ألفى زملاءه لدى بهو المصلحة يتناوبون على التوقيع في ورقة الحضور اليومي . تولى إلى ركن ليشرب فيه سيجارته الصباحية الأولى حتى ينفض زحام الموقعين. نظر إليه أحدهم وسأله عما به . أجاب: "لاشيء". توجه تلقاء مكتبه دون أن يتفطن للنظرات التي كانت تحدجه . وما ان أخذ مقعده حتى أشار إليه الجالس قبالته : " وجهك ، اليوم ، غير طبيعي ؛ فماذا حدث ؟ ". بحركة آلية مسح وجهه بكفه، ثم بسطها أمامه باحثا فيه عن أثر ما. أحس العيون تحيط به من كل الجوانب . " لون وجهك أصفر..صفرة غريبة .. هو أصفر وأحمر معا". " قد تكون حساسية ناتجة عن طعام أكلته " . انطلقت الألسنة من عقالها ولا من يوقفها. استعراض للأمراض والحالات والأعراض والتجارب . بصوت خافت ممطوط قال : " ولكني لا أحس بأي ألم " . لم يسمع كلامه أحد . كان القوم قد غفلوا عن حالته وجرفهم الحديث إلى ضفاف بعيدة . فجأة ، استيقظ شيء ما بداخله ؛ فاعتكر صفوه . راح ينقل عينيه بين الوجوه كأنما يرغب في قول شيء ما. سأل : "كم الساعة الآن ؟ ". لم ينتظر الجواب ، وقام وانصرف .
في الشارع بدا في خطوه نحو بيته مجهدا، مطوقا بالصمت والغبار. ذعر غريزي حاصره . تحسس ذقنه ووجنتيه بأصابعه . "هل بدأ وجهي يتغضن ؟ من أي جهة جاءني العطب ؟ قالوا : حمرة، صفرة ، حمرة مع صفرة ؛ أعراض أي مرض هذه ؟ هذا زمن الأعطاب والأدواء . وكل يوم تسمع فيه عن مرض جديد ".
تذكر ركضه الصباحي ، ومواظبته على اللعب مع فريق الحي ، وإعجاب أقرانه بقوته ونفسه الطويل ، ووجد نفسه يسأل ثانية : " من أين جاءني العطب ؟ " .
" أنا ملوث ، دمي ملوث ، لوثتني السجائر والعاهرات . السجائر نعم ، أما العاهرات فذاك زمن مضى؛ بل أنت عنيد ، تسمع النصيحة ولا تنتصح . كم حذرتك من إسرافك في السكر والملح، كم دعتك إلى الإكثار من أكل الخضر والفواكه ، كم دعتك إلى شرب الماء ، يمر عليك يومان لا تشرب فيهما قطرة واحدة . وعندما تيأس منك كانت تنهض عنك غاضبة وهي تردد لازمتها : " ذنبك على راسك ". هي الآن في البيت . قل لها : نبوءتك صدقت " .
أغشاه إرهاق مباغت ، وسرى في جسده خدر بدأ لطيفا رقيقا ، ثم سرعان ما أحس به يجثم بثقله على كل أطرافه . استفاقت الهواجس والوساوس والكوابيس .
" هذا نذير من القلب . أزفت الآزفة . منذ مدة وأنت تتلقى وخزات تطعنك في الخاصرة والجنب الأيسر . هو القلب خذلك . لابد لك من إجراء فحوص ، تحاليل وأشعة على القلب . لم لا تكون أعراضا لمرض آخر ؟ هذا الخمول والعياء والضعف .. وشحوب الوجه الذي قالوا..زد تنمل اليدين الذي يعتريك كلما استيقظت من النوم..ألا يكون كل ذلك من الدم ؟ " .
الدم . كأن وحشا كان رابضا له . تمثل أمامه في آلة الدياليز . قد يتحمل كل شيء ؛ إلا الغسل الكلوي . تجمع غثيان في جوفه ، وانتابه هلع شديد، فمضى يدعو ربه متضرعا . كيف له أن يتحمل النظر إلى دمه ينقل إلى آلة تصفيه وتنقيه لمدة ثلاث ساعات ثم يعود إلى شرايينه ؟
جاءه صوت زوجته بمجرد أن دفع الباب : " من ؟ " . بادر إلى إخبارها بأنه مريض ومرهق ، وبأنه سيعرض نفسه على طبيب ، وكل زملائه في المصلحة لاحظوا اصفرار وجهه واحمراره ، وتغير حاله . نادته بصوت ممدود : " ياك ما مسحت وجهك ف الصباح بالفوطة اللي ف وسط الدار؟ راها كتطلق " .
قاص من المغرب
" أنا ملوث ، دمي ملوث ، لوثتني السجائر والعاهرات . السجائر نعم ، أما العاهرات فذاك زمن مضى؛ بل أنت عنيد ، تسمع النصيحة ولا تنتصح . كم حذرتك من إسرافك في السكر والملح، كم دعتك إلى الإكثار من أكل الخضر والفواكه ، كم دعتك إلى شرب الماء ، يمر عليك يومان لا تشرب فيهما قطرة واحدة . وعندما تيأس منك كانت تنهض عنك غاضبة وهي تردد لازمتها : " ذنبك على راسك ". هي الآن في البيت . قل لها : نبوءتك صدقت " .
أغشاه إرهاق مباغت ، وسرى في جسده خدر بدأ لطيفا رقيقا ، ثم سرعان ما أحس به يجثم بثقله على كل أطرافه . استفاقت الهواجس والوساوس والكوابيس .
" هذا نذير من القلب . أزفت الآزفة . منذ مدة وأنت تتلقى وخزات تطعنك في الخاصرة والجنب الأيسر . هو القلب خذلك . لابد لك من إجراء فحوص ، تحاليل وأشعة على القلب . لم لا تكون أعراضا لمرض آخر ؟ هذا الخمول والعياء والضعف .. وشحوب الوجه الذي قالوا..زد تنمل اليدين الذي يعتريك كلما استيقظت من النوم..ألا يكون كل ذلك من الدم ؟ " .
الدم . كأن وحشا كان رابضا له . تمثل أمامه في آلة الدياليز . قد يتحمل كل شيء ؛ إلا الغسل الكلوي . تجمع غثيان في جوفه ، وانتابه هلع شديد، فمضى يدعو ربه متضرعا . كيف له أن يتحمل النظر إلى دمه ينقل إلى آلة تصفيه وتنقيه لمدة ثلاث ساعات ثم يعود إلى شرايينه ؟
جاءه صوت زوجته بمجرد أن دفع الباب : " من ؟ " . بادر إلى إخبارها بأنه مريض ومرهق ، وبأنه سيعرض نفسه على طبيب ، وكل زملائه في المصلحة لاحظوا اصفرار وجهه واحمراره ، وتغير حاله . نادته بصوت ممدود : " ياك ما مسحت وجهك ف الصباح بالفوطة اللي ف وسط الدار؟ راها كتطلق " .
قاص من المغرب