أنفاسهبت نسمات الصبح الأولى ، مؤذنة باشراقة يوم جديد . هناك ، على عتبة بيته القديم ، كان إدريس يقف كعادته منتظرا تربع الشمس في كبد السماء ، لتصبغ سماءه العلوية بلون وردي مصقول بالذهب .
وغير بعيد ، تراءت له الجبال بوجهها الشاحب ، وقد صممت على الشموخ وتحدي الصعاب ، ولد المنظر في قلب إدريس إحساسا بضعف بشري مسيطر ، أطلق إثره تنهيدة مدوية آتية من الأعماق .
آه......ما أضعفني ..ما أشد خيبتي..كيف يمكن لهذا الجبل الجاهل أن يبقى راسخا وهو الذي لم يتلق درسا عن الصبر والشموخ وعزة النفس ؟
كان الجميع في القرية يتحدث عن فشل إدريس ، وتصميمه الأزلي على الهجرة إلى المجهول ، رغم إصرار أبيه الحاج علي على بقائه إلى جانبه للاعتناء بهكتارين من الأرض طالما فجرا جدالا حادا بين الطرفين يصل أحيانا حد الخصام ، فالأب يشم خلال الهكتارين رائحة الأجداد وعبق الماضي ، بينما يرى الابن في بيعهما حلا لا محيد عنه لكل هواجسه المادية ، ولم لا .وهو الشاب المثقف المتخرج قديما من كبرى جامعات البلاد ، دون أن يشفع له ذلك في الظفر بوظيفة تحقق له أدنى التطلعات .
خطا إدريس خطوتين أمام الباب ، ثم جلس على كرسي من القش ، أجال بصره في المكان ، أثارته زقزقة عصافير ملحاحة تحوم حول بعض الكروم ونباتات الصبار المحيطة بالكوخ.

أنفاسلم أكن أتوقع أنه سيغادر البيت بهذا الشكل المفاجئ ، و بهذه الطريقة الغامضة . . بمجرد أن توصلت بمكالمة شابها حزن ظاهر من لدن أخي ، هرعت مسرعا علّني أصل إلى المكان الذي افترضت أن يذهب إليه . كان الجو جد بارد . و الظلمة كثيفة إلى حد أنني وجدت صعوبة كبيرة ، في المشي على رصيف هذه المدينة الجميلة ، التي لم يمض على وصولي إليها سوى أيام عديدة  . و عند مفترق الزقاقين رأيت شابين متجهين نحوي . فكرت في أشياء كثيرة يمكن تحدث حين سيحاولان الإساءة إلى شخصي ، رغم أنني لا أميل إلى العنف ، و لا أعترف به كطريقة وحيدة لحل المشاكل و النزاعات ، سواء بين الأفراد أو الجماعات ، إلا أنني فكرت في تلك اللحظة في أسوء الأشياء ، التي يمكن تقع بين شخصين أو أكثر في ظروف كظروفي .

توقفا أمامي دون أن أحس من جهتي بأدنى حرج أو خوف يذكر . طلب مني الشاب الطويل القامة سيجارة . أخبرته أنني في حوزتي سيجارة واحدة سأدخنها في الحين . قال الشاب الثاني و يداه في جيبي سرواله القصير ( إذن سندخنها معا ) ، قالها بنوع من المرح الواضح ،  قلت (إنني في عجلة من أمري و ليس لدي الوقت الكافي للسهر معكما . ورائي هدف لابد من قضائه ).لكن مع إلحاحهما اضطررت لمجالستهما في إحدى زوايا الشارع العام في الزقاق المظلم نفسه ، المقابل لحانة شعبية ، كانت مازالت مفتوحة أبوابها .

أنفاستطلع للأفق بعينه الصغيرة، فتراءت له أنوار روحانية تتراقص على ضباب كثيف بملابسها الشفافة، لتتشكل  كحوريات تسبح في فضاء شاسع، يبعث على السكينة والإلهام الفني.
مد يده إلى الريشة الملطخة بألوان قزحية، و أدارها بشكل مسرحي، كأنما يعلن انطلاقة البدء، كمايسترو لموسيقى بيتهوفن الشهيرة في وسط هذه الأوبرا الضخمة،  القماش أعلن التمرد و العصيان فرقصة الريشة لم تعجبه هذه المرة….  ، هناك خطب أكيد.
تململ الأستاذ "جواد" في جلسته وأخذ يحك شعره الأبيض بتمهل، ربما قد تسببت أفكاره الأخيرة عنها بكل هذا الشتات.
-        تبّا.. ما بالها ريشتي تاهت عنها رقصتها المعتادة، آه..يا إلهي.. بماذا أفكر لقد كبرت على مثل هذه الأمور، صحيح أنني أحس بوحدة قاتلة، لكنني تعودت الهدوء و الروتين معا. فكر في نفسه بصوت عال وهو يتأفف من حالته هذه.
فعلا، لقد كانت حياته هادئة وروتينية، إلى غاية ظهورها في حياته، بالنسبة له كفنان تشكيلي، يعيش وحيدا في منطقة منعزلة عن ضوضاء المدينة، مع سيجارته و كرسيه المتحرك، وحده صوت نباح كلبه "روي" من يخترق صمت المكان، و الآن فكره المشتت جعله سابحا لمدى بعيد، لا يدري أين المستقر، وهذا الأمر سوف يشكل له موقفا خطيرا،  قد يزعزع مساحة السكينة النادرة في نفسيته و كل قناعاته الشخصية ضد اقترابه من المرأة،  لكن بينه وبين نفسه يعترف أنها ليست كأي امرأة فقد وصفها يوما لصديقه "عبد القادر" بأنها "أميرة الروح الدافئة" تتسلل إلى قلبه بخفة الفراشة الحالمة...،  مما ترك لصديقه مجالا ليمازحه ويقول له حينها ضاحكا:

أنفاسكان منكمشا في أحد أركان الغرفة المتهالكة.. نظراته تتفحص الأشياء المبعثرة بشكل فوضوي على الأرضية المتربة ، وتحاول التوغل في كنه الأشكال التي نقشها التآكل المزمن ، والرطوبة المتواطئة على الجدران المهترئة.. يلذ له أحيانا في لحظات البياض وصفاء الذهن ، أن يتأمل تلك الأشكال ويتملى فيها .. لقد صاحبته منذ الصغر، ونمت مع نموه ، وهي بذلك ذاكرة أخرى ملازمة لملوحة عيشه .. يرى فيها صورا ووجوها وأجسادا وهمية ولكنها بالنسبة إليه حقيقته المطلقة.
انتقل طرفه في طرفة مفاجئة ، ليستقر على حذائه اليتيم .. ندت عنه آهة حرى دون قصد،وتماوجت مع غبار السنوات العجاف التي لا سمان بعدها ..تذكر اللقاء الأول مع هذا الحذاء ..أبحرت به سفن الذكريات إلى خرائب أيام خوال.. أيام كان طالبا في الجامعة ، كان يمني نفسه بجنة مستحيلة بعد التخرج.. تذكر دوامات الصراع الذي كان على أشده مع الجوع والبرد والمرض وكل طوابير بنات الفقر الأخرى .. دريهمات المنحة لاتكفي لتغطية عقيقة قطة جرباء..اللقاء الأول يكون دائما منقوشا في الذاكرة .. هكذا ترسخ الأشياء الأولى دائما .. تحفر وجودها ثم لا تغادر أبدا .. كان يوما متميزا من عنفوان الشتاء..يوم سولت له نفسه زيارة الحمام التقليدي القريب من الحي الذي يسكنه في العاصمة ..كانت الزيارة مرصودة منذ مدة ، ولكن كما يقال : كل شيء بأوانه والحاجة وازع لأية حركة..الزيارة كانت مموهة بالرغبة في إزالة الأوساخ المتراكبة على جلده في شكل طبقات مستورة بثياب كانت جديدة قبل أن يحصل عليها بثمن زهيد من( البال ) الذي غزا جنبات المدينة ..كانت الزيارة لمأرب أخرى مع سبق الإصرار والترصد..قادته النفس الأمارة توجهها حاسته الأخرى للقاء الحذاء ..

أنفاسها أنذا ألج أسوارك بعد غياب قسري طويل ..لا أدري..ربما يكون ذلك من منح القدر التي تستوجب الشكر .
لم تغير السنوات السبع التي قضيتها بعيدا عنك ، من شكل بابك الحديدي المستسلم لفلول الصدأ . رائحة عفن تنبعث بإصرار من مرحاض تركته يستجدي الرفق والإنقاذ ولا زال .
مقاعد متآكلة تلاشت معالمها وأضحت ملاعب غولف من كثرة الثقوب ، جدران مزينة بأقبح النعوت وأقذر العبارات ، فضاء أعد بفوضوية مزعجة ، جعلتني أومن شخصيا بأن مستقبل إصلاح التعليم لن يكون بخير، على الأقل في  أقرب الأيام .لم أكن أتصور يوما أن أجد نفسي في طابور طويل من المصححين ، ينتظرون آلاف الأوراق دون أي إحساس بالمسؤولية .
وجوه شاحبة ، ثياب بالية يزينها جمال العتق والقدم ، ...تفرق الجميع تلقائيا كالقطيع المروض مكونين أربع  ورشات ، إحداها خاصة بالإناث ،.. مساكين...هذا أول انطباع يمكن أن يأخذه المتفرس في ملامحهم والمتفحص لقسماتهم ،..صحيح أن أي واحد منهم لم يعد عدته لركوب هذه المغامرة ، اللهم من تسلحهم بأقلامهم الحمراء...
تحول الجميع بعد وصول أوراق التحرير إلى آلات بشرية مبرمجة  ، أشفقت على تلك الصفحات العصماء، وقد ملت من التقاط علاماتهم المتعبة ...بعد ساعة من طقطقات أقلام ترتطم بالأوراق موزعة كثيرا من الأرقام ، تهدأ الأكف المتعطشة .لتتوزع ابتسامات باهتة لا طعم لها ولا لون بين الكل .

أنفاسيتذكر البريق الذي فاجأه في ليلتهما الأولى.. ابتسامتها الدافئة التي أنقذته من الزغاريد المهللة خارجا.  لم تأت إليه مرعوبة أو مترددة. كانت تتوسط غرفة النوم مدثرة بلباس نوم أبيض شفاف. . في تلك اللحظة بالذات شعر بتيار ساخن يخترق جسده واستعاد شيئا من روحه الشابة.. تمنى لو أنه سمح للحلاق بأن يغطي الشعر الأبيض الذي غزى بعض رأسه. . انتصب واقفا، رفع رأسه في هيئة محارب وتقدم منها، واثقا...بقيت هناك، مستسلمة، دافئة بينما انقض على جسدها الفتي..
يتطلع إليها الآن، ذات البريق يسكن عينيها اللتين تحيطهما بالكحل:
إنه عمل طارئ، وسأتلقى أجرا مهما عنه.
وتستمر في وضع الزينة بيد مرتجفة.
انتهى الحلم  بعد ليال قليلة.. لم تتذمر  حين كان يخر على السرير متعبا.. لشهور ظلت تستقبله متى وكيفما أراد.. علم أنها تتقي به كلام الناس.. كانت على عتبة الأربعين حين اقترح إخوته أن يزوجوه بها.
إنها موظفة، وستتعاونان على تكاليف المعيشة. ثم إنك بحاجة للرعاية..
ثم أمام تردده المستمر، أردف أخوه الثاني:

أنفاسمع أذان العصر، وبعد أن انتهت الأم من نتف ما على وجهها وجسدها الرفيع الأبيض من شعر، وتبقع وجهها بالحمرة التي تخضب بها جسدها، أرسلت الأم طفلها حسان، عمره تسع سنوات، ليشتري لها فلقة صابون من السوق، وأعطته قطع النقود المعدنية المطلوبة بعد أن عدّتها ثلاث مرات وفركتها بين أصابعها مرتين، أعطته ثمنها بالضبط بلا أي زيادة أو نقصان، ورغم ذلك نسيت وطلبت منه أن يعيد لها باقي النقود وأن يمسكها بحرص، ويحكم إغلاق قبضته عليها باستماتة، وإلا ستقصف عمره إذا ضيعها.. وما إن خرج حسان من الباب حتى لحقت به أمه ووقفت عند العتبة كالعادة، مرسلة وراءه قائمة التوصيات الخالدة..
- امش على الرصيف يا حسان.. رح وتعال بسرعة يا بني.. أوع تزوغ هنا أو هناك.. خلي بالك من السيارات.. أوع تتأخر يا حسان.
أغلقت ألام الباب عائدة إلى الداخل.. مشى حسان على الرصيف مسرعا، وهو يضع النقود بين كفيه المغلقين ويخضهما قرب أذنه مستطعما صلصلتها، ثم دس النقود في جيب البنطلون، وأخذ ينقر الجيب بأصابعه الرفيعة فيتناهى إلى مسامعه خشخشتها التي تطربه فيستلذ.. وهو يلبس بنطلونا واسعا فضفاضا، فيحف به الهواء ويهفهف، ولو تمت إعادة تفصيل البنطلون من جديد فسيكفي لتفصيل بنطلون آخر وقميص مبحبح، وقد تزيد قطعة صغيرة تكفي لتفصيل قميص نوم نسائي..لأن البنطلون انتقل إليه من أخيه الأكبر منه بعد أن قصت الأم ذيله وثنته وخيطته قبل أسبوع، بعد صراع طويل مع ثقب الإبرة الضيق وهي تحاول لضمها، حيث انكسرت نظارتها الطبية من شهرين، لمّا سقطت عن التسريحة وهي تلقّط شعر حواجبها وتشذبه بملقط صغير..

أنفاسفي غابر الأزمان وفي قرية من القرى النائية ، كان يعيش صياد فقير ، وهو شاب في العشرين من عمره رفقة أخته الصغيرة . كل ما كان يملكه كوخ صغير ورثه عن أبويه المتوفيين منذ أمد بعيد . قوته اليومي سمكات يصطادها من البحر الذي يبعد عن كوخه مقدار ساعة من المشي السريع . كان يأخذ شبكته في كيس صغير من الخيش تاركا أخته الصغيرة تنتظره حتى يعود . كان الكوخ على مبعدة ميلين من القرية .لا يزوره أحد ولا يزور أحدا ، إذ كل ما كان يربطه بهذه الدنيا أبوان سرعان ما غادرا هذه الحياة تاركين إياه رفقة أخته الصغيرة .
   كان صديقنا الصياد الشاب يخترق غابة كثيفة الأشجار قبل أن يصل إلى شاطئ البحر ، حيث يلقي شبكته منتظرا ما يجود به البحر من سمكات قليلات ، وهو يخترق تلك الغابة كان يمر بشيخ عجوز يسكن كوخا بسيطا يتواجد في طريقه ، في الصباح تعود أن يسلم عليه ، فإذا عاد من صيده أعطاه سمكة من السمكات التي كان يصطادها ، ومع توالي الأيام بدأت الشبكة تتمزق بفعل الصخور الحادة . كان يرقعها ويصلح منها ما انقطع ، إلى أن أصبحت خيوطا رثة ولم يعد فيها ما يمكن إصلاحه ، حتى أنها بدأت تسمح للسمكات بالانفلات منها ، وشيئا فشيئا بدأ صاحبنا يعاني شح ما تمسك به هذه الشبكة ؛ ثلاث سمكات ، سمكتان ، سمكة واحدة ، فكان يحتار فيما يمكنه أن يقدم للشيخ العجوز . وفي أحد الأيام علقت شبكته في إحدى الصخور الحادة ، بحيث لم يتمكن من معالجتها إطلاقا . أصابه الذعر ، خاصة أنها وسيلته الوحيدة لصيد السمك ، فهو لا يملك ما يشتري به شبكة أخرى ، ولا يملك حقلا أو حتى نقودا يمكنه أن يشتري بها شيئا . لم يشأ أن يعود منذ الصباح إلى منزله ، ما الذي يمكنه أن يقول لأخته الصغيرة ؟  قضى نصف النهار جالسا على الصخور يفكر في محنته دون أن يجد حلا . مضى الوقت ثقيلا حزينا . وفي الأخير قرر أن يعود إلى المنزل ويقترح على أخته الرحيل إلى منطقة أخرى لعل الرزق يتسع ، وأرض الله واسعة .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة