أنفاسفي ذلك الفصل الدراسي الفقير الذي يلوذ بقدم الجبل، عرض المعلم الأشيب على تلاميذه أن يشاركوا في كتابة قصة جماعية عن رجل غني سعيد قدم لقريتهم البائسة لينشر الفرح والمحبة.
قال المعلم للصغار وهو يفرك يديه باحثا عن دفء:
- لنصفه أولا.
فكر أحد التلاميذ في لباس الرجل ثم قال:
- إنه يرتدي وزرة بيضاء.
هم المعلم بالكلام عندما اندفع تلميذ آخر قائلا:
وهو ليس من قريتنا، شعره أبيض كالثلج وبيده قضيب من الزيتون.
خلع المعلم وزرته البيضاء ووضع قضيب الزيتون وراء مكتبه المتهرئ وقال:
هذه ليست أوصاف رجل غني، صفوا لي أملاكه.
تحمس أحدهم فقال:

أنفاسأقبل نحوي مندفعا كالملسوع، كان يعرف أنني أكرهه أو قل على الأقل كان عليه أن يعرف بأنني لا أستشعره وأتجنب دائما الالتقاء به وبالتالي تحيته أو مصافحته ، كنت أشعر أنه نجس باستمرار، ليست بالضرورة النجاسة المتفق عليها ، ولكنه كان نجس الروح والماضي والسيرة ، كنت أشعر أنه هو النجاسة ، وبالتالي كان يستحيل عليه أن يتطهر، طبعا كانت لي مبررات  تجلس عليها قناعاتي، ولست مضطرا إلى إبدائها ، ولكن ذلك كان موقفي منه.
 كان ثقيل الظل والروح ، يحمل اسما محليا يعني "المنبوذ" سماه والداه بذلك في اليوم السابع من مولده  دفعا للعين وحسد الحاسدين ولكن الله أعطى للاسم ذاتا تناسبه.
- كنت أبحث عنك منذ عدة أيام ؛ دلوني على الطريق الذي تسلكه إلى مكان عملك، فكنت أجلس على رصيفه ، وقد أمسكت بك اليوم ، قال ذلك وهو يشد على يدي بقوة كأنه يخاف أن أفلت منه وفي نفس الوقت كان منهمكا في تقبيلي يمنة ويسرة كأني أحد أقاربه غاب عنه أمدا طويلا .
- قلت : خيرا إن شاء الله.
- قال: كل الخير، ولن ترى مني إلا خيرا، لقد بحثت عنك لأنني أحتاجك، لقد ظلمت، احتقرت.
- قلت: وما شأني أنا؟‼.

أنفاسالشارع واسع ونظيف,على طول حافتيه تراصت أشجار شذبت أغصانها بمهارة فائقة فبدت كشريط أخضر ممتد لتتعانقا قرب قوس شامخ ...
الحركة يحكمها انضباط دقيق,لا زعيق منبهات , ولا ايادي تتوعد مخترقة النوافذ بألفاظ بذيئة أغلب الاحيان...كما هو حال شوارعنا الضيقة.
المطر غزير ,لم يتوقف منذ البارحة ,تمنيت لو ان الله أرسل هذه الامطار الى أهل قريتي,الذين يسندون الآن ظهورهم الى حيطان حجرية,تستلذ أجسامهم الباردة دفء  أحجار خزنت حرارة النهار,وجوههم بسواد الارض وشحوب الزنابق...
اشتقت أن يبللني المطر,أن أغتسل,أن أقيس مدى قدرة القطرة على الاختراق فهمت دون مطرية,الامر الذى ادهش من صادفنى ـ على قلة انتباههم للآخر ـ " يا لهذا العربي ,لم ينسلخ عن صحرائه ..."
تحت غزارة المطر,تذكرت البرك التى بللتني بالكامل...
تذكرت نصوص القراءة الابتدائية التى كانت تتساوق بشكل مريع و ومظاهر فصول السنة...
فقراء ابناء قريتي...حتى حجرة درسهم...اليوم أفقر من الأمس...
ـ زياد...زياد...تناهى الي اسم لم اسمعه منذ ثلاثين سنة...
الصوت لم يكن غريبا ,لكن الأمد طال والاصوات اختلطت... 

أنفاسألقت نظرا كليلا إلى الخارج فصدتها سماء ثقيلة كالرصاص وصمّ أذنيها هدير العربات وبدت ساعة بيغ بان  منتصبة بقدّها الفارع كعملاق أثري مشغول بمضغ الزمن.
شعرت بتكاسل في دقات قلبها وبمغص مزعج يكتسح حشاها ... ماهذه السماء التي عادتها الشمس منذ زمن بعيد ؟ تراجعت إلى الخلف وأغلقت النافذة تاركة الستارة الزرقاء الثقيلة تحجب عنها السماء الضيقة الملبدّة وجالت بعينيها المغرورقتين في بهو الدار...بدا وجه أمها في الصورة المعلقة مشرقا بوشمه الأخضر الجميل وحنانه الغامر وبدا أبوها بشاربه الكث وجبّته الفاخرة ومسبحته القانتة يردد في أذنيها المعوّذتين ويمسح على رأسها بيديه الحانيتين كلما أصابها فزع.
دلفت إلى المطبخ ..رائحته ماسخة وعلبه باردة وقدره المعدني يغلي في صمت ، لا ثوم يتأرجح في السقف ولا فلفل أحمر يزين ناصية البيت ولا بهارات تغزو الأنف فتزو بع الكيان ، لا مهراس يغني في فرح ولا مطحنة البن تزغرد فرحة بقدوم رمضان...لا خبز يضوع في فتنة يغري بملمسه الساخن وحبات الينسون والشمر التي تتلا مع على إهابه الفاخر..
كم الساعة ياترى ؟ ومن سيشاركها هذا الإفطار الحزين ؟ جرت إلى الحاسوب ونقرت بضع نقرات فظهرت لها على الشاشة مواقيت الإفطار في كل أصقاع الدنيا، ظلت تسحب الفارة حتى استقرت على تونس.... تنهدت بعمق وأغمضت عينيها في حنين مدمّر...فجأة رأت نفسها بضفيرة طويلة وفستان زهري راقص ترقب مع المحتشدين ظهور الهلال.

أنفاسومن الحب ما قتل ..!
عقلي يزنُ جبلا،
هزه طيف ُ صبية، ألقت القلب في السفح .
لفـّـــــــتْ ذراعي جذع شجرة في حلكة الليل، وانتظرت إطلالة القمر..
والتفتْ حولي الأضواء، البنادق، والعصي..
دارت المطابع:
" انتشال جثة مراهقة من النهر
القبض على شاب متنكر في زي امرأة..
محاكمة..
 اعتراف..
إعدام إرهابي خطط لتفجير منشأة آهلة بالسكان".

أنفاسأول الصباح,
هدوء يسود القرية التي تتثاءب لتطرد النوم عن عيونها. خرجت من البيت لأمارس عادة دأبت على احترافها منذ زمن ليس بالبعيد. منذ عقدت العزم على أن أتمرد على مجهوليتي في هذا السجن الذي يعصرني بين أحداقه. هكذا كنت أسير لمسافات طويلة وأرتاد –أحيانا- خارج القرية الموغل في الشحوب.
تباشير يوم قائظ بدأت تلوح بعد أن أذنت الشمس عن قرب اعتلائها عرش المكان. بعد ساعات أصبحت القرية فرنا حقيقيا, وفي الأفق غمامة تتقدم على استحياء, تخب خطواتها على مهل لكن بثبات.
أسير, صفحة السماء أصبحت أقرب إلى الرمادي. شيء من رمل يخالط هذا الحر يهاجمني. بعد قليل أصبح وقع الرمل أشد وصرت أستقبل كميات منه بسخاء. أبصر الناس يسدون أفواههم وأنوفهم بإحكام ويهربون من وجه الرمل. أنا الوحيد الذي كنت أبتلع الرمل والصهد مع شيء من الذباب, أبصرهم ولا يبصرونني, لا أحد التفت إلي وأنا لا أسد أنفي وفمي.
رفعت من إيقاع سيري. الآن أنا أجري كأنني هارب من شيء ما. فمي مشرع مثل بوابة قديمة, ألهث ككلب مطارد؛ تنتشر الآن كلاب ضالة في كل مكان. أجري, أجري, أذني تتلقف صوت لهاثي الذي يكبر ليغطي المجال من حولي. عرقي يغرقني والرمل الدافق يتنزل مثلما سياط هذا الحر. الشمس تطلق رصاصها من وراء الغيم القابع في الرماد.

أنفاس" ارحل، ارحل ما دمت قد رضيت بهجري
وهذي جبال الريف من حولي؛ فلمن تتركني ".
  ( أغنية ريفية ) .

جاء الليل سريعا، وجاء معه هدير البحر من بعيد .هدأ الخلق وأوت الكائنات إلى أوكارها. أنا مضطجع في الحجرة المستطيلة ، في بيتنا الطيني ، متكوم في غطاء صوفي خشن . أراقب ظلالا واهنة على الجدران ؛ تمتد وتقصر . أحذر أن أغفو فأحرم فاكهة هذا الليل. أذناي على الحائط أتلهف أن أسمع وقع خطواتها من خلف البيت . فقط يأتيني صوت أمي تستنشق وتستنثر . تدفع الباب وتدخل وهي ترتجف . تهرول نحو المجمرة في أقصى الحجرة . تفتح فخذيها للاستدفاء ولسانها لا يكف عن التهليل والاستغفار . الريح ما زالت تموء، وأنين يمرق ، من حين لآخر، من شقوق الباب والنافذتين الضيقتين .
  - لماذا لم تأت ؟ ما الذي أخرها ؟

أنفاسكنت كلما اقتربت من نقر أصابعي فوق الباب يزيد ارتباكي وقلقي. حرصت أن يكون الدق خفيفا وأقل من لسع البرد في ظهري.
قلت: سأحكي كثيرا..
لملمت طرفي السويتر وأقفلت السوستة إلى أعلي قمة في رقبتي..
 كدت أفر إليها لحظات كثيرة بعد هربي من كل سنوات عمري الماضي.
 أعود إليك حد الأحلام والدهشة والتفاصيل الذكية الصامتة أو هروب من حالة الجمر والتوهج في سراديب عتيقة . أترصد فحيح اللحظات وأخبو مع تراكم وعيي بالسعادة المطلقة، وأجيج الانتظار الذي يأخذ شكل الانتحار أحيانا.انفتح الباب وزام.
مساء الخير.
جاهدة كانت تحاول إخراجي من إعياء الذاكرة، أهرب من تقمصي لحالة الرجل البارد .ومن قبض الانتظار في صحراء التذكر
ملامحي تغيرت عن أيام زمان ،شعر ذقني الكثيف نابتا دون نظام وهي تضم أطراف القميص الحرير، تعصر التشابه الممكن.أنتقل للخواء وأخفض نطري للأرض
الأستاذ محمد موجود ؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة