أنفاسآب السيد "سين" إلى قريته التي غادرها – قسرا – منذ ما يربو عن عقدين من الزمن، في الطريق أنشأ يستعرض ملامح معارفه الذين تركهم منذ ذلك التاريخ، ترى كيف سيكون عليه حالهم؟ هل ما زالت الابتسامة ترتسم على الوجوه؟ هل لا زالت قهقهات الأصحاب تتعالى، وهم يتجادلون بصخب؟ هل ما زالت عجائز القرية يغمرن بالحب والحنان كل مار بهن؟ وهل ما زلن يرشقن الصغار بدعوات الخير والبركة؟ … سيل من الأسئلة تدفق على السيد "سين" منهمرا، كالشلال وانبرى شريط الأحداث والوقائع : وقائع "ولدنات" الصبا يمر أمام عينيه، كمناظر الحقول التي يطل عليها من نافذة سيارته من نوع (فياط 127) … وهو في طريقه توقف مرات متكررة، في هذه المقهى وتلك، في هذه البلدة أو تلك، يقهي ويستريح لحظات، ليعود فيستأنف المسير، تهدهده مشاعر رقيقة، وتتراءى له أحلام جميلة، لا يكدر صفوها إلا يقينه من أنه لن يتملى برؤية وجه عزيز رحل من قبل تاركا في قلب "السيد سين" ندية لا تفتأ أن تنكأ …
أخيرا ها قد وصل إلى قريته، غاضة، منذ أول وهلة، تبدلت أحوالها سلبا : أشجار البرتقال التي أعطت بسخاء في أعوام طفولته صارت بخيلة وشحيحة، والإجاص والتين وكروم العنب أضن، منها من ذوت وبرزت أحشاؤها الجرداء، نضارة الوجوه غز تجاهها عيد العمر والبؤس، الابتسامة برحب الوجوه، فاسحة المجال للعبوس والوجوم، جراثيم الكراهية بدأت تنخر الأجساد والناس "يأكل" بعضهم بعضا. حتى الطيور لم تعد تغرد كما كانت.

أنفاسيكفُ مبارك عن " فلي " ياقة  قميصه ٬ يتفقَد مذياعه الذي يشتغل بدون مؤشر المحطات ٬ يجرب المذياع على محطات مختلفة ٬يلوك شتيمة ٬ قد يكون المشتوم مذيعة أو رئيس نشرة الأخبار أو مديرا أو وزيراً ٬ يضع المذياع جانباً  حين ينال كل فرد حظَََََّّّه من الشًتائم٬ يرتب صفحات الجرائد والأوراق وبيانات الأدوية ويركنها في مكان من مخبئه الذي اتخذه في ركن من الحديقة العمومية المتهالكة  ٬ يضع إطار نظَارة على عينيه وينحدر نحو مركز المدينة .
يبدأ جولاته أمام الدَكاكين٬ يسأله أحد المارة .
كيف حال الدنيا٬ يا مبارك !!
كي  الزفت . !!
يجمع أعقاب السجائر ، يلتقط صفحات الجرائد وأوراق المجلات وعلب" الكرتون ".  يكدس الأوراق بعضها على بعض ثم يبدأ في قراءتها ٬يضحك ٬يقهقه ٬يسجل ملاحظات هامشية في أعلى الصفحات ٬يبصق ويبصق ٬ يفتح حوارًا مع شخوص الصٌور التي تمر أمامه على صفحات المجلات ٬يبصق ثم يبصق ٬يتملَكه غضب مفاجيء ٬يلوك شتيمة ٬شتيمتين٬ يطير الأوراق عالياً وعالياً تطير الأوراق٬ يسمع زقزقة العصافير٬ تتوزع العصافير الوهمية في الفضاء ٬ يشيعها بنظرات الإعجاب وفي لحظة٬ تهوي العصافير٬تتجمَع الأوراق عند موطئ قدميه ٬ يجمعها  ٬يرتبها ويعيد قراءتها٬ للمرة الألف يعيد قراءتها وللمرة الألف يضحك وللمرَة الألف يقهقه وللمرة الألف يطير الأوراق عالياً وللمرة الألف يسمع زقزقة العصافير .

أنفاسهذا الصمت المشروخ الوجه ، ليس كباقي عطور صمت الرجال النابتة ، في حقول خريطتنا العطشى ، و التي ما فتئت تنمو ألوانها الحالمة بنور حجارة حارقة ..، و كالأفكار البريئة هذه الأمواج البطيئة تخترق الكائن ، .. هي بلا شك ، في حاجة إلى دفعة أخرى ، من سحر عصا موسى ، حتى  يزبد البحر ، و  إلى مجراه الغريب يعود النهر غانما و طليقا  .
 لم تعد تقوى عيون غربال شيخ القبيلة ، على إخفاء ما يجري داخل أنفاق الغابة ، من تفاصيل دامية ، صارت تفوح برائحة الأجساد المنهكة حتى الثمالة . و بشط من نار و تراب ، ها هي ذي فراشات المدينة المتفحمة تصر ، على تحقيق هذا التحليق الأبدي ، وراء نجمات جبال عبد الكريم الحزينة ، لكن قيل : إن كل من جدٌ ، داخل خندق ، مخدوع يصنع الجرح الغائر في أرواح الشجر  ، حتما سوف يصل  ، إلى بداية طريق الشوق العظيم . أما صناعة الجراح ، بماركة مسجلة في معامل تلفيف سواعد الوطن ، فتبقى أمتع لعبة تمارسها خفافيش مغارات مدن البؤس  ، بتواطؤ  عار من أوراق التوت ، مع ربان سفينة تائهة ، حبلى بعلامات شقوق الرعب البليغ .
 هي  مساحات الكلمة الحرة المشتهاة ..أنشودة ترانيم جحيم الأسئلة الصعبة ، و بريشة فنان ، تكتبني هذه المعاني المغسولة السواعد بيقظة التوقع الجميل  ، لتختصر إشارات  تلك المسارات  الطويلة ، مكعبات كؤوس القمر "السهران" ، بمعية الذئاب و الذباب ، في أفخم فنادق مدينة العباد ...فمَن يضع حدا للعب الكبار بأنفاس الصغار ..و يسلم القاتل مغلولا بأسلاك رفيعة في كتاب ..؟؟

أنفاسحين أكّد لها الطبيب أنّهُ في النّزْع الأخير، طلبتْ تلقينَهُ الشهادة،لم تنسَ في عزّ الأزمة تنفيذ وصية أمّها، ستأتي عليه ساعة تفعلين به ما تشائين.
لمحتْ في عينيّ إصراراً على التمسّك برفْض الموت على وقْعها في أذني بالقوة.
تراجعتْ هامسةً بالاسْتِغفار لي.
همّ الفقيهُ بالاقتراب من وجْهي البارد، شممْتُ رائحةً كريهةً تفوحُ من فمِه المُهترئ.
تمنّيتُ القدرة على الحركة مرّةً واحدة قبل رحيلي.
تراجعَ هامساً بِلعْن الشيطان.
شعرتُ بزيْغ الطّرف نحوها، هلْ كنتُ أسْتجْديها لِتتْركني أموتُ كما أردتُ لا كما ظلّتْ تريد.
تسمَّعتُ صرخةً عميقةً من قرارٍ بعيد ،ثُمّ انطفأَ كلُّ شيء.

أنفاسوجئت بعد انتظار لم يطل، فغنوا ورقصوا وزغردوا...
اهلا بالقادم من عدن، هيا انفض عنك نعيم الجنان، واركب زورقك الورقي، فليس في وسعهم الا ان يفرحوا بك، وليس في ملكهم الا ان يزودوك جبنا وصبرا.
اعطوك اسما ثم انتظروا حتى اذا قمت  ؛علقوا بظهرك صندوقا، وقالوا لك : تعلم لتكون واحدا منا.
ولما استوى لحمك وعظمك على نار هادئة حملوك الصخرة، فحملتها تارة على ظهرك تارة على صدرك وتارة أخرى بين يديك..
وحين صرت أثقل منها بستين سنة، قالوا لك اقعد، فقعدت.
وجاء حفيدك الذي تعود ان ينظر الى تحت ؛ يحمل بين يديه صندوقا ليس كصندوقك ؛ به لونان : اسود وبني وشيء للمسح.
أخذت منه الصندوق وكسرته، فنظر الى فوق ثم نط فرحا وجرى، ولما عاد ليلاعبك كانت ورقتك قد اصفرت ..          

أنفاسدخل الصرصار الكبير قاعة المحاضرات بهندامه الأنيق وربطة عنقه التي استوردها من بلد أجنبي ، رفع نظارتيه فوق جبهته ، أعادها إلى موضعها على عينيه ... ألقى ببصره بعيدا ... في القاعة كل أنواع الكائنات الصغيرة والكبيرة ... الصراصير والبراغيث والنمل ... تنحنح الصرصار ذو الشهامة ، لم يلتفت إليه أحد ، صرخ بأعلى صوته ... محاضرتنا اليوم حول موضوع : فلسفة الصرصارية ، أو بلاغة أن تكون صرصارا ... تنحنح مرة أخرى ... ضرب بيده عدة ضربات على المنصة ... الانتباه أمر ضروري ... رفع الحاضرون من الصراصير والبراغيث والنمل ... رؤوسهم عاليا ... فاستعد للحديث ، ومما قاله في ذلك اليوم المشهود : أعزائي الصراصير ، أود أن أخبركم أن الصرصار كائن عملاق ... كائن يقاوم العشرات بل المئات من الإشعاعات النووية ... يتحدى ما يعجز الإنسان المغرور عن تحديه ... أعزائي الصراصير ... سأكلف صرصارة صغيرة أمامي بأن توزع عليكم استمارة من الاستمارات التي سيذكرها التاريخ ... وأرجو أن تقرؤوها بتأن وبتمعن ... مطلبنا الجوهري هو أن نرتقي من مرتبة الحشرية إلى مرتبة الحيوانية ... وأفخر وبكل تواضع ، أنني أول من اكتشف أن الصرصار حيوان وليس مجرد حشرة ، وتصنيفه ضمن الحشرات من أخطاء بني البشر ، وأزيد نفسي افتخارا وبكل تواضع دائما ، بأنني أول من تبنى هذا المطلب ...

أنفاسأشعل ( س . م ) سيجارة من النوع الجيد .. وراح يتأمل دخانها المتصاعد .. ثم قال لصحبه وهو يحاوره ــ رغم علمه بضحالة فكر صاحبه وعدم حبه للجدل ــ : كيف تستطيع أن تجزم أن اللعنة الأبدية  أو الأزلية هي لعنة ناتجة عن سلوك بشري معوج ؟
رد صاحبه ( م . ع ) بشيء من الانتشاء ــ كمن يعلم سر الأمور ظاهرها وباطنها ــ : هذا مما لايتناطح عليه كبشان .. رغم أنني لست كبشا كما تعلم ..
رد عليه ( س. م ) بشيء من البرود ، مستفزا إياه بسؤال أعوص : لكن كيف تفسر أن اللعنات الكونية قد حدثت في علم الأزل ولما يكن على ظهر الأرض بشر ؟؟ وهل في اعتقادك أن ذلك النيزك الذي هبط من أعلى، منذ ملايين السنين الضوئية بسرعة جنونية مدمرا ما حوله، أيحمل في جوفه حقدا كريها على كائنات الأرض ــ رغم خلوها من البشر في ذلك الزمن السحيق ــ ؟
 رد صاحبه بارتباك باد على محياه ، كمن يدافع عن عقيدة راسخة في ذهنه رسوخ الجبال : ما أكثر سفسطتك !!هل أنت بهذه الوثوقية حتى تعتقد في خزعبلات ما لها من سند علمي ؟ و ليست سوى تخمينات واهية ، ما أنزل الله بها من سلطان ؟؟ فهل للنيزك  جوف حتى يحمل حقدا أو أحساسا من أي نوع ؟؟ ومن أدرانا أن النيزك موجود أصلا ؟؟ إن ثقتك العمياء في العلوم البحثة ضرب من العبودية المطلقة لأشياء نسبية لايقر لها قرار أمام ما هو مطلق ، ولايحتمل شكا أو جدالا ..

أنفاستراكمت الأفكار في مخيلته و تزاحمت المعطيات برأسه... إنه يحاول جاهدا منذ أسبوع، أن يتحكم في خيوط كتابة قصـته الجديدة.
إنه يريد أن يخلق " بطلا" غير نمطي و من طينة فريدة،يتصرف على غير العادة و يتحرك بكل سلاسة، متجردا من قيود الزمان و المكان و غير آبه بالآليات النفسية و الذهنية المألوفة لدى البشر.
و أضحى يسأل نفسه عن الكيفية التي من شانها أن تسهل عليه الأمور و تجعله يتحدى القيود التي يفرضها باقي كتـــــاب القصة على نبسات و ردود أفعال أبطال قصصهم، فإما أن يكون بطلهم ذا شخصية مركبة/ مدورة، تتغير سلوكيـــاتها بتغير ظروف الأحداث و المواقف و ترتفع وتيرة انفعالاتها وفق منحنى تصاعدي، أو أن يكون بطلهم ذا شخـصية بسيـطة و عادية، تسير وفق منحنى مستقر طوال زمن السرد.
لكن كاتبنا لا يريد تجريب أو بالأحرى تكرار تقنيات مـــن هذا القبيل، فهو يريد " بطلا" يراوغ عادات و تقاليد مجتمعه، ينسل من الأدلاــجة و المبادئ المحنطة، فلا هو بالملتزم فكريا أو دينيا و هو بالبوهيمي المتجرد من قيود المجتمع و تـــصرفاته،و لا هو بالمتدين و لا هو بالملحد أو العـــلماني، و لا هو بالمتعلم المثقف و لا هو بالأمي الجاهل، و لا هو بالمثــالي الحالم ولا هو بالواقعي المغرق في التشاؤم...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة