أنفاسلو كان بإمكان هؤلاء ،أن يبيعوا لنا الهواء الذي نستنشق .. مُعلّباً .. لفعلوا ..
المستعمِر أرحم من هؤلاء . ماذا تبقى لنا . إنهم استحوذوا على كل شيء ..الأخضر و اليابس . الأراضي و البحار و السماء أيضا . كنا نأكل السردين حتى نشبع .. بدرهمين فقط . أما الآن فالسردين شملته ترقيتهم ..و صار يوضع بنظام في صناديق خاصة ، إلى جوار صناديق الأسماك الغالية الثمن كالميرنا و الكروفيت ..و أنواع أخرى لا أعرف أسماءها . أكتفي فقط بالنظر إليها بعمق..، أتـأمل لونها الجميل ..، و شكلها الغريب ..ثم أنسى نفسي ، غارقا في بحر من التساؤلات ، كثيرا ما أعود من سوق السمك بخفي حنين ، دون أن أتمكن من شراء السمك ، الذي طلبته مني ابنتي . و حتى لا أدخل بلا شيء إلى البيت ، أجد جسدي منقادا ،في خضم زحام السوق ، إلى بائع الدجاج ..
لا مكان لنا في هذه الأرض . لست أدري إلى متى سيبقى الوضع هكذا . هم يأمرون و يقرّرون .. و  نحن نستجيب و ننفذ بتلقائية.. و أحيانا بمتعة . نتهافت على وضع المشانق حول أعناقنا ..نختار القهر بأيدينا لأنفسنا ..لكن ..سيكون للتاريخ رأي آخر ..حين ..
تابعتُ آخر مرحلة إعداد الدجاجة الهزيلة . بعد إزالة ما تبقى من الريش الخفيف على ظهرها .. و من تحت جناحيها القصيرين ، قام الشاب الطويل ، بمعاودة وضعها داخل إناء مملوء بماء عكر ، تساءلت عن لونه ذاك ، هل هي أوساخ .. أم لون الإناء يعكسه الماء ..؟؟

أنفاسفي إحدى الليالي حزن الحمار لطول مكوثه على ذمة صاحبه " العَرْبي" الذي أبى أن يبيعه واحتفظ به في ملكه حتى مل عشرته  ، رغم أنه أنجب له حميرا كثرا:  ذكورا وإناثا ، و انسلخ ظهره في خدمته ؛ وبانت عليه مقدمات الشيخوخة  فأراد أن يعبر عن مصدر ضيقه  و حزنه لأبنه بجانبه ، قال:
يا بني : اعلم أن أباك صابر ابن صابر وأمي طاعة بنت نافع  ، أتميز بصفات أُحَب من أجلها ولا يستطيع أحد أن ينازعني فيها،  وعليك أن تفخر لأن فيك مني مثلها ، فأنا صبور حمال للمشقة ،  ورغم أن هذه الصفة تنسب غالبا إلى الجمل فيزهو بها على سائر ذوات الحافر و الأظلاف إلا أني أجد في نسبتها إليه دوني ظلما وتجنيا؛  لأنه قد يصبر على العطش أكثر مني ولا أجادل في ذلك، وقد يصبر على السير والضرب في أرض الله لمسافات أجد صعوبة في مجرد التفكير فيها ،  ولا جدال في ذلك ، ولكنه لن يستطيع بدوره أن يصبر مثلي  على تحمل  المهانات ، وأن يوسع قلبه الذي لن يتسع حتى وإن أراد لقبول الشتائم  التي يوجهها لي صاحبي" العَرْبي" فهو يستعيذ بالله من أي صوت يصدر عني ، أو أنوي أن أصدره تعبيرا عن وجودي ، أو طردا للأسى وترويحا عن الشجن ، أو اشتياقا وحنينا لخل  طوحت به الأيام  والقاطرات من سوق إلى سوق؛  ومن قطر إلى قطر.

أنفاس1- هذا الزمن المغربي الجريح ، كتاب مفتوح على المزيد ، من صرخات حجارة الصٌبار الجليل .
 ترى من يسقي شجرة الملح ، في أزقة مدن الضياع ، سوى أهازيج صقور ، هي الآن ماضية في وضع اللمسات الأخيرة ، لشكل اللعبة و لون الخريطة المصدرة ..؟
عنقود حروفها العقيمة هي .. يبست ، و كلماته الحمراء هو .. المسافرة ، على متن صهوة بحرنا  الغاضب ، لن يرعبها رصاص المرايا  ..
 هو .. زمن حالم ، و يئن تحت أقدام الأمكنة ..، أمكنة باتت تخدم  سلطان رياح شمال ، تتشكل فصوله القديمة ، و ما بين سطوره العميقة ، من حرارة الغموض البليغ ، و القادم من هندسة البارحة ، زمن عاد يصول خاطبا ، و نزيفُ عين الأسئلة الفياضة ، هو سيد المواقف الحالية .. فطوبى لزمن رديء ، تُرك وحيداً على جسر من قصب ..
لعلها تقلبات طقس السياسة الجوفاء ، و في ساحات الشوارع المعطلة ، عادت صقور الأمس ، تلعب معنا ، نحن الحجارة الحارقة ،  لعبة محارات الغميضاء ، و  بداخل الغرف المثقوبة ، و المعلقة من أنوفها العليلة  ، علينا تطل أحزان أشباه الرجال ، في عالم صغير ليست له رائحة ..

أنفاسعلى الهاتف، هذا الصباح، كنت كعادتك عابثا.. مم تهرب؟
 مني، أم من الأخريات؟
لابد أنك تهرب من نفسك.. تراوغ  لتهرب من خوفك.. لست إلا امرأة.. لست جنية لأسحرك ولا ملكة لأسلط عليك حراسي.. لا أملك إلا هذا الجسد.. ليس كاملا.. ربما جنوني يعطيه ألقا  لا تملكه الأخريات...
أنهيت الاتصال وأنا أتساءل كيف انتهى بي الأمر، عاشقة لرجل عابث؟
لدون جوان يخاف التورط في هواجسه فيعبث بأجساد النساء؟
لم خوفك؟
هل آتي إليك لتعرف أني لا أشكل تهديدا؟ هل أشاركك كأسك لأسلمك مقاليد جنوني؟
أم ادعوك إلي؟ ليتعرف إليك الجميع؟ وأعلن للملأ أنني انضممت إلى عبثك؟
تراودني صورنا معا ,أخاف أن يراها على وجهي زملاء العمل.. أنسخ الأوراق التي طلبها رئيسي، وأتذكرك تكتب على جسدي كلمات أخرى.. أينك الآن؟ ماذا يشغلك عن عبثنا؟

أنفاسنفض أيوب عن قميصه غبار طباشير من النوع الرديء  ، لعن في صمت ذلك الشخص الذي نصحه ذات يوم بطرق أبواب هذه الوظيفة البئيسة
غادر الطابق الثاني في تؤدة مميزة ،جعلت صغار تلاميذه ينادونه بالسلحفاة العجوز .
وصل بعد حين قاعة الأساتذة ، تمدد على أريكة بالية ، طالما كانت موضوع نقاش عقيم بين أعضاء مجلس تدبير المؤسسة ...غفا قليلا ، فوجد نفسه جالسا على فراش وثير ، وحوله الكثير من الخدم والحشم .
- صباح الخير سيدي الوزير.
- ماذا هناك ؟
- مجموعة من النقابيين يطلبون مقابلتك سيدي .
- ألم أقل لك مرارا أن الصباح لله ، أتريدين أن تعكري صفو يومي ؟
- عفوا سيدي ، ولكنهم طلبوا لقاءك منذ شهرين ...
- عيب هؤلاء النقابيين أنهم لا يحسنون اختيار الأوقات .
-  لا تقلق سيدي ، فهم يطلبون منك فقط أن تقضي لهم بعض المصالح الخاصة .

أنفاسجلست أمام التلفاز ورحت أفتش في القنوات الفضائيّة عمّا يؤنس وحدتي ويُذهب عـني الضجر ... كانت قناة الأفلام تعرض فيلما تافها  لا يسرد قصّة واقعيّة ، ولا يقدم أي قيمة ، وإنما تدور أحداثه حول عـشيقين طائشين ... وكذا قنوات الأغاني ، وما أدراك ما الأغاني ؟!! فها هي تقدم تارة أغنية عن المتحابين وطورا أغنية عن خيانة المتحابين ، فلا ترسي السامع على برّ بل تتركه في حيرة !!! أمّا قناة المنوعات فكانت تقدم ندوة بين مجموعة من رجال المجتمع لمناقشة " الحب "، وما ينتج عـنه من أنواع زواجات منتشرة بين الشباب " ... فأقفلت عـندها التلفاز وقد ازداد ضجري لما رأيت . وفررت إلى الشرفة أرقب السماء ببدرها المشع  ونجومها الثاقبة  ...
وسبحت في الفضاء الرحب بعيدا عن الدنيا وهمومها ... وهناك رأيت أمراً جللا !!! رأيت محكمة رهيبة قد أقيمت لمحاكمة مجرم في غاية الأهميّة والخطورة ...
في زاوية القاعة وقف المتهم الخطير بثقـة وثبـات في قفص محاطا بالحراس ... وقـد غصّت المحكمة بآلاف الضحايا والمنكوبين ... كيف لا ؟ ! وهو قد سلب الكثيرين طعم الحياة ... فأسـر كلّ من طرق بابـه بقبضته الناريّة ... بل راح يحبك حبال المكيدة ليوقع في شراكه حتى من جفوه ! فأجّج النيران في القلوب ، وأدمى المقل ولم يُبق ولم يذر ... لقد عرفتموه طبعاً ، فأفعاله توحي باسمه ، وهو غـنيّ عن التعريف ! إنه الحبّ ... وما أدراك ما الحب ؟!

أنفاسجلس المعلم عبد الرحمن على الكرسي المقابل لمكتبه ... وضع يده عليه ، بدأ ينقر بأصابعه حركات تتناوب فيها السبابة مع أخواتها بشكل أحدث إيقاعا نغميا ... أثارت حركاته انتباه التلاميذ الصغار ... لم يكن يهتم لرد فعل أحد خاصة هؤلاء الصغار ... بعد أربعين سنة من العمل المضني ... بعد الجهاد والكفاح ... خلال أربعة عقود بالتمام والكمال كان فيها معلما ومربيا وأبا و ... و ... سندا لهؤلاء الصبية الأبرياء ، كم علـٌم ودرٌس وربـٌى ... من أبناء هذا الوطن الحبيب . كان يحفظ أسماءهم واحدا بعد الواحد ... ويحفظ عن ظهر قلب هذه المؤسسة العتيدة ، بقاعاتها وساحتها ... بجدرانها وأبوابها ... أما قاعته هو فكان يختزن في ذاكرته خريطتها ، كل صغيرة وكبيرة ، كل أداة ؛ واحدة واحدة ، يستطيع وهو مغمض العينين ، أن يسرد ما على كل طاولة من أشكال وحروف وألوان ورسوم ... مما دبجه التلاميذ على مر السنين ... في الصباح الباكر ، وقبل الموعد المحدد ، يدخل القاعة ، يبلل الممسحة الإسفنجية بماء معدني ، يمسح السبورة بشكل متقن ، يمرر ممسحته الأليفة على المكتب ، يلامس سطحه بأصابعه متأكدا من نظافته ... يقف أمام النافذة ، يتأمل الفضاء المحيط بالمدرسة من الطابق العلوي ، يسقي الأزهار الصغيرة التي دأب على رعايتها منذ سنوات ، عادة استحالت إلى سنة ... اعتبرها أمرا لا يقبل الجدال ...

أنفاسلعل الدروب ، التي لا تقود روادها الوافدين ، إلى معانقة موج البحر ، قسرا تطاردهم لامحالة  رصاصاتها الظمأى ،  حتى آخر زاوية مهملة ، في زنزانة الحرفِ ، حيث يعتقل الحلم ، و بمكعبات ثلج هذا السؤال ينمو الضجر الجميل .
حبلى أنتِ .. يا زينة الخطاب و الصورة ، و بوهج شهواتك القزحية ، الآتية من صيف الأمس ، بك تبحر الذات  مدفوعة بالأيدي الجسورة .. عالقة هذه الأنثى ، من أطراف خيط عنكبوت أعرفه ، و يتجاهل وقع صرخات البحر المختزنة خلف ستار الرماد . و بين تجاعيد وجهي الترابي تزهر اليوم حروق ، غذتها تناقضات السؤال الصعب عن خيانة الموج لأهله  ، هو الآن يزحف نحوي و أشتهيه . و بما تبقى من أغصان النار ، في خنادق الروح ، أمتد مخترقا خرافات هذا البناء المطاطي المشوه لتاريخي الطويل ، الذي أنجبك في ليلة عاصفة ، وعليه تشهد فحولة هذي الجبال الشاهقة .
أنتِ واهمة يا سيدة بلا اسم ، حين تصرين على الحفر العمودي ، تحت أقدام صخوري ، لإسقاط  بحري .. و ركوب عنادك الجميل  ضد عناصر خبزي ، و شيء من هويتي ، التي دنسها التقليد ، سيقود هذه السفينة العاشقة لتحرير السواعد قبل الأفواه  ، المنسوجة أعضاؤها من رجال ، صنعوا التاريخ من أزمنة جميلة ، تكدح تحت سقف القر ، إلى مغارة في جوف وحش يتربص بضحاياه غافلين .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة