أنفاسجلس على المقعد المجاور لمقعد سائق سيارة النقل . كانت الأفكار تغزو عقله الشاب ، تمتد في كل جهة تنقل إليه هموما ثقيلة تحمل معها رائحة الحزن والأسى .   
كان وجهه شاحبا تعلوه كآبة ، لم ينم منذ أن علم بالخبر ، كان يتساءل بين لحظـة وأخرى : كيف حدث هـذا ؟ وماذا بإمكاني أن أفعل بعد أن غادرني أبي وحيدا ؟ تساءل في نفسه .
كان أبوه كل شيء في حياته ، صديقه وسنده وأخوه ، في السراء وفي الضراء ، ففي أوقات الشدة لم يكن يلوذ بأحد سواه ، لدرجة أنه تعود الاعتماد عليه في كل أموره حتى بعد أن كبر ، أما طفولته فحدث عنها كيف شئت ، كان الطفـل المدلل يشتهي فينال أو لنقل إنه لم يكن يحلم ، كان أبوه يحضر له ما أراد وما لم يرد ، من الأدوات والأجهزة والملابس وكل شيء ، كان الأب قد كرس حياته كلها لهذا الابن الوحيد ضمن أسرة مكونة من ثمانية أشخاص ، خمس بنات وأبوه وأمه وكان هو الثامن .
كان أبوه كل شيء في حياته لكن ها هو يغادر الدنيا ويتركه لعواصف القدر تهوي به في لجج الحياة ، وحيدا بلا رفيق ولا مؤنس أو معين ، هكذا على الأقل كان يتصور الأمور.   
رباه ماذا عساي أن أفعل ؟ ماذا في مقدوري أن أصنع ؟ كل هذه السنوات وأنا أعتمد على الوالد فجأة ودون سابق إنذار أجد نفسي أمام العاصفة بلا عدة ولا أدنى استعداد .  

أنفاسمتى أضحك أخيرا؟
متى أستسلم لنوبة ضحك ترخي عضلات الوجه والقلب معا؟
وقد أنسى حينها للحظات وجع الفقدان والألم والخيانة والوحدة الموحشة؟ وربما لوهلة، أثناء استسلامي للقهقهة، قد أستعيد شيئا من طفولتي.. وربما أتذكر طعم القبلة الأولى.. او  يد والدتي الدافئة عندما كانت تمسد شعري..
لكن الضحك أصبح عملة نادرة في واقعي.. أحاول أحيانا، دون جدوى.
أقف أمام المرآة، و آمرني بالضحك.. بكلتي يديّ، أبعد شفتيّ.. وأحاول إخراج صوت قوي.. فلا أسمع إلا الصمت..
يبقى فمي مفتوحا إلى أن يؤلمني فأستسلم وأطبقه..أطبقه عن الضحك وعن الكلام..
أصرخ  كثيرا وطويلا.. جيراني حفظوا صوتي العالي وأعلنوا انزعاجهم.. لكنني تحديتهم.. أنا موجودة بينهم، لذا عليهم أن يسمعوا صراخي..
لا تفعلي، تردد جدتي بصوتها الأكثر صرامة.. الفتاة لا تضحك عاليا.. إنها تبتسم، فقط..
أضحك أعلى وأسألها:
لماذا؟

أنفاسأهل البلاد :
لم أجد أهل البلاد التي زرتها
لم ار اية شواهد لقبور مفترضة
لم أجد إلا سماء صافية لا يحدها بصر
اهل البلاد ناموا .. خرجوا ..غادروا الديار
تركوا الزرع والضرع
تركوا البلاد وهاموا في الأركان القصية ..
البلاد ، تراب واشجار مبعثرة وثمة جدول صغير يابس ..
نظرت الى صورة البلاد المعلقة على الحائط .. بلاد فيها ناس وحجارة وطيور .. وضعت اصبعي على الناس فكان ما كان ..
الناس في شرود ( المشهد قريب )
كل الناس في فوضى وثمة رجل واحد ينتصف الشارع  يصرخ..
 النار هائجة وسط البستان !!

أنفاسداخل العين ..عين الجبل الجريح ، الواقف في ساحات حرب الأشقاء ، في مكان ما جنوب الروح ، تنمو أغصان تاريخ موج صديق ، يسكن في مدن تحلم بجني ألوان الشمس ، و تستعد الآن لركوب الغموض الحجري ،  دون أن تثير شهية سلطات الرياح ،  لضرب أعناق الكلمات ، لأنها ببساطة الورد و الياسمين ، سلطات تؤمن بفصاحة الليل ، أكثر مما تعترف ببلاغة المساءات .
طفلا كنته ، بحبالهم الدامية ، و المكشوفة المعنى ، ينسج عنكبوت الذات المحترقة ، بيوت السؤال اللعين ، هو الجسر القادر على الفصل بين الشمال و الجنوب .
هي حروف من رماد الوهج ، لا محالة ، حبلى بأجنة الضجر .
لن يغسل هذا الليل السيد ، من تفاصيل جبروته الخبير بأسرارنا ، سوى شيء من جنون البحر، يمزج ساخنا مع بعض عناصر خمرة الأزقة الموصدة ، و يشرب في عراء مساء جميل ، بمعية مجلس قمر وهاج .

أنفاسعندما دلفت من الباب كان ثمة شيء يشبه عطرا أنثويا, نفس امرأة ما مألوف لدي بصورة غامضة انقذف إلى أنفي الذي استلذه. هاأنذا في وسط البيت. كانت جالسة مع أمي على كنبة أمامهما صينية الشاي وبعض مما يؤكل على المائدة الصغيرة.
رعشة غريبة ألمت بأعضائي وفرحة صغيرة تلبستني وأنا أرمي التحية. ياه, كم زاد جمالها! ابتسمت هي في اقتصاد. مدت لي كفها. انحنيت مادا لها خدي. تصلبت ذراعها. ارتبكت  وأنا أتراجع بوجهي وأعدل قامتي. بحر من العرق البارد يغرق أدق شعيراتي.
- كيف حالك؟ سألتها.
- بخير والحمد لله.
سلمت على أمي وجلست. وجهي يتلون. الملعونة. كانت تعانقني فيما مضى.
عيناها مسمرتان على شاشة التلفاز. أرقبها بطرف خفي يخترق كتفي أمي الجالسة بيننا. انتبهت إلى شعرها الذي اختفى. أبصر مكانه منديلا يحدد تخوم وجهها. أهو غطاء الرأس ذاك ما منعها عن عناقي كما كانت تفعل قبلا عندما كانت تأتي لزيارتنا؟
هدأت قليلا. صبت لي أمي كأس شاي. وأنا أنحني قليلا لأتناول الكأس من الصينية استرقت إليها النظر من زاوية ضيقة جدا. لا تزال مركزة على التلفاز.

أنفاس(هناك نوع من الرجال هم في الواقع اشبه بالملائكة. بيد أني لست منهم  )
                                     جوزيف كونراد – الإعصار
ارض شاسعة تمتد أمام البصر لا يحدها شئ أبدا .. تعطلت سيارتي في طريق ترابي مقطوع ..  لا غيري هنا ، لم يمر أحد منذ ساعات .. خمنت ان الآخرين سلكوا طريقا آخر ربما يعرفونه جيدا يقيهم هذا التيه الصحراوي الممل .. أو انهم قد مروا من هذا الطريق ولم ارهم ، ربما ..
تندفع حوصلتي كما الطير ، ابلل رأسي بأخر قطرات الماء وأطفئ ظمأ روحي عندها تتطاير كلمات أخي فوق رأسي كخيط دخان  وتتقافز فتوحي بأن كل من عليها فان .. كل من عليها يرجع إليها .. أول مرة منذ سنوات ، اندهش !
لم يثرني أي شئ منذ قرأت خبر ضبط جودي فوستر في مطار بوسطن وهي تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية .. أثارني وتصورت بأنها لا تستطيع النوم دون جرعة مخدرة فما كان منها إلا أن تخبئها في منطقة مثيرة ظل يتقاتل عليها البشر منذ بدء الخليقة ..
 لم يثرني أي مشهد آخر منذ سنوات .. الطريق يمر بصخور وأدغال وأوحال ثم يبدأ  الرمل يغطي مساحة الأرض القصية .. ليتني اعرف طريقا آخر ، مررت بكل مآسي المكان ، تسلقت صخور جثمت منذ ان وجدت ، واجتزت الأوحال  وأنا اردد أناشيد الفروسية والبطولة ، رباه كم رجلا استطاع اجتياز المكان منذ خلق ؟

أنفاسالعائلة السعيدة
تُطل عليه من فتحة الباب، عاري الجسد يلهثُ خلف الجهاز..
- تريدُ شيئا حبيبي؟..
- شكراً!..
- تصبح على خير، أتركك تمارس هوايتك مع مواقعك الخليعة في هدوء ..!
- تصبحين على خير، أتركك تمارسين هواية الكتابة والقراءة في هدوء!
تمضي الأيام، والتفاهم يغمر البيت!...

جيران 
- القلب سليم، أحوّلكِ على اختصاصي عظام..!
تركض كفي تعانق كفه الرحيمة.

أنفاس(1)
أرْبَعُونَ قطْرةٍ على نصلِ خنْجرِهِ تترنَّحُ متماوتةً أبطأَتْ خطاها المنحدرةَ تخشى الهبوطَ فاستبقَها الخوفُ فباتتْ على الرّكودِ كأَنّهَا...باتَتْ على الرُّكودِ...
(2)
خَدِيعةٌ تصبّرُنا فنخلعُ جذعَ الفكرةِ نمضِي.. نَمضي .. لا وجهةَ لمنْ لا وجهةَ لهُ .. قالتْ ولِّ وجهَك شطري ينزّ جبينُ الوقتِ مسافةً وتقصرْ عباءةُ الزمنِ تتعرَّ كإلهٍ منفي في بحرٍ منفيٍّ بلا صيفٍ بلا غزلِ بنات تتكاسلُ الشمسُ على جباهِهِنَّ ويرتعشُ القلبُ الخافِقُ من لسعةِ خوفٍ. من يراكَ يا وحدكَ اللاهث خلفَ دماكَ البحريةِ سنوات تتضورُ جوعَها في أمعائِك الخشنةِ على بقايا نشيدٍ وقبلَةٍ تحرقُها  على شفتين منَ العَلقمِ وتموءُ كقطٍّ برّيٍّ على فراءِ هرّةٍ بائسةٍ .. وترجو إلَهًا ينجيك من إلهٍ مزروعٍ على عرشِكَ اللَّزجِ وتُطوِّحُ الشِّعرَ على ثمالةٍ من نبيذٍ خائنِ الطعمِ واللَّذةُ تلسعُ شهقتك المرّةَ، تناجي جموعَك المتناثرةَ مفقوءةَ البصرِ والبصيرةِ تخدعُكَ مراياها المكسورةُ بخيطِ النَّدى الذي ترتقُ وقتَك البالي...لنرتقَ ما تبقى من وقتِ عباءةٍ تدثرُنا من حزنِنا المقيمِ...المقيم.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة