رمت الشمس أشعتها الحارقة ، عم سكون تام أرجاء القرية ....يحق لك أيتها الطبيعة أن تفخري بجبروتك ، يحق لك أن تشعري بكامل الرضا ...ألست من أعجز هذا البشري المتباهي بذكائه ، لينسل خانعا ويخر راكعا ، مفضلا الانكماش والاحتماء من مزاح أشعة شمسك الوهاجة مع جلده المتهالك ؟
- كن رجلا يا ولدي .... عبارة أطلقها الأب العجوز وهو يودع ابنه ، بعد أن أنهى تعليمه بالقرية ، عبارة بليغة موجزة أجمل فيها الأب كل مكنوناته ، ربما لأنه لم يكن مستعدا بما فيه الكفاية لساعة الفراق هاته.
- سأحاول يا أبي ، يرد الفتى وهو يجمع حقيبته ويملأ جيوب قميصه بثميرات لوز وجوز، دستها الأم بين ثيابه في غفلة من إخوته الصغار .
- لا تعد خائبا ...ليس أقل من الشهادة الكبيرة .
- أجل يا أبي ...يكررها وهو يسابق الحافلة الوحيدة التي تصل القرية بالعالم الخارجي .
لاحقه الأب بعينيه الذابلتين ، حتى توارى عن الأنظار ، رمق السماء بنظرة توسل ، ثم ثمتم ببعض الكلمات التي لا يعرف كنهها سواه ، كان يعلم بأن ابنه الذي تربى منذ طفولته على قيم الرجولة والاعتماد على النفس ، يمكنه أن يصير شيئا ما .
مرت السنون بسرعة البرق ، اجتاز خلالها الابن نصف دربه الشائك ،...لابد من صبر أكبر من أجل إتمام الباقي ...هكذا نبس وهو يتذكر بفخر ممزوج بالتأثر تضحيات أبيه ، كان مستعدا لتقديم حياته مقابل تحقيق طموحات والده .
أوشكت الدراسة أن تضع أوزارها ..إنها السنة النهائية ، سنة التخرج وللنجاح فيها طعم آخر ، بدا حلم الأب وشيك التحقق لذا بذل الابن جهدا مضاعفا ....فجأة توقف كل شيء ، لقد انقضى العام ..أخيرا حصل على الشهادة الموعودة ...استغرب الابن كثيرا عندما لم يلحظ الفرحة المنتظرة على محيا زملائه الناجحين ، استفسر عن الأمر ويا ليته لم يفعل ، لقد سمع وابلا من ضحكات السخرية وسيلا من التعليقات الجارحة ، تأكد له إثرها أنه ليس رجل هذا الزمان ، تأكد أن أحلام الماضي ضحك على الذقون ، وآمال المستقبل ذر رماد في العيون .
لا يمكن لأي تأنيب أن يخفف حالته النفسية المتأزمة ،... أيمكن أن تكون خطواتي السابقة كلها متجهة بصورة محتومة ومشؤومة صوب الجحيم .
كتم الابن صرخة آتية من الأعماق ، لن يكسب شيئا من التأسي والتشكي ، انه يعرف حق المعرفة أن مجرد البكاء بصوت عال اعتراف علني بالهزيمة .
شعر بقواه بدأت تفلت منه ، ...أيعقل أنني أضعت عشرين عاما في العبث واللاجدوى ؟ يدمدم الابن وهو يفترش بقايا كرتون أمام مركز تشغيل الكفاءات .
داعب رأسه وهو يتذكر والده الذي أشاع في القرية أن ابنه البكر أصبح شيئا كبيرا .....مسكين أبي ..مضى زمنك وزمني ..كيف لم تنتبه إلى أننا في زمن الغاب ؟ لم لم تكن قطا من القطط السمان ،لأرفل معك في الديباج والحرير، وتجنبني هذا الدرب العسير ؟
إنها مجرد أوهام ..ابتسم ابتسامة بلهاء تشبه كثيرا سعادة المهلوسين .
أبي الحبيب ...خيبت ظنك ، لم يدعوني أصبح رجلا كما تمنيت..
بعد طول انتظار..أصبح الابن يفقد شيئا فشيئا كل ما يمكن أن يربطه بهذه الحياة ، صار أبله تماما ، انتابته اختلالات عقلية فظيعة ، ناجمة عن هوة عميقة من اليأس سكنت قلبه منذ تخرجه المشؤوم .
لم يسعفه إيمانه في بعث بذرة أمل جديدة ، ما عاد يطلب من هذه الدنيا سوى الرحيل ..لم يستطع المسكين طرد روح العطالة التي لازمته ، أعياه التنقل وأضناه السؤال ، أنساه المشي الكثير متعة الجلوس ، كانت عزيمته تصطدم بكل شيء ولا يحصل في النهاية على أي شيء .
في دوامة الألم المستفز ، أحس الابن بعدم النفع ، سيطر عليه السخط فبدأ يطلق الضحكة تلو الأخرى ، ترك لسانه يتدلى ومعه سيلان من اللعاب ...لم أصبح رجلا... لم أكن يوما رجلا ...اذا كان ثمة مسؤول عن هذا ، فلست أنا بالتأكيد ..هذا كل ما أريد قوله يا أبي ....
أحمد السبكي المغرب