!
تلعلع قهقهاتنا..
من منكم يعرف متى تذهب إلـى الحمام كبـقـيـة النساء ؟!

أنفاسأكمل سذجان تعليمه الجامعي بكلية الطب أخيرا، و توج طبيبا بعد رفاق فوجه بسنين. اختصر الإجابة على ملاحظات الأساتذة المكلفين بمناقشته في أطروحته في إذعان و ارتباك،  و أدى القسم الشهير. أقام أهله الذين لم يفهموا شيئا مما دار في المناقشة الاحتفال برحاب الكلية على شرف أساتذته و الحاضرين، تغمرهم نشوة حيازة ابنهم اللقب الكبير:"الطبيب" ! الذي يعرفون أنه ظل لحد زمن جد قريب حكرا على أبناء أسر بعينها، وأبناء العشيرة و القبيلة و الحي و المدينة إما معلمون أو ممرضون أو عسكر أو مستخدمون في أجود الحالات، عاطلون منحرفون و عالات على أسرهم في فادحها. و استكملوا الاحتفالات بمجرد العودة إلى مدينتهم ليعلم الأحباب و الحساد و الأعداء بأن العائلة اليوم هي عائلة "طبيب" !. ثم هدأت الأحوال و إن كانت الأم فاضت منها و عليها علامات النشوة حد الطيش، و كذلك الأب و إن بدرجة أخف، فلا حديث له بعد اليوم إلا عن الطب و جلاله و الطبيب و هيبته...، بل و مكانته و عظمته. أما سذجان، و بعد أن استعاد قسطا من توازنه بعد طوفان فرحة الانتصار أخيرا، فهو عمر بكليته، لم ير أمامه غير أمر واقع واحد لا ثاني له: انتظار توظيفه. لم تراوده أبدا فكرة متابعة مشوار التخصص بأرض الوطن ما دام ذلك من نصيب المتفوقين طيلة سنوات التكوين، و هو على النقيض تماما من ذلك.

أنفاسأبى ما عاد.
تلفظني الحافلة,أو تلفظ ما تبقى منى على الأصح.
خائر القوى..رئة ملأها الغبار ودخان السجائر الرخيصة تلفظني بعراء موحش, لكنه اقل عذابا من تلك الحافلة اللعينة ...ضجيج يعلو كلما اهتزت,دخان يكاد يفقأ المقل يتسلل من الشقوق كلما اختنق صوت المحرك,كلام يزداد بذاءة كلما احتدت المشادة .تلفظني قطعة من العرق والغبار...اركن إلى جدع شجرة يتمها العطش,وخدش قليلو الحياء لحاءها بعبارات تجرؤوا,هم العابرون في خلوة مع أنفسهم,أن يخلدوا وهمهم على لحائها الجاف.
جلست أملأ صدري بنهم,ارقب بنظرات متعبة وجوه من مر بى ,على قلتهم, تلمست هاتفي المحمول ولجت بوابة الرسائل القصيرة"  عزاؤنا واحد , الدفن غدا"  غزاني احساس مرعب بالفجيعة.
أبي ماعاد.
رفعت بصري,غيوم تتمرغ كدببة بيضاء,تتمزق وتندثر كالضباب...
كان العالم يمتد أمامي عاريا وموحشا صامتا حد البلاهة...

أنفاس"كثيرون هم الرجال ولكنهم ليسوا سوى ضجيج"
                                         كولالة نوري
 
المقهى: مقاعد إيطالية وأعمدة من رخام..
و من خلف الواجهة الزجاجية الصقيلة, لاح له عاج الذراعين البض لفتاة عشرينية مستجيرة بركن هادئ.
"هذه  مقهاي لهذا المساء"
غمغم في مكر ظاهر, وهو يترجل عن السيارة ويوقع أولى الخطى باتجاه دفء الداخل.
 المقهى: أناقة باذخة, وجو مشبع بروائح متداخلة , هي مزيج من رائحة الخزامى ودخان السجائر الشقراء ولهاث الغابات القصية .ألقى نظرة عجلى باتجاه فتاة الركن الهادئ , وتحسس حافة طاولة مقابلة لصباحة وجهها :
"ها قد انطلق السهم من عقاله , ومن أعطاف الذات الموتورة تند صيحات الجد الأول لصيادي البراري."
علبة السجائر الأمريكية الزعراء, الولاعة المذهبة, الهاتف المحمول آخر طراز, والمفتاح الأوحد للسيارة الراسية بالخارج (الأكسسوارات المساعدة التي حلت محل القوس والنشاب)..وضع الكل على الطاولة, ثم غطى جنبات المقهى بنظرة جوالة:

مفضلات الشهر من القصص القصيرة