على نفس الرصيف ,الذي لم يتغير سوى لون طلائه,إذ يبدو احمراره يانعا...قرب نفس العمود الذي تتراقص ألوانه ,وتحت نفس النخلة التي ازدادت ثباتا...الآن أقف.
كان ذلك منذ ثلاثة عقود مضت وكان الليل قد أعلن ميلاده خلسة,عم ضباب كثيف,أناس في حركتهم أقرب إلى الأشباح,تلك التي أسندتها ظهري ,دمع سعفها قطرات بللت الرصيف...
ميزتها بين الأشباح لسرعة خطوها فقط.معطف جلدي أحكمت إغلاقه وسروال قطني اظهر قوامها الرشيق وملامح تشع منها حيوية نادرة.
" تأخرت" خرج صوتها دافئا وأليفا,وبسطت يدها الناعمة لتدفنها في كفي الباردة كالعادة ,أنعشني عطرها لما لامستني صفحة خدها...
" لا, لا لم يبدأ العرض بعد."
وامتصنا الضباب...
صارت تحدثني عن مضايقات أخيها وأسئلة امها المتكررة عن دواعي الخروج كل يوم خميس في نفس الموعد...وعن محاولاتها إقناع والدتها بدورها كعضوة بالنادي السينمائي.
توقفت الموسيقى العذبة التى كانت تنبعث من جنبات القاعة,كما توقف التقاطر البطيئ لوجوه اعتدنا حضورها وسلمنا الضباب للظلام...
" اتبعاني" همست بصوت المضيفات المتمرسات.
قلت أحدث نفسي " لقد ألفت الظلام ! وإلا كيف استطاعت أن تميز بأننا اثنان؟
كانت تنير طريقنا كي لا تباغتنا أدراج القاعة,توقفت ووجهت ضوء مصباحها الخافت نحو كرسيين فارغين.ساعدت رفيقتي التي أعياها المشي على أطراف أصابعها كي تجلس, تحسست قطعتين نقديتين ,دسستهما بخفة في كفها قلت "شكرا". بنفس الصوت الذي به كثير من الغنج ردت " العفو"
و انطفأ المصباح...
هناك على قدم الشاشة,التي توهجت صفحتها بضوء كاشف منبعث من الأسفل,ووسط دائرة ضوء وقف رجل نحيل يقدم فيلم الليلة بلغة سلسة لكن بنبرة حزينة,حزينة جدا.
" الآلة الجهنمية كيف تحول معها إيقاع الحياة !؟ أي أفق ؟ما...."لم يطل الحديث " فرجة ممتعة".
بدأ العرض ,عنت الرؤوس واقتربت مني أكثر...في الظلام تكبر الجرأة...
وسط ضباب ازداد كثافة,كنا نحفظ دفء القاعة بالتحامنا سألت "هل تغير الآلة ما استقر في القلب؟" أدركت بحكم الذي بيننا ما جال في ذهنها وقلت " لن أنساك".
ضغطت بكفها الناعمة على أطراف أصابعي و...غابت وسط الضباب...
على نفس الرصيف,أسندت ظهري إلى التي ازدادت شموخا وانطلق سعفها يشم الريح,وضعت ابني عن كتفي ومسحت حبات العرق التي نزت على جبيني.تذكرت تلك الموسيقى الهادئة ,وسط هذا الصخب ,والتي كأنها كانت تعزف لنا... صوت صاحبة الضوء الخافت الذي قادنا وسط الظلمة...الرجل النحيل الذي قدم فيلم " الزمن العصري ".
التفت إليها,نفس القوام ,نفس الملامح وقد علاها احمرار جراء شمس حارة,التقت أعيننا والتفتنا حيث الجدار الزجاجي الشاهق ,تتكسر عليه أشعة منتصف النهار,وكالات أسفار... متاجر.. وأدراج متحركة ...
سلمتني قنينة الماء وعلقت ساخرة " الزمن العصري..."
دفنت يد صغيري في يمناي ورحت أحكي له عن عرس كان هنا...
"كان يقام هنا كل خميس,عندما يعلن الليل ميلاده ,عرس...كنا نحضره أنا ورفيقتي ...أمك".