أنفاسأقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء والأشجار، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثال من نحاس لرجل يشهر سيفاً، ويقف فوق قاعدة من حجر مطلاً شامخ الرأس على حديقة مبنى.‏
واجتاحت الاستغاثة تمثال النحاس مرة ضارعة، ففقد صلابته شيئاً فشيئاً، ثم تحول إلى رجل يمشي ويتكلم ويغضب ويصرخ.‏
ولقد مشى ذلك الرجل في الشوارع الخاوية المتروكة لظلمة الليل، ولكنه كف عن السير لما اعترض طريقه حارس ليلي، وقال له بصرامة: "قف.. ماذا تحمل؟".‏
قال الرجل: "احمل سيفاً".‏
"-ولمن السيف؟".‏
"-السيف سيفي".‏
"-وهل السيف تفاحة أو برتقالة؟ ألا تعلم أن السيف سلاح؟".‏
"-أعلم طبعاً".‏

أنفاسمسبحة من الذهب الخالص تدور حبة حبة  بين أصابعه المرتعشة  ، وفي الرسغ ساعة يمشي بها الوقت على إيقاع أحجار الألماس .. الجسد تمثالٌ فرعوني خرج للتو من مشرحة الآثار
 والوجه مشدود بعمليات قص وشد  لا تحصى ولا تُعد .. تعلقُ البسمة على شفتيه ، تتعثر في النطق الكلمة ، فتضيع بين همهمة وغمغمة  .. جفناه يحتاجان مشابك غسيل لرفعها وتركيز نظرات العينين ..
يفوح منه عطر البترول ، ويرتدي بذلة فاخرة بلون النفط  ..!!
سفير فوق العادة مع نخبة أصدقاء يجلس في مطعم الملهى الفخم على رأس طاولة عشاء عمل ، تزينها  (وردة جورية ) وحيدة تحمل سحر الشرق ..!
أطرحُ جدوى بنود مشروعٍِ استثماري  ، طرتُ من أجله نصف نهار .. يجيبُ بكلمة مبتورة وبغثيانٍِ ،كأن الأمر لا يعنيه ، ويتابع نائبه الحوار..
يعلن مقدم السهرة وصلة الغناء والرقص ، فيرفع سعادته يده ببط ء ٍ ليوقف العمل ، ويبدأ السهر ..!
يميل صديقي على أذني :

أنفاسكانت وحيدته، حنون وطيب لا يبخل عليها بشيء الأهم أن تدرس و تنجح و أن تتخرج حينما تكبر لتحقق أحلامه.
هي طفلة صغيرة ذكية بشوشة  وطيبة محبوبة ، فخورة بأبيها هو صديقها وحبيبها كان يرد عنها الظلم والأذى خاصة من طرف أمها التي كانت تحب أخاها أكثر منها فكانت الأسرة الصغيرة عبارة عن صراع دائم بين فريقين كل يحاول من جهته أن يفرض ذاته ووجوده فكانت هي مدللة والدها و كان أخوها مدلل أمها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فكل ما كان ينقصها من حنان الأم يعوض في الأب فارتبطت بأبيها ارتباطا قويا كان يناديها بعصفورته طالما خبأها بين ثنايا سلهامه فكانت تحس بدفء الحضن فتستسلم لنعاس عميق.
ففي يوم من أيام الدراسة قرر أستاذ الفرنسية أن يكون موضوع درس الغد هو تحضير وجبة بالبيض والثوم و المقدونس، لا أعرف أي بيداغوجيا هذه التي يعمل بها هذا الأستاذ الذي كلف التلاميذ بإحضار البيض وكل لوازم الوجبة .
خرجت الطفلة  من المدرسة و تركت وجبة الأستاذ والدرس خلفها حتى صباح الغد حين اقترب موعد الذهاب إلى المدرسة فتذكرت الطفلة درس الأستاذ فطلبت من والدتها نقودا لشراء بيضة لكن الأم لا تملك فلسا فذهبت المسكينة تجتر أذيال الخيبة و تتخيل كل أنواع العقاب من الأستاذ و الاحتقار من التلاميذ .

أنفاسكانت البارحة أمي هنا، كانت تجود لكل منا بما يشتهى، وكان ما تمنحه عسلا مصفى؛ لوجهها كانت تتفتح أزهار اللوز،والتفاح ، والورد والأقحوان . ولأجل عينيها كانت تتنافس جميعا فتبدع في تشكيل الهيئات والألوان.
وداهمتنا أحذية كثيرة غليظة، شديدة الوقع، قاسية؛ تتقاطع، تتوالى أصوات وقعها في الخارج، كانت تدوس الأزهار التي لم تكن تراها.
قفزت أمي من فراشها وأمسكت ساطورها الحاد، واندفعت نحو الباب الخارجي الذي راح يئز تحت ضغط العسكري الذي كان يريد اقتلاعه، سمعنا ضجة ارتطام جسم ضخم بالأرض، وبعد لحظات عادت  أمي وقد صارت شعلة من نشاط وبيدها ساطورها يتقاطر دما ،تمترست خلف باب غرفتنا ، أمام أعيننا ، دوى انفجار تبعه انتشار نور لامع كاشف تسرب من خلال فتحات الباب حتى تصورنا أننا في منتصف نهار مشمس ؛  هدر الرشاش ، وكان الرمي مركزا على الباب الذي كانت تقف وراءه أمي متحفزة ، تمسك ساطورها الحاد القاطع بيدها  وقد اتخذت وضع الانقضاض ،تنتظر ولوج الجندي  الذي رماها من فوق القرميد فأخطأها وقفز إلى ساحة الحوش ، وكانت تتوقع أن يندفع خلفها  فتعيد معه العملية التي قامت بها في الباب الخارجي مع زميله.
هدر الرشاش المصوب على بابنا للحظات  ثم سكت ، بينما واصل رشاش آخر هديره في  الخارج لكن في اتجاه  ثان، وعلا الصراخ  ، وتوالى انفجار القنابل الكاشفة  فزحزح الليل عن مكانه  ؛ ودارت حرب انتقم الظلام فيها متحديا  الجميع  فابتلع في جوفه كثيرا من أسرارها .

أنفاس1 - ما أتمنى وإن كان بدون فائدة ترجى، أن أحوزه بالنهار، أو على الأقل أن أحتفظ بترقرق ظلاله الفردوسية خلال اليقظة تحديدا، هو تلك اللحظات المجنحة التي تتاخم غفوتي، حيث الليل يفرد على جسدي المحدود برنوسا سحريا أحلق به في ضجة التوليف بين المتخالفات. ضجة غرائبية تتموقع بين الحقيقة والوهم ، بين الواقع والمحتمل، بين الحياة  والموت . لا أعرف بالضبط كيف أسميها ، لكني أحس عميقا أنها لحظات عصية وندية لو أستطيع استعادتها في اليقظة لحكيت لكم أشياء مدهشة ومزدحمة.
2 - أقرر أن أكتب أوبخ نفسي وعندما أكتب أخاف.
3 - ما هذه الخطابات اليومية المدثرة بالتبريرات لمخلفات هزيمة غير متوقعة؟ أتساءل فعلا. متى نتمكن من إنتاج خطاب لا تسلل إليه المسوغات الخرقات ونعلنه بشجاعة؟ ثم كيف نسعى إلى تبطين اقوالنا وأفعالنا بشتى الأعذار في سياقات الجد، ونتخلى عن الأعذار ، إياها في سياقات الهزل؟
4 - لشد ما يفور عطشي إلى الثرثرة عندما يحدث أن أجالس أولئك المعلقين في ربطات أعناقهم، المعتقدين أن دليل الحكمة هو الصمت. آنذاك أشعر أنني استفز تواطؤهم وأحاصر سيولتهم الطبقية الممجوجة.
5 - ألا يجوز أن نفتح قوسا لديكتاتورية الوضوح بعد أن صرنا نفقد أدنى حقائقنا حتى في أبسط أشكال التواصل الاجتماعي؟ أتساءل وأنا قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع بأن ديمقراطية الوضوح لم تنجب إلا اللعنة أو تهمة الوقاحة والجلافة.

أنفاسلا أحد في المقهى غيرهما، الجو دافئ والسماء مزهوة بصفائها.
لم تسأله عن شيء، اكتفت بالنظر إلى عينيه الصافيتين...وهي تضع قطع السكر في الفنجان...
 خرج من صمته وقال بما يتناغم مع الجو الدافئ والسماء المزهوة بصفائها:
أحبك.
لم تجبه، إذ في نفس اللحظة التي رفعت فيها بصرها إليه، انحدر من الزقاق عشرة زعران مدججين بالرشاشات وطفقوا يرشقون المقهى بالرصاص مكسرين الزجاج والصمت و...
وماذا بعد؟
 أمامها،  كان الرصاص قد هشم جمجمته ونز خيط دم فوق الطاولة و...
وماذا بعد؟
حركت قطع السكر في الفنجان، رشفت حسوة وهي تسحب نفسا من سيجارة أشعلتها بهدوء وهي ترنو إليه و...

أنفاسغادرت البيت مستعجلة. لم أكحل عينيّ، ولم أغط هالات التعب بماكياج متقن كعادتي.. كان يوما ممطرا، باردا.. ارتديت ملابس دافئة سوداء لكنني تعمدت وضع منديل زهري على كتفي ليكسر كآبة الطقس..
كان قريبا مني.. لسبب ما شعرت به. أحسست به يتربص بي في الشارع. لذا لم أعبر مباشرة. . اقتربت من نهاية الرصيف .... لست ادري.. لم يعد هناك مجال للتقدم أكثر، عبرت... وحينها واجهته، اختطفني ...
                                  ***********************
مددتُ أصابعي أمامي، أعدها، أتأكد من سلامتها..  فتشتُ عن باقي أعضائي.. وجدتني سليمة، سالمة.. أكثر من الضروري .. عندها اكتشفت أني اثنتين ؟
... تحركتُ باحثة عن أطرافي، بقيت من تشبهني على الأرض. وقفتُ، ولم تفعل. انحنيتُ فوقها، حاولت أن أحركها، لكنها بقيت جامدة كحجر، لامستُ جبينها.. شعرها كان مسحوبا للخلف تحت جذع شجرة وتحت رأسها امتدت بقعة دم حمراء!
                            ******************************
جلستُ مرتعبة. لم أشعر ببرودة الأرض ولا بالبلل. الريح بدورها لم تبعثر شعري كعادتها. نظرتُ إليّ مرة أخرى.. لم أبدُ بشعة.
كأنني مستسلمة للحظة تعب على الإسفلت. يدي اليمنى ممتدة على الطريق بينما انحسرت الأخرى في وضعية غير مريحة تحت ظهري، حاولت أن أفلتها دون جدوى.

أنفاسفي مدينتي النائمة بحضن الضفة اليمنى لنهر '' سبو '' ، تبني اللقالق أعشاشها فوق أعمدة النور المعطلة ، لهجرتها موسم معلوم بين الشتاء والصيف ، نتهامس ، تؤذن بربيع محتمل في هذا العام الأغبر !! أراها فتكبر بداخلي رغبة الصعود إليها ، أما السواد المحيط بالرقاب ، فسرعان ما يتلاشى خلف بياض ناصع يتماوج أمام عيون تعبت من بسط السراب على إسفلت داكن .
في الطريق إلى المدرسة، لم أنشغل سوى بردة فعل صديقي المتدين، كعادته سيرعد ويزبد، بعد العلم بخروجي عن جماعته ممن أضربوا أمس.
في حالات روقانه، يحلو لي أن أذكره بتمييزه الجميل باستمرار، بين إضراب المؤمنين وإضراب الكفار، قاصدا بالطبع ما تعرفه الساحة النقابية من اختلاف في المواقع على أساس الاعتقاد الديني، بعدما كان الأصل في التفريق على أساس إيديولوجي بين يمين ويسار، الله يرحم أيام زمان، أصارحه بانكشاف اللعبة التي بدأ يجربها حزبه؟ لكنه يبقى لطيفا وديعا في الحوار.
ربما أجدد له التذكير بيأسي المطلق من كل المسرحيات غير المتقنة الإخراج ، لم يخفف من تهيبي من مواجهته ، غير انشغاله ربما ، ببيان الحكومة حول تفكيك شبكة من إياهم، كنت موقنا أننا في النهاية سنضحك على الحدث، كما سخرنا ذات يوم، من تفاهة باشا المدينة، حين أقدم على تعليق مؤذن الجامع، بدعوى وجود سلاح في البئر الذي تقوم عليه الصومعة، ضحكنا لأن البناء المقام، كان قد شيد قبل ولادة المؤذن، روى من حضر الواقعة، أن التهمة الحقيقية ، إنما هي تبكير الرجل في المناداة على الناس لصلاة العصر، أخطأت عيناه التمييز بين العقارب المتحركة، توهم أن ظله في الأرض استوفى حجم جسده، فقام مناديا في الناس وزاد هذه المرة نغمة جديدة تعكس حال الطمأنينة في النفس .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة