أنفاساسترقت النظر في عيونهم خافقة دواخلي بتوجس ما يمكن أن يتهامسوا به في عز التظاهر بمشاركتي احتفال ما يسمونه ليلة الدخلة ، وأخيرا ضاعت منه سلطانيته ، انهزم المحارب على جبهة الرفض المطلق لطقوس اللعبة ، شعرت بالتقزز من لحظة انفصال ذاتي عن ذاتي ، سألني أخي ''أحمد'' عن التحول المفاجئ ، لم أكن أدري أنه سينقل عنّي بالحرف بعضاً من ردّي عليه ، فقد سرى بين صحابي وأهلي أنني ما أقدمت على ما أنا فيه سوى لرغبة في توقف النظر إلي كعانس قبل الأوان ، لكن ''أحمد'' كان أميناً فيما تبقّى من حديث حول خوفي من عجز محتمل عن أي فعل ، ابتسم مستغرباً حين أسررت له بنفي مداعبتي لها بأي شكل من الأشكال طوال فترة الخطوبة ،  ثم علّق عليّ خائفاً من سكوتي عما قد لا تحمد عقباه ، وهو يستعرض أمثلة الذين تأخر بهم الزواج، فاكتشفوا أنهم في النهاية عاجزون عن قطرة دم في مثل هذه الليلة ، لم أشأ التعبير أمامه عن انزعاجي من فشل محتمل ، رغم أنه يدري أكثر من غيره ما كان بيننا من صعلكة في سوق النساء ، تبا لها من طقوس مقيتة.
نما إلى سمعي أكثر من مرة ، حديث متقطع عن صلة قديمة بهذه المرأة التي قاسمتني الفراش لأزيد من عشرين عاما ، لعل أغربه صوغ حكاية بالغت في تجميل صورة الحب الذي كان بيننا ، استدل بعضهم برفضي المتواصل الزواج من بنات خالي وخالتي وعمتي وجارات كانت بينهن وبين أمي صلات جاوزت قرابة الدم ، أذكر ارتباط البداية بأوائل السبعينات، حين تحدثت الحكومة عن سنة بيضاء ، وهي تحكم بالإعدام على عام كامل من الدراسة ، ومن خلاله على عمر التربية والتعليم في البلاد إلى الآن ، كرهت اللون الأبيض ، بعدما ظل عندي رمزا للنقاء والطهر و أشياء أخرى تشكلت بالوهم في حلم أحمر،حين بادرتها بالسؤال ، كرهتُ من القطة الجميلة في القسم كما كنا نسميها، أن تكون خارج اللعبة ، برفضها الانخراط في الإضراب العام ، حاولت إقناعي بأن الإضراب هذه السنة سياسي ، وليكن ، ما لك أنت ؟

أنفاسشَدَّ بعنفٍ أزرار معطفهِ المتهالكِ من كثرة التَّرْقيعِ واتَّجَهَ صوب الميناء . كانت كل أحشائه تعتصِرُ ألمًا من شدة الجوع. 
ـ تَبًّا لهذا الإحساس البغيض, يبدو أنَّه يتوجب علي إعادَة تفتيش أكياس القمامةِ تلك من جديد وهذا يعني أنني لن أنام الليلة أيضا.
كان قد أمضى, دُونَ جَدوى, يومه الثاني في سَبيلِ كسرةِ خبزٍ ما بين استِجْداء المارة و تجميع القمامة.
ـ ماذا لو هاجرت ؟ جالت بخاطره, فجأة, الرغبة في ركوب هذه المغامرة فلمعت عيناه من شدة الفرح ، إنْ هي إلاَّ بضع خطوات فأتجاوزُ الحاجزَ الأمنِيَّ وحينها أغْدُو وسط الميناء فأَنْدَسُّ وسط أي سفينة أجنبية   وأنتظر... لكن ماذا لو لمْ تقلعِ السفينة؟ ماذا لو أقلعت فحَطّت بي الرحال وسط مكانٍ أشَد فقرًا وبؤسًا.
شَدَّ بعنفٍ معطفَهُ وهو يقاوم ابتسامةً غامضةً كادت أن تُطْلقَها شَفَتاه بعدَ أن أدرك عقلُهُ أنْ لا حياة أسوء مما يعانيه الآن فأكمل طريقه صوب الميناء.
  كانت الفكرَةُ قد أدخلتِ بعض الدِّفء إلى نفسِهِ فشَرَعَ يبحثُ عن مكانٍ مقْفِرٍ لدخولِ الميناءِ, لَكِن ما أنْ هَمَّ بتسَلُّقِ الحاجزِ حتَى تناهَى لِسَمعِهِ صوتٌ جافٌ قَادم من قرِيب.
ـ ماذا تصْنَعُ هناك يا ملعُون ؟

أنفاسألفى زملاءه لدى بهو المصلحة يتناوبون على التوقيع في ورقة الحضور اليومي . تولى إلى ركن ليشرب فيه سيجارته الصباحية الأولى حتى ينفض زحام الموقعين. نظر إليه أحدهم وسأله عما به . أجاب: "لاشيء". توجه تلقاء مكتبه دون أن يتفطن للنظرات التي كانت تحدجه . وما ان أخذ مقعده حتى أشار إليه الجالس قبالته : " وجهك ، اليوم ، غير طبيعي ؛ فماذا حدث ؟ ".  بحركة آلية مسح وجهه بكفه، ثم بسطها أمامه باحثا فيه عن أثر ما. أحس العيون تحيط به من كل الجوانب . " لون وجهك أصفر..صفرة غريبة .. هو أصفر وأحمر معا". " قد تكون حساسية ناتجة عن طعام أكلته " . انطلقت الألسنة من عقالها ولا من يوقفها. استعراض للأمراض والحالات والأعراض والتجارب . بصوت خافت ممطوط  قال : " ولكني لا أحس بأي ألم " . لم يسمع كلامه أحد . كان القوم قد غفلوا عن حالته وجرفهم الحديث إلى ضفاف بعيدة . فجأة ، استيقظ شيء ما بداخله ؛ فاعتكر صفوه . راح ينقل عينيه بين الوجوه كأنما يرغب في قول شيء ما. سأل : "كم الساعة الآن ؟ ". لم ينتظر الجواب ، وقام وانصرف .
     في الشارع بدا في خطوه نحو بيته مجهدا، مطوقا بالصمت والغبار. ذعر غريزي حاصره . تحسس ذقنه ووجنتيه بأصابعه . "هل بدأ وجهي يتغضن ؟ من أي جهة جاءني العطب ؟ قالوا : حمرة، صفرة ، حمرة مع صفرة ؛ أعراض أي مرض هذه ؟ هذا زمن الأعطاب والأدواء . وكل يوم تسمع فيه عن مرض جديد ".

أنفاستجيئين مبرقعة بالماء وبالزخارف العظمى ، تنثرين الضوء على قباب دهشتهم وتؤلفين ما بين الأحمر المأخوذ من ورد الجنائن والأخضر المخطوف من غابات عربستان ....  ذاك رداؤك .
تتبدّدين كأنفاس الندى وجدا وبما تخضّب من أناملك المديدة توشوشين فتدار أقداح" من خمر عانة أو كروم شبام"1
 تتأمّرين على أحلامهم فتجيء منهكة خيول صبوتهم وتحط ّراغية تلك  النجائب والرّكائب ... هذي النّمارق لمن صفّت حتى يعفّرها الفضول وما تناثر من هجين المسك لكنما عبق اخضراره يولد هكذا في الرّوح ، وترين وجهه ممطرا يسري على طرق بعيدة فيجيء نزعك حازما، تستمهلين ، " لا ، لا تزرني هكذا ، دعني أمتع ناظري بغمامة من قطره أو لعقة من شهده أو نفحة من خدّه حتى إذا نبتت يدي في كفّه خذ كلّ أوصالي وانشر نعيي ... يل حين كيف تأخذني وأنا لم أحي يوما واحدا؟
تتلفتين بالجيد أنهكه التوجّس والترقب ويظلّ نبض بالوريد مرابطا كالسيف متربّصا بالخطو يوغل في ثنايا البعد تتوقعين جنوحه أبدا لكنما أمل التلاقي يعلّل جمر الجوانح بالعناق هذا المبرعم في أقاصي الذات . لكنما الوقت المبدّد للأماني يمتدّ مثل الأفعوان .  وتكابرين فيزبد الحدق العنيد وتنظرين الى الأقاصي تهمهمين : "الأخضر المجدول من سعف النخيل والزنبق الممهور بالخجل المحبّ والألفة في مثل طوق للحمام تألفت حول الأقاحي وألّفت بين المعنّى والمعنّى . ماذا أضيف ليكون أجمل هذا المكان ؟ ولماذا لا يأتي الرذاذ وأنا نذرت أصابعي للّوز؟ ولماذا يسرف في سفك الثواني هذا المكابر والعنيد ؟ أترى الثواني كمثل هذا الصخر ثابتة حتى يبدّد جذوتي ويريق أ نفاسي  على وهج التوقّع والعناد؟

pier 010gالقط :
لا أحد يعرف من جاء به ﺇلى هذه  الحانة ولا أحد يتذكر متى كان ذلك  ٬كأن وجود القط هنا ! قد تمّ  خارج الزمن .  صاحبة الحانة ٬المرأة البدينة ٬ لا تجيب بشيء محدد حين يكون موضوع السؤال قط "حانة مارسيليا " " مغاوْري " . هذا هو لقبه الذي حصل عليه من رواد البار فضلاً عن الركلات التي تطال مؤخرته كل حين .  في مقدمة الرأس غور ينتهي بقاع متعفّن هو ما تبقّى من عين تالفة . قلّما يثير شفقة أحد  ٬ عدا صاحبة الحانة التي تسعفه ببعض بقايا الطعام ٬تجمعه من الموائد في آخر الليل ٬حتى دون أن يكون قد حقق رغبتها في طرد الجردان التي تتراكض في مخزن الخمور ٬ حيث لم يفلح في ﺇبادتها فأصبحت تعربد على مرمى حجر من عينه السليمة .يقضي سحابة يومه مضطجعاً على "الكونتوار" أو يلفّ بين الطاولات طلباً لبقايا طعام . في جولاته المتوجسة تلك ٬ يحدث أن تطوّح به رجل عاليّاً أو تدوس قدم قصداً على ذيله ٬ينطّ محدثاً مواءً ممطوطاً فتعلو من جهة في البار قهقهة . ..يلود" مغاوري " بالكونتوار ساخطاً على اليوم الذي بدأ فيه قطّاً يتسول فتات هؤلاء  السكارى .

أنفاسقرأت في جريدة عربية ، تسكن في بحار صمت الأرصفة الفوارة ، الخبر الأزرق التالي:
"مرحى بزورق الشمس الآتي صديقا بين أمواج هذا البحر المشتهاة .."
ثمة كائنات قبلية ، تلهث صادقة ، وراء إنجاح التنمية المخزنية .
 لا شك أن أوراش الإفلاس الاجتماعي ، التي تعرفها العديد من بؤر الخريطة، في غاية الأهمية ، بالنسبة لرعاة الرمال المشروخة الوجه ، و كذلك بالنسبة لحراس غابة الرماد الغاضبة ، التي طرح صمتها الحزين ، هذه المرة دون عادتها،أكثر من سؤال.
 هي كائنات محلية ، منسوجة ألوانها و روائحها ، من تراب الأجساد الوطنية ، و أفكارها الشعبية ، لامحالة صنعتها الرياح القادمة  من داخل مربعات جلالة الصرة الجائعة . أما عن  أعضائها الكرام، فحدث بلا حرج .
هم من الفئة القنوعة فقط ، بامتصاص نفايات موائد الأشجار السامقة .لنقل هي نحلات بلا هوية ،تلسع و تزداد امتدادا في هرم الحياة ، رغم تجذر حروفها الحمراء ، في أعماق وجدان بحرنا القديم ، و الذي مافتئ يرمم موجه العاتي،ليبدأ السباق ، بلباس الصراع الأجدى ، ضد مملكة الخفافيش ، التي لا تحسن ، في لعبة الرفع و الجر،سوى تحريك آليات لغة عقيمة ، يرعاها الزلزال ، و وراء أدغال الكواليس يخرجها الشيخ الأعمى ، في أحضان مريديه المقنعين برذاذ الصباح  المزيف .

أنفاسعلى نفس الرصيف  ,الذي لم يتغير سوى لون طلائه,إذ يبدو احمراره يانعا...قرب نفس العمود الذي تتراقص ألوانه ,وتحت نفس النخلة التي ازدادت ثباتا...الآن أقف.

كان ذلك منذ ثلاثة عقود مضت وكان الليل قد أعلن ميلاده خلسة,عم ضباب كثيف,أناس في حركتهم أقرب إلى الأشباح,تلك التي أسندتها ظهري ,دمع سعفها قطرات بللت الرصيف...
ميزتها بين الأشباح لسرعة خطوها فقط.معطف جلدي أحكمت إغلاقه وسروال قطني اظهر قوامها الرشيق وملامح تشع منها حيوية نادرة.
" تأخرت" خرج صوتها دافئا وأليفا,وبسطت يدها الناعمة لتدفنها في كفي الباردة كالعادة ,أنعشني عطرها لما لامستني صفحة خدها...
" لا, لا لم يبدأ العرض بعد."
وامتصنا الضباب...
صارت تحدثني عن مضايقات أخيها وأسئلة امها المتكررة عن دواعي الخروج كل يوم خميس في نفس الموعد...وعن محاولاتها إقناع والدتها بدورها كعضوة بالنادي السينمائي.
توقفت الموسيقى العذبة التى كانت تنبعث من جنبات القاعة,كما توقف التقاطر البطيئ لوجوه اعتدنا حضورها وسلمنا الضباب للظلام...

أنفاس"يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ"
(البوصيري)


يجلس على حافة السرير ممسكا يدي الباردة يجس نبضي ،  يغلق فمي بميزان
الحرارة ، يراقب بصمت وجهي الشاحب الممزوج بسيل من الدمع وتصببِ العرق
، يضع السماعة على صدري متضارب الدقات ، يضرب بأصابعه على ظهري، يقلبني ذات اليمين وذات اليسار ..
يدخل قطعة خشب في فمي ويشعل الضوء ، يخلط زجاجات صغيرة في إبرة توخز شراييني ..
" الحمدلله، لم يرَ اسما على لساني ، لم يجد وجها مرسوما على صفحة قلبي ، لم يسمع خطوات أقدام تركض في نبضي ، لم يخرج جسد مع القيء ..!!" .
- مجرد التهاب رئوي حاد من تعرضك للبرد ، قلة النوم والأكل ، التدخين وأهمها تعرضك لصدمة عصبية.. من الذي تجرأ وأغضب هذا المحيا الجميل وجرح الفؤاد ؟
أنظر بعيون زائغة نحو الوجوه الخائفة المحيطة بي :" ترى على من أضع اللوم ومن الذي تقع عليه القرعة ، ومن أعرض عليه لائحة الاتهام ؟" .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة