استيقظ عمر ذات صباح على نغمات الهم وإيقاعات النكد ، لقد ألف المسكين سماع وابل من الاهانات ، وسيل من الطلبات ، درجت زوجته منذ حين من الدهر على إمطار سمعه الثقيل بها. وبما أن دوام الحال من المحال ، فقد انتفض عمر هذه المرة ، فما عاد يطيق سماع الأسطوانة المشروخة نفسها ، فصرخ في وجهها قائلا :
لقد تعبت..لقد ضقت ذرعا بطلباتك التي لا تنتهي..غاز..خبز..زيت ..دقيق..لحم..خضر..بالله عليك هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش ؟
أحس المغلوب على أمره بحاجة ماسة إلى الحديث مع شخص ما ...أي شخص كان..ولهذا الغرض غادر البيت غير آسف على ما فعل، وتوجه صوب مقهى الحي عند ًداموحً والحقيقة أن المقهى طالما جذبته بسحرها الخاص،خصوصا عندما يجلس متأملا عشرات الرائحين والغادين ، ومئات الرائحات والغاديات دون كلل أو ملل.
ومن سوء حظ عمر أنه لم يجد من كان يرجو محادثته والفضفضة إليه، وما كل ما يتمنى المرء يدركه ، لهذا اكتفى بالدردشة مع رفيقه الحسين ثقيل السمع ، وقد كان اختيارا غير موفق ، فقد اضطر المسكين إلى رفع صوته أكثر من المعتاد ، مما لفت إليه أنظار وأسماع الفضوليين من رواد المقهى.
افتتح عمر الحديث باستعراض هموم الحياة ومشاكلها الجسام ، وختمه بالشكوى من اتقاد الأسعار ، وشح الأجور ، وإسراف الزوجات ، كل ذلك في شبه صراخ شد فضول أحد السامعين ، وقرر المشاركة في الحديث دون استئذان.
- هادشي بزاف أصاحبي ..واه ..مطيشة بخمسة دراهم..واللحم بسبعين درهما.. ورمضان على الأبواب، اولا لا أسي علي ؟
- سي الباكور هذا... أنا لست عليا أنا عمر
- أسيدي... بحال علي بحال عمر.... غير الله ارزق الصحة والسلامة.
- ماذا تريد ؟
- أريد ان أبشرك بأن هناك زيادة على الأبواب
- فيم...في ساعات العمل ..أم ماذا ؟
- لا..في الأجور والمرتبات
- دعنا من هذا ..أنا لا أصدق كلام الجرائد ، أنا لا أثق إلا في الشباك الأوتوماتيكي ، ولحد الآن لم يبشرني ًالزغبي ً إلا بسيل من الاقتطاعات لا أعرف مأتاها.
التفت إليهما شابان كانا يجلسان على الطاولة المجاورة ، تبادلا نظرات ساخرة ، وقال أحدهما لصاحبه :
- أكاد أجزم بأن هؤلاء من قطاع التعليم
- وكيف عرفت ذلك ؟
- إن بين الأساتذة والأرقام علاقة عشق وصبابة.
لم يكترث عمر وزميله بما سمعاه ، واستمرا في مناقشة أمور الحياة ، وأثناء ذلك مر أمامهما ماسح أحذية عرض خدماته عليهما بأقل الأثمان.
اعتذر عمر في البداية بلباقة ، لكن إصرار الطفل الصغير على تنقية حذائه من فضلات الزمان ، أجج غضبه الدفين ، فصرخ في وجهه :
- ألا تفهم..قلت لك يعجبني حذائي هكذا...أنا متيم بأوساخه، عاشق لنتانته ، انصرف..سترك يا رب...لقد أصبحتم أكثر من الأحذية في هذا البلد.
فغر الحسين فاه دون أن يدرك سر صراخ عمر ، وقال متظاهرا بفهم لب الموضوع :
- لا تحقرن عمل هؤلاء الصغار ، أتدري أن إيراد بعضهم اليومي يصل إلى أكثر من مائة درهم ؟
- كان الله في عون الجميع.
ورغم ثقل سمع الحسين إلا أنه اهتدى بفراسته التي لم يعهدها عليه أحد ، إلى أن صاحبه يجيب بانفعال غير طبيعي ، مما أثار حفيظته وبادره بالسؤال:
- ماالذي عكر مزاجك وأزال البسمة عن محياك الجميل ؟
- لا فائدة من الكلام يا صديقي..فما أكثر أسباب القلق وأقل دواعي الفرحة في زمننا هذا.
- إن عصبيتك تقلقني..لا تجعل ضغوط الحياة تذبل نضارتك وتفشل معنوياتك.
لم يرض عمر أن يكون في موقع المنصوح، وهو الذي اضطلع على الدوام بدور الناصح الأمين في جل الجلسات ، فقرر قطع الحديث بطريقة ماكرة لا تكاد تخفى.
- آلو....نعم..أنا في المقهى....أحضوري ضروري لهذه الدرجة...الآن...أنا قادم.
اعتذر عمر لجليسه ، ودعه بعد أن دفع الحساب ،وفي الطريق أيقن أن سمفونية الاهانات البيتية أفضل بكثير من ثقل بعض جلساء المقهى ، ممن يكملون نصاب الجلسة قسرا في غياب الأصدقاء الحقيقيين... وما أندرهم.
أحمد السبكي المغرب