أنفاسوراء تلال نتأت كالورم ،ودعتنا شمس نهار قائض وقد تكفنت وسط احمرارخالطه سواد طفيف.
أسراب طائر البلشون بدت سوداء رغم بياضها،عائدة تغازل هدوء السماء دون حفيف يسمع. تشكلت مرات كرأس رمح أو كانفراج سبابة وإبهام طفل يحلم بنصر ما... فشكلت فاصلا يملأ فراغ صمتنا ، نلاحقها بنظراتنا إلى أن تغيب.
مشينا بمحاذاة سكة القطار،السكة التي هربت خيرات مدينتي وخرب كلاهما عشرات الأسر، كانت أسرة فريدة واحدة منهن. قضى والدها تحت أنقاض جبل انهار حين كانوا ينهشون جوفه.لازال هناك إلى أن يستخرج كما تستخرج الآن بقايا قرش انحسر عنه الماء ذات تشكل بعيد.
جلسنا بعد أن كادت البيوت تتوارى وراء ظلمة خفيفة،بعض الشوارد من البلشون مرت مارقة كالسهم.حدثت فريدة كيف كنا صغارا نتسلى باصطياده:"
كنا نلقي بمعي محشو بصنارة يعلق به بمجرد ابتلاعه..."
علا صفير قطار آت عبر التواء يخفيه،سبقه اهتزاز ثم مر مخلفا غيمة غبار أدمعت أعيننا.الإضاءة الداخلية للمقصورات عكست وجوها التصقت بزجاج النوافذ،بعضهم أومأ بإشارات مخجلة...
تذكرنا رحلتنا إلى العاصمة وعناء الحصول على خرائط تعين فريدة في بحث اعتبرته شاهدا لقبر لم يوجد،أهدته لروح والدها الذي لم يكتب لها أن تراه:" إلى روح والدي الذي عانقه جبل تراب".

أنفاس".. كانوا يُسافرون في قطار – أذكر ذلك الآن- غالبني ماراودني مثل هذا الحلم – مثل الطبيعة الصامتة المرقّشة بأشجار صناعية زائفة مثقلة الأغصان بفواكه من الأمواس و المقصات و ادوات حانوت الحلاق المختلفة – أذكر الآن أنه كان يتعين علي قصي شعري – تراءى له ذلك الحلم كثيراً، لكنه لميثر قط ذلك الخوف في اعماقه. هنالك خلف أحدى الأشجرا و قف أخوه، الآخر التوأم، ملوحاً – حدث لي ذلك في الواقع في مكان ما - لكي يوقف القطار. و لما اقتنع بعبث الرسالة التي لوّح بها شرعَ وراء القاطرة الى ان سقَطَ لاهثاً و فد غطّى الزَّبد فمه. كان ذلك حلمه العبثي اللاعقلاني بالطبع، و لكن لم يكُن ثمّة مايدعوه لأن يحدث هذه اليقظة المزعجة. أغمض عينيه من جديد، ولايزال صدغاه ينبضان بدفع الدم الذي سرى هاتفاً في عروقه مثلما فبضة مُطبقة. مضى القطار الى منطقة جدباء، مقفرة، تثير الانقباض في النفس. جعله ألم أحس به في ساقه اليسرى يصرف انتباهه عن المناظر الطبيعية. لاحظ أنه في أصبع قدمه الأوسط- ينبغي ألا استمر في انتعال هذه الأحذية الضيقة. كان هنالك تورّم. وبصورة طبيعية، و كما لو كانت تلك عادته، انتزع من جيبه مفكّاً، وانتزع رأسُ الورَم به. وصغه بعناية في صندوق صغير أزرق- هل بمقدورك أن ترى ألواناً في الأحلام؟- ولمح متطلّعاً من خلال الجرح نهاية خيط دهني أصفر. جذبه دون ان يستشعر ضيقاً او ألماً. بعد لحظة رفع عينيه، فرأى عربة القطار خاوية و أن الوحيد الباقي في عربة أخرى من القطار هو أخوه، الذي يرتدي زي أمرأة، و يقف أمام مرآة محاولاً اقتلاع عينه اليسرى بمقص. .."

أنفاسخلف زجاج النافذة الشفاف جدا , استغرقت في رياضة تأمل عميقة , مشهد امرأة مصلوبة  نحتها الدهر كحورية من بقايا الاغريق , جسدها الللامع كأنه  بضاعة عرضت لمستهلكين مفترضين.
خلف نفس الزجاج طفل يتسلق هذا الجسد بعناد وبغريزة جنسية, طفل في حجم شعاع الشمس لكنه  كان يتأبط  نجمتين, ويتسلل بخفة الى عيني هاته الحورية , وخمنت أنه سيضع هذين الكوكبين المشرقين خلف عينينها الموصدتين.
 خلف نفس الزجاج رأيت الطفل ينجذب الى فرج الحورية ليختفي ويولد من جديد أصغر مما رأيته , في حجم كف اليد  وأصابعها.
بعد ذاك رأيت الطفل يتملص من زجاج النافذة , ودون أن يتكسر , لكني وخلف  نفس النافذة رأيت الحورية تتفتت , ومن هذا التفتت رأيت كواكب تتشكل ونجوما تلمع وكونا يتشكل.
 بعدها اكتشفت أن الطفل تسلل في غفلة مني الى جمجمتي , واكتشفت أني حي أتكلم , ولكن بعدها سمعت اطلاق رصاص كثيف داخل هاته الجمجمة, وغليانا أشبه ببركان ثائر لافاته تتدفق داخل كل جسدي.

أنفاس أسند إبراهيم ظهره إلى الحائط، وسحب رجليه متلاصقتين متخذا من ركبتيه متكئا لذقنه، وأرسل وجدانه يلملم جراحا مبعثرة من ماضيه،  تمتد غائرة متقاطعة كنسيج العنكبوت، كل خيط يهتز منها، يهز الشبكة كاملة.
كانت أمه حزينة، ومازالت ،حزينة لأن الأيام كانت تعاكسها ، مات زوجها الثاني واستمر الحفر في عمق الذات ،كانت خناجره تقطع أوصال الروح وترمي فتاتها لديدان الهم ،  فترسل الروح نشيجها تمتصه حافات الشعاب المحيطة ذات الألوان الشهباء المصفرة وقد تعلقت بها أشجار الطاقة والصبار.
 وكثيرا ما كان  إبراهيم  يتساءل وهي تهز أخاه الأصغر فوق ركبتها : هل هي تغني باكيه  أم تبكي مغنية!؟ .
– ما سرك يا أماه!؟ و من أين يغزوك هذا الأسى !؟، يهم بسؤالها ولكنه يتهيب، فيندفع كالسهم خارجا كي لا تمتد جراحها إلى وجدانه.
يهيم إبراهيم على وجهه مشردا ، يقفز من حجر إلى حجر ، يعتلق بهذا الغصن ثم بذاك ،يكسر ما استطاع تكسيره، يلتقط  الحجارة ،  يقذف بها الغيلان التي تحاصر آسرته ؛ يشعر بوجودها ؛ تطل عليه من وجه أمه ولا تغادره يغني يصرخ ، ينادي تدخل حفيدته .
- ما بك يا جدي، لم تنادي
- لا شيء، لم أناد يا بنيتي.

أنفاس.." قل لهم بأنني لن أرجع,لا يوجد شيئ يحملني على البقاء في هذي البلاد,أنا ميت في كلّ الأحوال, ولياكلني الحوت ولا ياكلني الدود .." .. [ رسالة عثر عليها في قميص حرّاق جزائري مات غرقا قبالة السّواحل الإيطالية ]
*****
..يجلس أربعتهم على شاطئ ما,قد يكون أحد شواطئ عنابة,الجوّ مشمس والبحر هادئ والرّؤية التّخيلية البعيدة تغري لمن سولت له نفسه التّحديق برغبة وتمني في أثر حلم الأرض الموعودة, الدورادو ضريبة الموت المصنّفة حسب كتالوج عولمة اتخذت في بادئ الأمر شكل نبوءة حضاريّة واعدة لكنّ فيما بعد انكشفت الخديعة وظهر الاليزيونيست المتلاعب على حقيقته و انشطرت حيله البصريّة الآسرة الى ما يشبه اللّعنة المتفشيّة في حواس غلبتها الغيبوبة على الاستيقاظ,العبودية على الانعتاق والإعجاب المهووس على التّحرّر التّام,ضريبة موت محصّلتها كشوف اسميّة عديمة الأهميّة لغرقى ومفقودين ومجهولي الهويّة في حضيض الوطن الفوضى والانهيار,وطن مريض الوهم التّاريخي يقرأ معالم مستقبله بالتّنقيب بين رفات أمجاده الماضويّة الغابرة طواها القدم والنّسيان مؤسّسا لثقافة تمسيح الموت وتمسيخ الحياة[البحث عن العظام,الطاهر جاووت], يتحدّثون بحماسة وإعجاب عن سيرة مهاجرين عصاميين كلاسيكيين جعلوا من مغامرة اللاممكن والمستحيل نجاحا باهرا و انتصارا مذهلا على عقدة الفشل هي مكتوب إنسان الجّنوب الملعون حسب الرّواية الشّائعة بين عامة الّناس القائلة ان هذا الانسان ان لم تغتله ديكتاتوريّة الزّمر والسّلط التوتاليتارية والحروب الأهليّة وفساد الأزمنة والأمكنة والانتحار فالهجرة هي خاتمته الأقل تراجيديّة من أضعف الإيمان.

أنفاسقدَري إمرأَةٌ نَيِّقَةٌ
تَقْتَرِفُ الخطايا العَشر
على أنغامِ العود !
وحكمَةٌ تُبايعني على كُلِّ شيءٍ
إلاّ الجدوى !
قَدَري
 أنْ تُعاصِرَني ألسنةُ النيرانِ
وتَعْصُرَني أطواقُها الثُعبانيَّةُ
بكُلِّ لَذَّةٍ وانخِطافٍ
قالوا : ليستْ نيراناً هذهِ
إِنَّما نجمةُ الصباح
قُلْتُ : حتى أنتِ يا نجوم ؟!

أنفاسمحاولتي أن أرى آخرَ النفقِ الآدميِّ مكللَّةٌ بالجنون
وفهمي يجللِّهُ العقمُ
قلبي يجللِّهُ حلُمٌ مزعجٌ
وأنا في اندهاشٍ غريبٍ عجيبْ
محاولتي لا تلامسُّ من حكمةِ الشيءِ غيرَ الرخامِ الرتيبْ
 
أناسٌ يجنُّونَ قبلَ الثلاثينِ , تصدأُ أرواحهمْ كالحديدِ الجديبْ
أناسٌ يجنُّونَ , ينتحرونَ , بأوجِ احتفاءِ الربيعِ بهم يذبلونَ بلا حكمةِ الصيفِ
ينكسرونَ , كأشجارِ رملٍ , لكلٍّ طريقتهُ حينَ يعلنُ لعنتهُ , حينَ يطفىءُ وردتهُ
آهِ قبلَ الثلاثينَ , قبلَ الثلاثينَ
هذا بلا سببٍ , ذاكَ شيطانهُ بلغَ الحلمَ , ذا يتنصلُّ من نفسهِ أوَّلاً ثمَّ من زوجهِ

أنفاسأخذت الطريق المعبد المؤدي إلى مكان العمل.انه طريق طويل بعض الشيء عن الاتجاه الآخر الذي كنت أسلكه عادة.و يسلكه أغلب العاملين معي خاصة الذين يسكنون قريبا من مسكني. كنت قد قررت منذ البارحة أن أغير اتجاه طريقي لأقضي على الروتين الذي استوطنني منذ مدة.أٌقول منذ بدأت العمل بهذه المؤسسة..يوم ولوجي إليها، أخذت مكتبي بين الموظفين الآخرين، و كان أغلبهم تجاوز سن الأربعين و بدت عليهم علامات الكبر و الترهل في الحديث و في العمل حتى مشيتهم تراجعت و لم يعد لها أي لون.قلت لنفسي" يستحيل أن أتحول إلى شبح يقضي وقته مسجونا بين هذه الكراسي و الحيطان." كم ضحكت على أحلامي في هذا الصباح خاصة بعدما أدركت أنني تجاوزت السنوات العشر و أنا أعمل بهذه المؤسسة."لقد هزمني الزمن."أكملت طريقي علني أجد شيئا جديدا لم تألفه عيني من قبل.هناك أجساد تتمايل يمنة و يسرة، و عيون بلهاء تحدق في الفراغ أو ترى أشياء أمامها.صور مألوفة لا جديد. كأنني بنفس الشارع الذي ألفته في السابق.تثاقلت خطواتي و تمنيت أن أظل على هذا المنوال و لا أصل إلى مقر عملي. فجأة،و أنا أتجاوز مجموعة من الأزبال  مرمية على حافة الطريق،لفت انتباهي قطيع غنم يحاول راعيه أن يجنبه مخاطر الطريق.فكان في  كل مرة يلوح بعصاه في الفضاء و يخرج أصواتا مبهمة لا يفهمها سوى القطيع.و في الخلف، امرأة مسنة، تجر كبشا مشاكسا من بين القطيع و يساعدها طفل صغير لم يتجاوز بعد سن الطفولة.ملحفة بغطاء أبيض و تضع على رأسها رداء من الصوف و لا ترى سوى عينيها الضيقتين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة