أنفاسكان يقرأ خاطرتي الجديدة " عذابات خيال" ... كان يقرأها بصوته العذب الشّجيّ : " نقشت رسمك في البال... بأبهى ألوان الخيال...توجّتك أميرا في الحال... على مملكتي في عالم الجمال! " .
كان يقرؤها ، وعلامات الإعجاب على محياه تتلألأ :"عبرت معك بحرا من الأهوال ... وركبنا كل صعب محال..."  ...
كان يقرأ ويتذوّق كلّ عبارة ويتأمل كل صورة ... كان مستمتعا بما يقرأ: " لكن هل تدوم متاهات الخيال ؟ لا يا صديقي هذا محال  " ... ما إن قرأ تلك الكلمات الأخيرة حتى أطرق صامتا مذهولا... ثمّ انتفض من مكانه وأخذ يدور في أرجاء الغرفة كالطّير المذبوح ، ويهذي باسمها  " سامية ... سامية ... سامية" ...
خشيت عليه من الجنون ،فهرعت إليه : " محمد...محمد...محمد " . فتنبّه إليّ وأنا أنادي عليه ...أطرق هنيهة... ثمّ توجه إلى كرسيه بخطى ثقيلة وارتمى فيه وهو يردّد: " لكن هل تدوم متاهات الخيال ؟ لا يا صديقي هذا محال  ! " ...
ثمّ راح يسرد لي حكايته:
 " كان لي يا عزيزتي صرح من خيال ... بنيته مع ساميتي أميرة الجمال ... شيّدناه في ليال طوال ... لكن عصفت به الأهوال...فهوى وضاعت معه كلّ الآمال! 

أنفاسبمشقة وعناء يزحف الصبي نحو السادسة عشر من عمره، جلد وجهه اسمر و مليء بحب الشباب، وبثور لها زيوان صغير أسود كلطع الذباب. توضأ الصبي وصلى العشاء، ثم ذهب وحده نحو الدكان الذي يريد أن يسرق منه قطعة شوكلاته بالبندق، لقد قرر أن يسرق وحده بعد أن غدر به شريكه في السرقة، ولم يعطه نصيبه في آخر مرة سرقا فيها معا، رغم اليمين الذي حلفا به في آن واحد، وفي آن واحد وضع كل منهما يده على المصحف وهو يحلف أغلظ الأيمان على أن يسرق بإخلاص وضمير، ثم تمتما بالفاتحة لتأكيد اليمين على أن يسرقا سوية واقتسام ما يسرقانه بينهما بالنصف، بحق الله بلا أي خيانة أو غدر.. وفي سره راح الصبي يشتم ويلعن صاحب الدكان الذي يضع الشوكلاته على الرفوف العليا، بعيدة عن متناول اليد، وفوق هذا كله يجلس وسط دكانه متحفزا ومفتح العينين، مما قد يفسد عليه خطته التي جهزها في عقله ليلة البارحة، وسهر عليها معظم الليل يقلبها في رأسه حتى اكتملت معالمها وصارت خطة محبوكة.. وفي نفسه أخذ يؤكد أن صاحب الدكان بخيل، الله لا يمسي وجهه بالخير.. آه لو أنه يبتعد عن الدكان لمدة دقيقة واحدة لا غير، فليذهب إلى أحد مخازنه الكثيرة لجلب غرض ما، أو يذهب إلى الحمام ليقضي حاجته، أو يذهب إلى جهنم الحمراء.. خطا الصبي إلى عمود النور المقابل للدكان، إلى الجهة الأخرى من الشارع، هو عمود نور تشع لمبته نورا ضعيفا شاحبا اصفر، كصفرة بياض عين إنسان مصاب بمرض في الكبد، وبالكاد يستطيع نوره اختراق الظلمة بعد عناء مع زجاجه السميك المغبر، وكفاح مستميت مع العتمة المكثفة في المسافة الفاصلة بين اللمبة والأرض، فيحس من يقف في المكان أن للضوء آلام وأنين..

أنفاس… ها هو السيد "سين" يعبر البوابة الكبرى كعادته، وجهه مدثر بمسحة حزن، وجسده النحيل ملفوف في معطف حائل اللون، بفعل التقادم، يتأبط تحت ذراعه الأيمن محفظة عجفاء ضامرة تعكس خواء ما تحتويه، ولا تعطي صورة حسنة عن حاملها.
بعد أن تخطى العتبة سار في المجاز، أسند دراجته الهوائية على حائط المبنى، وانسل بين الصبايا والصبيان يداري خجله، وهم يحاصرونه بنظراتهم المستفسرة عما ينتظرهم اليوم. في الرواق، وقف خلف آخرون، فرادى ومثنى وزرافات، يقتلون ما تبقى من الوقت، أو يمزحون على سخف، بعضهم يصوب نحوه نظرات فضول وهو يتجاهلها … الكل يتثاقل في مشيته، ويتبرم من نظامه اليومي المكرور، ويستأخر موعد "المواجهة" الجديدة ...
في طرفة عين، وجد السيد "سين" نفسه جالسا إلى منضدة فوق مصطبة، أمام حشد من الأطفال يلغطون ويفجون، نقر عليها لإخراسهم ولفت انتباههم، لم يكترثوا، واصلوا أحاديثهم، هوى ثانية بعصاه على المكتب الخشبي. فجأة سرى بين الأطفال شيء كتيار الكهرباء، انخرسوا وحملقوا فيه فاغري الأفواه، في تلك اللحظة سدر وانخطف لعله تذكر أشياء كثيرة، ومر أمامه شريط عديدة صوره : تذكر تجهم البقال الذي يعول عليه في إمدادات الأسبوع، والجزار الذي أوقف تعامله معه بسبب تأخره المتكرر في التسديد، تذكر والدته العليلة، وأخاه المتوعك، ووالده المفلس، وعمته المفجوعة، وتذكر أن في بلده، ليس هناك مستشفى للفقراء، ولا دار للعجزة، ولا مأوى للمشردين، ولا مؤسسة للخدمة الاجتماعية ولا … ولا …

أنفاس… بعد أن أجرى الفحوصات الضرورية على المريض، اقتعد الطبيب كرسيه المتأرجح، حملق في وجه معيده، حرك رأسه أفقيا، كزّ أسنانه ورسم على محياه سمات الجد وقال :  
قبل أن أسلمك وصفة الدواء، أنصحك أن تتجنب الاهتياج والانفعال والتوتر … روض نفسك على الاسترخاء والدعة والسكون.
جرجر السيد سين قهقهة صفراء وأجاب.
ولكن، كيف يمكنني ذلك يا دكتور وكل ما يحيط بي مزعج وموتر : مناكدات الزوجة، صخب الأطفال : أطفالي وأطفال الحي، صرير الأبواب، زعيق السيارات، دسائس الزملاء في العمل، نشرات الأخبار المزيفة، و… و …
أنت تعقد الأمور كثيرا، وتطلب المستحيل. تلك أمور بسيطة يمكنك التعود عليها.
آه يا دكتور، يمكنني التعود عليها ؟ لا، لا، لا أستطيع، أعصابي لا تحتمل ذلك.
طيب، بقي أمامك حل واحد.
ما هو يا دكتور ؟
اشتر لك ثلاجة وألف بأعصابك هناك.

أنفاسجلس ذو البطن المنتفخ على كرسي وثير ، وقد تدلت قطع من اللحم على جنبات الكرسي ، بطن منتفخ مترهل ، أمامه طاولة عليها كأس عصير وعلبة سجائر ... تقدمت منه الخادمة الصغيرة ، الشابة النحيلة ، تقدمت بخطى وئيدة وجسدها يرتعش ، لقد كانت تعرف عنه القسوة والشدة والصلابة ـ طبعا ـ على الضعاف أمثالها ، وقفت على بعد متر تقريبا ، انتظرت أن يرفع بصره ، هو لم يلتفت إليها ، هي لم تجرؤ على مخاطبته حتى يأذن لها ...طال انتظارها ...استمر الأمر دقائق ...سرحت بعقلها وخيالها بعيدا ، فجأة سمعت صرخة مدوية : ماذا تفعلين هنا ؟ كيف تقفين أمامي كالصنم ؟
ـ سيدي ...
ـ انصرفي يا...
ـ سيدي أ....أ....
    لم يسمح لها بأن تتفوه بكلمة واحدة ... أمسك علبة السجائر ، قلبها بشكل يسمح له بأن يتأمل ، يبدو أن أمرا ما يشغل تفكيره ...فجأة صرخ بأعلى صوته : فاطمة ...
    تقدمت منه زوجته بخطوات سريعة ، زادت من سرعتها أكثر حينما لمحت صفرة وجهه ، اقتربت منه ووضعت يدها على جبهته : ماذا بك أيها الرجل ؟ أمسك رأسه بين يديه ، أجابها بصوت تملأه حشرجة : لا أدري كيف سينتهي هذا الأمر ؟ أرجو ألا يصاب بأذى . سألته زوجته ماذا تقصد ...؟

أنفاسليلة مقمرة اقترب فيها القمر كثيرا من الارض , نادر ان يصادفها الانسان ويستلذ بتذوقها , لكن  كائنا واحدا من بين كل كائنات الارض كان غارقا في سهر لا إرادي  ولا شعوري يعزف ويرقص وحده  وبنشاط وجنون,  شاعر لا حبيبة  ولا جواز سفر ولا وطن له....
كان يرقص في خفة ونشاط و.... يرقص
لعل منزله الريفي القابع في سفح مجاور لقمة جبلية شاهقة , أيقظ فيه شهوة الرقص والسهر وسرقة  لحظات متعة الاغتسال بنور رباني خالص قلما تتكرر.
رقص ورقص , رمى ورمى ما عليه حتى صار أشبه بطفل متحرر من كل ما يحاول البشر أن يستتر به، أدرك أن  الحرية هي أن تتحرر من قيود داخلية  قبل أن تتحرر من قيود خارجية.
قرأ القصيدة للقمر, وأعاد قراءتها للنجوم , كان سعيدا  يحلق ويحلق والقمر يبتسم والنجوم خجلى وهو يغازلها!  تارة تغمزها عينه وتارة يحاول أن يتعمد الحملقة فيها ليغالبها الخجل وتخفض بصرها.
رقص ورقص , لكن قطرات الدم التي نزفت فجأة أفسدت هذا الرقص ,  فرفع عينيه الى القمر , فبدا له ينزف , أسرع الى خزانته المكسرة يبحث عن ضماد ومطهر لجرح القمر.

أنفاسفي مقهى من مقاهي وسط المدينة ... المدينة التي لا اسم لها ولا رسم ، لا ملامح ولا معالم ، جلست ، وبعد أن انتظرت لحظات هذا النادل البئيس ، بدأت التأمل... المتسولون كثيرون ؛ من حيث العدد ، وكثيرون من حيث الصفات : نساء ، أطفال ، شيوخ ، " شماكرية " ، معوقون ... ألوان مختلفة : أسود أبيض أسمر... أشكالهم متنوعة : طويل ، قصير ، متوسط ، وشكل رابع لا هو هذا ولا هو ذاك ، لا هو بالقصير ولا هو بالطويل ... نصف جسم ، يسير أو يزحف يمسح الطوار بعجيزته ، يتحرك حركة لا تعرف اليأس والقنوط ، لا يستسلم ولا يمل ... عجوز تجلس على الطوار تفرش قطعة " كرتون " ، تلتفت يمينا وشمالا ... لا تفلت أحدا إلا وأشارت إليه بيدها آملة أن تجود يد هنا أو يد هناك ... ما أكثر من يرفعون أيديهم ويخفضونها ، كناية عن : " الله غالب " ... في البداية كان المتسول إذا ألح إلحاحا ، سمع عبارات يتناقلها الخلف عن السلف : الله يساهل ... بحالي بحالك ... أو تتخذ شكلا استهزائيا : ما فايتك غير بطجاكيطا أو عبارة ماسوﯕرت ليك والو ... ومع توالي الأيام وتكاثر المتسولين بدأ الزبناء أو من يفترض فيهم أن يكونوا زبناء لهؤلاء المحترفين ... هؤلاء الذين اختاروا مهنة لا تقل عن المهن الأخرى دخلا كما لا تخلو من متاعب ـ كما يزعم أصحابها ... بدأ الزبناء يشيرون بأيديهم ولا أحد منهم يجيب ، ما جدوى أن تجيب ألف متسول؟  وما جدوى أن تلومهم أو حتى أن تنصحهم ... ما أكثر ما لا جدوى منه ...في هذه المدينة ، مدينة الملاهي ، المدينة القديمة الجديدة ... المدينة العريقة الكريمة المجيدة ... المدينة الحديثة العاهرة المتبرجة ... جنة الأثرياء والفتيات الجميلات العاريات وغير هؤلاء وأولئك ، من الشاذين جنسيا ... مقبرة الفقراء والمتسولين والمعوقين من كل الأشكال والألوان والصفات ، المدينة بفنادقها وعماراتها ... القرية بدروبها وأزقتها وإداراتها ، فقر معرفي وجهل ثقافي ، كثير من أهلها حتى لا أقول كلهم لا هم له إلا الطعام والشراب والنكاح ... واستقبال السياح وإرضاؤهم بما لذ وطاب من الطعام والشراب والكسكس والفتيات لذيذات الطعم البهيات الشكل والصورة...

أنفاسحين يفقد الإنسان كل شيء، و حين يلتفت يمينا و شمالا فلا يجد إلا نفسه..يحاول أن يفهم ما الذي يجري و أين مضى كل أولئك الناس الذين كانوا يحيطون به قبل قليل...يقلب كفيه، يجول ببصره، يحاول أن يصيح...يجري وراء الناس ليمسك بتلابيبهم حتى لا يفلتوا منه و يدَعوه وحيدا...لا أحد يكترث به، كلّ منهمك في أشغاله و كل ماض في دربه نحو مبتغاه...ينظر إلى كل واحد منهم، يحاول أن يقتفي آثارهم حتى لا يبدده الجمود، يخطو خطوة مترددة نحو الأمام و خطوتين نحو الوراء...تمزقه الحيرة و تتقاذفه الرياح...تتجمع غيوم كثيفة أمام عينيه، تحجب عنه الرؤية، يمر من منعرجات و عقبات، غير أنه لا يبصر بوضوح، تخبط قدماه خبط عشواء، يحس أن الوحل يصل إلى فخذيه، يتملكه شعور بالضياع و الذوبان في الظلام...يحاول أن يفعل شيئا لا يعلمه، لكن يديه لا تساعدانه لأنهما شُلّتا فجأة...السيارات تمر بسرعة خاطفة في المنحى المعاكس، تنعكس الأضواء على وجهه..يود لو أنه مثلهم، لو أنه يتحرك في اتجاه معين، لكن لا شيء في كيانه يؤيده، كل شيء مدمر و كل شيء يحتاج إلى ترميم...لكن من سيرمم نفسه غير نفسه؟!....فكم مرة مد يده في الظلام علّ فاعل خير تأخذه رأفةٌ فيمسك بها ويقوده معه في دربه...لكن لا سميع لاستغاثاته...
يقف أمام المرآة حتى يحس بوجود كيان آخر بقربه، صورة مشوهة عن نفسه ترتسم في المرآة، يندهش، يرجع إلى الوراء حتى يتبين حقيقة الشخص الماثل أمامه...إنها نفس الملامح، لكن الشيب يعلو شعره، و التجاعيد قد غدت وديانا في وجهه، و العينان أصابهما غور شديد...يكاد يصاب بالجنون، ما الذي حوّله إلى هذه الجثة المتحركة؟!...يرجع البصر كرّتين علّ الصورة تتغير..لكنها لا تزداد إلا بشاعة...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة