منذ أن سكن حب الإدارة كيانه ، تغير وحيد كثيرا ، وكم تغيرت الدنيا وأحوال الناس ، وكم تبدلت الحياة وأنماطها بين الأمس واليوم .
منذ عشرين عاما عهد الناس وحيدا طيبا، وديعا، ضحوكا ، لا يمل الجليس من جلسته ولا الأنيس من رفقته ، ولم تكن أفكاره كما هي الآن ، فقد أصبح ينعزل عن زملائه ولا يجالسهم إلا لماما ..كان هؤلاء يتفكهون ويتندرون ويتبادلون النكات الساخرة ليلطفوا بها أجواءهم المشحونة ، أما هو فكان ينظر إليهم من فوق ..يبصرهم دون أن يميز أصواتهم . كان يجلس واضعا ساقا على ساق، متأملا ..دون أن ينبس ببنت شفة ، لقد احتلت الإدارة خياله وسيطرت على لبه ، لم يكن يستودع أحدا سرا من أسراره ، في المقابل كان يتردد كثيرا على مكتب المدير ، ربما للانتفاع بآرائه ، والاستئناس بحسن أو سوء تدبيره ...
لم يصبر وحيد إلى نهاية السنة الدراسية للتأكد من قبول طلب تكليفه بالإدارة ، بل راح يتخيل نفسه وهو يخلع وزرته البيضاء ، ليلبس محلها بذلة بنية أنيقة ، وربطة عنق سوداء ، ونظارة من النوع الممتاز ، مستبدلا قسمه المغبر الضيق بمكتب واسع مكيف الهواء ، به كراس وثيرة من الطراز الرفيع ينعش بها مؤخرته التي أضناها الخشب ، وبالمكتب المجاور تقبع كاتبة في كامل التأهب لتنفيذ طلباته ورغباته ، حتى قبل أن يرتد إليه طرفه.
وحين يشطح به خياله المريض ، يجد نفسه واقفا أمام الباب الرئيسي للمدرسة ، وهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لدى الأساتذة والمتعلمين إلا ويحصيها .
وفي خضم نشوته التي تداعب رغباته المكنونة ،يستفسر هذا ويوبخ ذاك ، ويتوعد أولئك بإحساس من المتعة الخاصة التي تجعله أكثر اندفاعا وعجرفة.
وقد لازم هذا الإحساس العليل فكر وحيد ، وسبب له مشاكل شتى مع أقرانه وزملائه ،الذين ملوا من تجاهل تجاوزاته ، فصاح به أحدهم ذات يوم :
- يبدو أنك نسيت مهامك يا وحيد ، استفق من غفلتك المرضية فما هكذا تورد الإبل....
لم يبد على وحيد أنه سمعه ، فقد كان يقينه من حصوله على منصب ً مدير ً يهيج مكامن فرحته المؤجلة ، فبدا أمام الجميع تائها غريب الأطوار .
ومساء يوم ربيعي جميل ، خاصم النوم جفونه ، وقرر أن يظل مستيقظا الليل كله ، وكاد عقله ينفجر من فرط التفكير بنتائج الغد.
فجأة انهار الحلم الجميل ، وذهل وحيد ذهولا طاغيا ، نسي معه نفسه ، بعد أن أخبره أحد رفاقه بأن زميلا لهما من ذوي انتهاز الفرص الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ، قد طار بالإدارة وبأحلام وحيد.
وبما أن الرجل كان معتدا بنفسه إلى أبعد الحدود، وبما أنه لا يرضى إلا أن يكون في القمة تقديرا واعتبارا ، فقد انتابته فترة من القلق والحزن المشوب بالامتعاض ، وان شئنا التدقيق قلنا بالحقد المرير . فما عاد يدري أذلك ذنبه أم ذنب المسؤولين أم ذنب الناس جميعا؟
لم يقتنع وحيد بكل المبررات ، بل أصبح يستشعرالشماتة والتشفي من عيون الأقربين ، فسل لسانه بهجاء كل من عناه بكلمة ، طيبة كانت أم سيئة ، وغدا يكيل الكيل بمكيالين ، ولم يلبث وحيد كثيرا حتى انقضت المنية عليه ، دون أن تمهله ليفوز بمناه ، فخرج من الدنيا في سكون وجفاء ، فلم يقدر الناس تلهفه للإدارة ، فعاش شقيا ومات شقيا ،وضن عليه الجميع بكلمة تقدير وتأبين ، ولم يبق في الأذهان إلا أن وحيدا قتيل الإدارة ،... ذلك كان حظه ، والذكر والنسيان بين الناس حظوظ......
أحمد السبكي المغرب