أنفاسكان علي أن أنحنى قليلا,رغم قصر قامتي,لألج بهو المسجد العتيق...
استقبلتني كعادتها,منذ سنين خلت,نضارة..صلابة...ورائحة فريدة...
شجرة التين هذه,خلسة ونحن نمحو ألواحنا تحت ظلها,كنا نقطف ما تدلى منها ـ غالبا ما تكون ثمارا لم تنضج بعد ـ لتتشقق شفاهنا بعد يوم واحد كدليل على تلبسنا.فكان العقاب ...لا خروج لمحو الألواح.
كل قطرة ماء سقطت,في بهو المسجد العتيق,كانت تسقي شجرة التين تلك.ماء ألواح...ماء مطر...ماء وضوء...ماء...
شجرة التين هاته لم يمل الفقيه من تشبيه رؤوس الشياطين بفروعها الضخمة...وحدثنا أكثر من مرة,خصوصا كلما حل مريد جديد,عن سر تلك الأقمشة التي تعلو أغصانها...حدث أن تسلقها طفل في سنكم ...علق بها منذ ذلك الزمن... تحول إلى طائر ابيض يحرس الشجرة ليلا...
اقتربت من صبي يصارع لإخفاء حرف القاف من على لوحته ـ كانت الكلمة اقرأ ـ
استهوتنى رائحة الصلصال ولزوجته...ربت على رأسه الصغير...سألته ـ فقط لكي أعرف هل لا يزال هناك وجود لخرافة الفقيه ـ لمن هذه البقايا من الأقمشة؟
رفع عينين يشع منهما الذكاء وأجاب:

أنفاسانت شامخة، فارعة الطول، عريضة الهيئة، جميلة تتمايل مع كل نسمة ريح راقصة وحالمة تقبل أشعة الشمس كل صباح. تعطي الحنان وتحضن كل محروم كأم تحضن طفلها فظلها يسع كل شيء إنسان ونبات و حيوان، لونها البهي لون الفردوس يكسوها في فصل الربيع ولون الشمس يكسوها في فصل الخريف، كريمة سخية، تطعم الكل بحنان وحنو مختلف.
تتوسط الحديقة كعروس في ليلة زفافها تتحدى الزمان والمكان، و تقول أبدا لن أموت ولن أذبل، أنا دوما أبدية عشت وعايشت و تألمت وفرحت، لن يهزني البرد ولا الحر أنا صامدة صمود الجبال و شموخها باقية أبدية سرمدية.
كانت تستقبل الضيوف ببهاء ورونق كشجرة نابتة جذعها في الأرض وغصنها في السماء تبهج الطفل والشاب والشيخ فالطفل يلهو والشاب يحلم والشيخ يرتاح. آه ما أجملك يا شجرة الجوز ما أحنك و ما أكرمك ، ما أعظمك و ما أطولك ، علقت فيك آمالي و تخيلت فيك أحلامي كم تسلقت أغصانك و علوت ثم علوت حتى قمتكن و تأملت الوجود من فوقك فسبحت في دنياك . تشابك و تعانق التفاف و اختراق التحام وافتراق، آه منك ومن دنياك.
كنت شاهدة على زارعك، شاهدة على ميلادك وعن فنائك، حملت أسراره و أسراري من بعده، لم تشتكي  أبدا من شيء تحضنين الألم  و الحب، الحزن والسرور، كنت أجد فيك ملاذي و أنيسي و ملهمتي بل أني يوما سمعت صوتا يناديني و أنا بين أغصانك لعلك أنت التي ناديتني فرحة بي باحتضاني فقد كان الوقت غروبا و خطرت لي فكرة تسلقك ربما لأهرب من بقايا يوم عنيف   و أتنفس بين أغصانك نسمة خفيفة توارت هي الأخرى من لهيب يوم صيف حار.

(وجــــــــــــــــع )
 عيناك .. ليلة حب خرافية ..
شفتاك التقاء قرص الشمس بخد الأرض
لحظة غروب..
امتدت يده تقطف عنقود الفرح المحظور..
حملّقت , صرخت بصمت مكبوت :
" ما أشد وجع نزف العين بوخز
إبرة جراح بلا إنسانية " ..

(وجبــــة سريعــــــة )
اضاف الملح , رشة بهار

أنفاسوهو في كوخه البئيس ، اعتاد أن يستلقي على ظهره ... يتأمل السقف ...هذه الأخشاب المهترئة ... يناوشها ، يشكو إليها مرارة الفقر والحاجة ، لكنه ، بعد حين استدرك ليقول : كفى من الشكوى ...أنا والكوخ ... ورفع يده عاليا ...كهذين الأصبعين ، أنا والكوخ جسد واحد ، روحان في جسد واحد ، أو جسدان فيهما روح واحدة ، أو ... لم يدر ما يقول . كان يمقت الفلسفة عن آخرها ، يحتقر هؤلاء وأولئك من الذين يجرون الأسماء والحروف والأفعال ... يمططونها ليستخرجوا منها هرطقة أو سفسطة ... أو هراء كما تعود أن يسميه ... لكنه الآن في حاجة إلى الفلسفة ، على الأقل ليحلل ويفلسف ... لم يعد معه غير المجردات ... بعد أن غادرته الماديات ، طرد من عمله ، وغادرته زوجته ، وتخلى عنه أصدقاؤه ، لم تستثن منهم الخيانة أحدا ... قرر أن يكمل طقوسه ؛ يستلقي على وجه أمه الأرض ، لا يفصله عنها فاصل ... يستمد منها الدفء ، وإن كان سطح الزليج باردا ، تبا للخيال ، ما أوسعه وما أوسع ما يدركه ... فضاء الخيال مجرة قائمة بذاتها ، بكواكبها ونجومها ... بشموسها وأقمارها ... يستبد الخيال بالفضاء بعيدا عنه ... الفضاء الذي هناك لا الذي هنا ، استعطفه ... لا جدوى ، أصر بكل ما يملك من رغبة وإرادة وتصميم ، لكن الخيال ، بقسوته الغريبة ، بفضاضته وشراسته ... أبى أن يذعن ، بقدر ما يزداد هذا إلحاحا يزداد الآخر رفضا وعنادا ... لم يكن أمامه من خيار ... العالم في نظره عالمان : عالم المثاليات ، المجردات ... باختصار عالم الخيال باتساعه ... بموجوداته التي لا تنتهي ... بسخائه الذي لا يعرف حدودا ... في عالم الخيال ، هو سيد الزمان والمكان ، فضاء الخيال ، مساحته ، طوله ، عرضه ... كلها طوع أمره .

أنفاسوقف صلاح كعادته إلى جانب الطريق وسط السوق ، عن يساره صالون حلاقة ، و عن يمينه بائع خضار ، وأمامه حمار يهش بذيله الذباب عن مؤخرته بهدوء قد ربط بحائط قديم متسخ يعج بالقاذورات . وضع صلاح على الأرض اسطوانة غاز قديمة متهرئة قد تنفجر في أي وقت .. وأخذ يمارس مهنته الجديدة بتجهيز القهوة ، ثم يلّف ويدور ليبيعها من الصباح إلى المساء حتى تنتفخ ساقاه لكثرة المشي ، وهو يصنع قهوة لذيذة بنكهة الهيل يجعلها تغلي على نار هادئة عدّة مرات ، إلى درجة أنها أعجبت الحاج سمير تاجر الجملة ، هو لم يحج ، ولكن الناس منحوه لقب حاج ربما لكثرة أمواله ، ومعروف عنه أنه لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب .. وكثيرة هي المعارك الصغيرة التي تنشب بينهما من حين إلى آخر ، لأن الحاج سمير يرفض أحيانا أن يدفع إلى صلاح ثمن القهوة التي يشربها ، فيستشيط صلاح مغتاظا ، ثم ينهال بلسانه المبري على الحاج سمير بقائمة من الشتائم ، وأحيانا يسترسل فيعيرّه بفمه الواسع واصفا إياه بأنه مثل فوهة الزير ، فيهمّ الحاج سمير للحاق به ممسكا عصاه ، لكنه لا يستطيع بسبب مسمار اللحم الذي استوطن باطن قدمه ، لقد زهق صلاح من الحاج سمير حتى صار يتمنى أن يراه يطق ويموت أمام عينيه .. الحاج سمير قلبه يتمزق غضبا من صلاح ، لأنه اقتحم المخزن ذات يوم ليري الناس البضاعة التي يخبؤها أكواما مكدسة في مخزنه كي يرفع ثمنها أضعافا مضاعفة .

أنفاستلفزيون ملوّن:

اندهش بعرضه ...
 أجهزة (تلفزيون) ، بأسعار مخفضة ..
 عرض عليه شرب أي شيء .. اعتذر بضيق الوقت ،  واستعجل صرف الشيك ..
طلب منه بطاقة الهوية: 
- سأنتظر حتى تصرفه بنفسك ، بقيت ساعة ، وينتهي الدوام .
وضع النقود في جيبه دون عدها ...
- سنذهب إلى بيت شريكي ،إنه بالقرب ...
توقفا قبالة بيت ، أشار بإصبعه:
- توجد زوجته فقط .. انتظرني هنا حتى نرجع .

أنفاسفجأة ، و دون إشعار يذكر ، نبتت أوثان في تراب الجسد الواحد كالطحالب تمتد . إنها  الآن في تناسل متزايد .
وصلني .. أن أوثاننا العاشبة  ، هنا ، زوجت كل إناثها الحوامل إلى أوثانهم اللاحمة ، هناك ، و سيقام حفل الزفاف في أجمل غابة في العالم .و التاريخ لم تحدده الزلازل .
هي أوثان شريفة ، رغم عيبها البارز كالشمس في بطنها ، الذي مافتئ يتسع ، و هو اليوم يمتد إلى ما لا نهاية ..ليشمل حتى ألعاب الأطفال و كراسي المعوقين . و أفاعي " الحلايقية" .
أوثان على عروش من أجساد شجرية اللون و الرائحة .
يلتهمون و لا يشبعون .
يرقصون و لا يشبعون .
هي رقصة الأوثان ..
كن  بحرا حالما ، بسواعد رذاذ الموج ، يصفع وجه صخور الوثن اللعين .
كن شغبا طفوليا في بوابات جسور المعنى ينقش أسماء صهيل الخيل الغاضبة .

أنفاس(هل كان غاندي ابن جنية, وبيكاسو مقدم ضريح في ضيافة
الجبل؟وأنا, هل ما زلت أنا أم أني مجرد ظل لذاك الشاب
فارع الطول الذي ملكته امرأة وقدمت له وجها آخر للحياةوللتاريخ قبل أن تغيبها الضرورة؟
وإذ أحكي الآن, أحكي التاريخ أو الخرافة, العقل أوالجنون؟ وهل هناك فرق؟)

كان هناك إرث تتناهشه الأطماع, وفتاة عبيطة أشيرَ بها عليّ:
- هكذا نجمع المال إلى المال والأرض إلى الأرض
- وماذا عن جمع القلب بالقلب؟
وحل المساء
فاتكأت على جذع شجرة الأوكاليبتوس العجوز,أحشو بحشيش "كتامي" رفيع سيجارتي الثالثة, وأسقي فسحة الذهن بهوامات شائكة مثل إبر تضحك في وجه السماء.
كان للبدر وجه صبية..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة