نمت وأنا أتمنى لو أنهض فأجد نفسي في عالم آخر ، لا يوجد فيه أي صوت إلا الأصوات التي أودعها الله في مخلوقاته عند خلقها ، حفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، وصفير الرياح تحمل الأتربة وتنثر الغبار ، وصوت البراح يتجول في الأسواق بصوته ذي البحة ، يبشر بالمواليد وينعى انطفاء الأعمار ، يرد عليه مغني السوق يروي قصة الإنسان أيام كان إنسانا ،يسكب روحه خالصة في مقطوعات، تتعانق فيها الأجيال تسمى أشعار تتراقص مواويلا تبكيها الأوتار.
ونمت، يا حافظ يا ستار ؛ نمت وأنا أدعو: اللهم استرنا من الخافيات و المخفيات ،ومن المنافقين والمنافقات، و من البارزين من تحت الأرض والبارزات، ومن النازلين من السماء والنازلات ، واسترنا من القياد وأتباع القياد و عبدة السادة والأسياد ، وممن شابههم من أبناء الحرام وأراذل العباد.
نمت وما نمت ، وإذا بالباب يدفع ، ويدخل منه القايد ببرنوسه الأحمر على حصانه الأشقر ؛ تتبعه محلته ذليلة مهرولة، أخذت تصطف وتلتف حولي حتى أحاطت بي من جميع الجهات وأغلقت الحلقة،وقدمت لي القايد بصوت واحد متجانس متناسق: أيها الأبله هذا الزعيم ،الشهم الكريم ،سيد بالأمس سيد اليوم ، بهذا شهدت الأمة وأقر القوم ، وأنت تتعوذ منه دوما قبل أن تخلد للنوم ، وتتناسى أن تلهج باسمه .
قال الزعيم: ماذا ترى؟
رائحة الحزن العتيق – قصة : أزهار علي

وجه امي بالذات ، يثير في سؤالا قد يبدو للوهلة الاولى غريبا او ابلها ، حين كنت انظرها تعارك زمنها ، تحسم امر الحياة معها ، لها ولصالحها ، بقوة لعل ملامحها ، قوتها وتحديها ، كانت جميعا لامرأة اكديه ، او سومرية ، ورثتها والدتي عنها ، كما ورثت بؤسها ، ولعل ملامحي انا نفسي بكل نحسي كانت مثل ملامح امي ، ارثا بائسا عن سومري ، او اكدي ، متعثر ، ارتاد كل حانات الفقر كما ارتدها ..
لازالت ذاكرتي تحيي في وجود تلك الوجوه القرمزيه ، بشعورها الشقر المصففه ، وعطورهم العبقه بحده ممزوجة بقهر يترصدنا ، وهم يسندون تماثيل اخرجوها ، الى حائط المدينة القديمه ، يدارونها بخرق قماشٍ وفرشٍ غريبه ، ينفضون عنها التراب ووجودها فيه ، بينما نحن نتمادى متحلقين حولهم ، بعفويتنا ، وازعاجاتنا .... لازال مرفق احدهم منطبع الاثر في جبهتي ، بينما انا احاول بعبث طفولتي مهتما ، ان اعرف ماهية هذه التي يدارونها ، وسر اهتمامهم بها….
الورم – قصة : محمد أوبالاك
الأستاذ عبد القادر الدردوري، محام معروف و يملك مكتب محاماة كبير يطل على أهم شـــــوارع المدينة، له من الكاتبات سبعة و من الكتاب ستة و من المحامين المساعدين ستة كذلك، لا يـــتوانى أن يقول بزهو أنه أبقى على مكتبه مفتـوحا لأغراض اجتماعية تصب في عدم حرمان فريق العـــــمل الذي يشتغل معه من موارد قوته اليومي، خاصة و أن مكتبه يدفع أجورا سخية و محترمة، هي مــــــوضوع الساعة لمجموعة من مكاتب المحاماة الأخرى ... فهــو حسب قوله يملك من المال الكثير و له مشاريع ناجحة تعفيه من انـتظار عائدات الأتـــــــعاب و النـسب المئوية التي يستفيد منها جراء توليــــــــه لقضايا ونزاعات بعـــــــض الشركات...بالرغم من كونه لا يبرح مكتبه منذ دخوله على الساعة التاسعة صباحا إلى حدود الساعة السابعة مســـــــاء دون احتساب ساعة تناول وجبة الغذاء، سواء بــــمنزله أو بأحد المطاعم الفاخرة... فهو يجد متعة كبـــــــرى في الجلوس لمكتبه لساعات طـــــويلة، لكتابة المقالات و المذكرات و استدعاء كاتباته و كتابه و محاميه المساعدين، لأغراض شتى تـــــتراوح بين إصدار الأوامــــر و التعليمات قد تصل أحيانا من مجرد تأنيب إلى درجة السب و الشتم ، متى رأى أنه من الضروري التعامل بهذه الصيغة ردعا و تحسـيسا للمؤنب أو المشتوم بمغبة تماديه في الــخطأ، و أن عليه تجنب ذلك في المرات المقبلة... يتعامل بذكاء مع كل مستخدم لديه على حدا، تمــاشيا مع التكوين النفسي لكل منهم استنادا لخبرته الطويلة في التعـامل مع المستخدمين المتعاقبين على مكتبه لمدة تجاوزت الثلاثين سنة...
انتفاضة الزعيم – قصة : د.إبراهيم ياسين

ضرب الزعيم الأرض بسيفه الخشبي مقلدا قس بن ساعدة : يا معشر التيوس الكرام ... قبل أن أتلو على مسامعكم محاضرتي حول الوضعية العالمية الراهنة ... حول أسعار البترول ... حول علاقتنا بالقبائل المجاورة ، القريبة والبعيدة ... قبل ذلك كله أذكر بأنني ـ كما تعلمون ـ مبدع مبدع ...
وإن الإبداع في وطننا لا يعلى عليه ... فلتمت الصناعة والفلاحة والتجارة ... والعملات الصعبة ... إذا أصاب الإبداع مكروه ... وبما أننا ـ مجتمع التيوس ـ نحب ربط القول بالفعل ، فإنني أعتز بأنني أول من يطبق قوانين بلدنا ... واستهل خطابه البليغ بمعلقة عمرو بن كلثوم ليستنهض بها الهمم ... ثم قال : ملاحظة منهجية لابد منها :
نقطة – قصة : عمر علوي ناسنا

- سنجمع تلك الأعواد هناك يا بني
وأشار إلى قمة الجبل
قال الصغير وهو يستند إلى صخرة وقد نال منه التعب:
- لماذا لا نقطع هذه الشجيرات هنا بدل الصعود لجمع ذاك الحطب اليابس هناك في الأعلى؟
- هذه شجيرات ينبغي أن تكبر أما هناك فثمة أشجار ميتة يا بني
وبدا أن التعب كان أكثر إقناعا للصغير من منطق الأب فرجاه ثانية وتوسل إليه ولما يئس تماما قال:
- وماذا كان الله سيخسر لو جعل هذه الشجيرات الصغيرة هناك في القمة وتلك الميتة هنا؟
أشفق الحطاب على ابنه وقال :
- حسنا استرح هنا وسأصعد أنا وحدي لأجلب ذاك الحطب هناك.
صعد الحطاب الجبل بمشقة كبيرة فيما كان الصغير يراقب أباه بدا له رجلا عنيدا، لاحظ الصغير أن أباه كلما صعد الجبل إلا وتضاءل حجمه كان يصغر ويصغر وتضيع تفاصيله ثم صار نقطة سوداء تضاءلت في صعودها حتى اختفت .
الرحيل – قصة : أحمد السبكي

وغير بعيد ، تراءت له الجبال بوجهها الشاحب ، وقد صممت على الشموخ وتحدي الصعاب ، ولد المنظر في قلب إدريس إحساسا بضعف بشري مسيطر ، أطلق إثره تنهيدة مدوية آتية من الأعماق .
آه......ما أضعفني ..ما أشد خيبتي..كيف يمكن لهذا الجبل الجاهل أن يبقى راسخا وهو الذي لم يتلق درسا عن الصبر والشموخ وعزة النفس ؟
كان الجميع في القرية يتحدث عن فشل إدريس ، وتصميمه الأزلي على الهجرة إلى المجهول ، رغم إصرار أبيه الحاج علي على بقائه إلى جانبه للاعتناء بهكتارين من الأرض طالما فجرا جدالا حادا بين الطرفين يصل أحيانا حد الخصام ، فالأب يشم خلال الهكتارين رائحة الأجداد وعبق الماضي ، بينما يرى الابن في بيعهما حلا لا محيد عنه لكل هواجسه المادية ، ولم لا .وهو الشاب المثقف المتخرج قديما من كبرى جامعات البلاد ، دون أن يشفع له ذلك في الظفر بوظيفة تحقق له أدنى التطلعات .
خطا إدريس خطوتين أمام الباب ، ثم جلس على كرسي من القش ، أجال بصره في المكان ، أثارته زقزقة عصافير ملحاحة تحوم حول بعض الكروم ونباتات الصبار المحيطة بالكوخ.
في الزقاق – قصة : أنس عبد الرحيم
لم أكن أتوقع أنه سيغادر البيت بهذا الشكل المفاجئ ، و بهذه الطريقة الغامضة . . بمجرد أن توصلت بمكالمة شابها حزن ظاهر من لدن أخي ، هرعت مسرعا علّني أصل إلى المكان الذي افترضت أن يذهب إليه . كان الجو جد بارد . و الظلمة كثيفة إلى حد أنني وجدت صعوبة كبيرة ، في المشي على رصيف هذه المدينة الجميلة ، التي لم يمض على وصولي إليها سوى أيام عديدة . و عند مفترق الزقاقين رأيت شابين متجهين نحوي . فكرت في أشياء كثيرة يمكن تحدث حين سيحاولان الإساءة إلى شخصي ، رغم أنني لا أميل إلى العنف ، و لا أعترف به كطريقة وحيدة لحل المشاكل و النزاعات ، سواء بين الأفراد أو الجماعات ، إلا أنني فكرت في تلك اللحظة في أسوء الأشياء ، التي يمكن تقع بين شخصين أو أكثر في ظروف كظروفي .
توقفا أمامي دون أن أحس من جهتي بأدنى حرج أو خوف يذكر . طلب مني الشاب الطويل القامة سيجارة . أخبرته أنني في حوزتي سيجارة واحدة سأدخنها في الحين . قال الشاب الثاني و يداه في جيبي سرواله القصير ( إذن سندخنها معا ) ، قالها بنوع من المرح الواضح ، قلت (إنني في عجلة من أمري و ليس لدي الوقت الكافي للسهر معكما . ورائي هدف لابد من قضائه ).لكن مع إلحاحهما اضطررت لمجالستهما في إحدى زوايا الشارع العام في الزقاق المظلم نفسه ، المقابل لحانة شعبية ، كانت مازالت مفتوحة أبوابها .
رقصة الريشة – قصة : سعاد ميلـي

مد يده إلى الريشة الملطخة بألوان قزحية، و أدارها بشكل مسرحي، كأنما يعلن انطلاقة البدء، كمايسترو لموسيقى بيتهوفن الشهيرة في وسط هذه الأوبرا الضخمة، القماش أعلن التمرد و العصيان فرقصة الريشة لم تعجبه هذه المرة…. ، هناك خطب أكيد.
تململ الأستاذ "جواد" في جلسته وأخذ يحك شعره الأبيض بتمهل، ربما قد تسببت أفكاره الأخيرة عنها بكل هذا الشتات.
- تبّا.. ما بالها ريشتي تاهت عنها رقصتها المعتادة، آه..يا إلهي.. بماذا أفكر لقد كبرت على مثل هذه الأمور، صحيح أنني أحس بوحدة قاتلة، لكنني تعودت الهدوء و الروتين معا. فكر في نفسه بصوت عال وهو يتأفف من حالته هذه.
فعلا، لقد كانت حياته هادئة وروتينية، إلى غاية ظهورها في حياته، بالنسبة له كفنان تشكيلي، يعيش وحيدا في منطقة منعزلة عن ضوضاء المدينة، مع سيجارته و كرسيه المتحرك، وحده صوت نباح كلبه "روي" من يخترق صمت المكان، و الآن فكره المشتت جعله سابحا لمدى بعيد، لا يدري أين المستقر، وهذا الأمر سوف يشكل له موقفا خطيرا، قد يزعزع مساحة السكينة النادرة في نفسيته و كل قناعاته الشخصية ضد اقترابه من المرأة، لكن بينه وبين نفسه يعترف أنها ليست كأي امرأة فقد وصفها يوما لصديقه "عبد القادر" بأنها "أميرة الروح الدافئة" تتسلل إلى قلبه بخفة الفراشة الحالمة...، مما ترك لصديقه مجالا ليمازحه ويقول له حينها ضاحكا: