“وحده الحاضر يوجد”
كريسيبوس
ما الزمان؟ “إذا لم يسألني عنه أحد، فإنني أعرفه، يصرّح القديس أغسطينوس؛ لكن إذا ما سُئلتُ عنه، وأردتُ أن أُفسّره، فإنني لا أعرفه أبدا”. إن الزمان بداهة و سرّ في نفس الآن: كل واحد منا يختبره؛ لكن لا أحد يستطيع أن يُمسك به، لأنه لا ينفك يمضي. ولو تَوقَّف لحظة واحدة، كل شيء سيتوقف، ولن يكون ثمة أبدا زمان. بل لن يكون ثمة أي شيء. لن تكون ثمة حركة (لأننا في حاجة للزمان إذا أردنا أن نتحرك)، ولن يكون هنالك سكون (لأنّ البقاء في سكون يستلزم الزمان). ودونما زمان لن يكون هنالك حاضر، ممّا يعني انعدام الـ“يوجد” “il y’a ” : فكيف يمكن لشيء ما أن يوجد؟ مادام الزمان، كما أوضح كانط، هو الشرط القبلي لكل الظواهر. مما يعني أنه الشرط، بنظرنا، لوجود كل الأشياء.
لكن، من جهة أخرى، كيف بوسع الزمان أن يتوقف وهو الذي يقوم عليه كل توقف؟ يعلق “ألان” عن القول المأثور التالي: “أيها الزمان كُفَّ عن المضي بعجالة”، مؤكدا على أنه رجاء شاعر“يبدو أن التناقض ينخره، حالما نتوجه إليه بالسؤال: كم من الزمان سَيَكُفُّ الزمان عن المُضي بعجالة؟”. فليس علينا إذن إلا أن نختار ما بين أمرين: فإما أن الزمان لم يتوقف إلا لوقت معين، وهو بالتالي ما يعني أنه لم يتوقف؛ وإما أنه توقف نهائيا، وبالتالي لن يكون هناك من معنى حتى لمفهومي التوقف أو النهاية. فليس هناك مِنْ توقف إلا بالقياس إلى “ما قبل”؛ وليس هناك مِنْ نهاية إلا بالقياس إلى “ما بعد”.
إذا لم تستطع إسعادي، فلا تسهم في تعاستي : (قراءة في كتاب المجتمع المفتوح و أعداؤه لكارل بوبر) ـ : أ. عبد القادر ملوك
ان عنونتنا لهذا المقال بعبارة "إذا لم تستطع إسعادي، فلا تسهم في تعاستي" مرده إلى كونها تعكس فعلا، في اعتقادنا، طبيعة النقاش الذي تضمنه مؤلف كارل بوبر "المجتمع المفتوح و أعداؤه" و الذي دارت رحاه بين نزعتين اثنتين؛ نزعة تاريخانية، في سعيها نحو تحقيق السعادة للمجتمع ككل – على حساب الأفراد الذين نُظر إليهم كأدوات أو وسائل فحسب – لم تقو على أكثر من إنتاج مجتمع مغلق ولَّد التعاسة لأفراده و أقحمهم في دوامة من البؤس، و نزعة إنسانية ناضلت و لا تزال من أجل مجتمع مفتوح يحاول على الأقل، متوسلا في ذلك بهندسة اجتماعية متدرجة، التخفيف من تعاسة الأفراد، حين لا يكون بمقدوره إسعادهم فعلا.
بناء عليه، يعد هذا المؤلَّف في مجمله نقدا لتلك الفلسفات الاجتماعية المسؤولة عن التحيز واسع الانتشار ضد إمكانيات الإصلاح الديمقراطي، و أكثر هذه الفلسفات قوة هي تلك التي سماها بوبر تاريخانية، كما مر معنا أعلاه.
و لأن بوبر يقيم تقابلا بين النزعة التاريخانية التي يرفضها و النزعة الإنسانية التي ينافح عنها، و جب، بادئ ذي بدء، أن نسلط الضوء بإيجاز شديد على ما يقصده بوبر بهاتين النزعتين؛ أما الأولى فهي تلك التي تزودنا بنبوءات تاريخية طويلة الأجل معتقدة أنها وضعت يدها على قوانين التاريخ التي تمكنها من التنبؤ بمسار الأحداث التاريخية، أو هي بلغة "يمنى طريف الخولي" في تصديرها لكتاب بوبر "أسطورة الإطار"، تلك النزعة التي لا يتوانى أصحابها في "الزعم بإيقاعات أو أنماط أو مراحل لابد حتما أن تحدث، الزعم بمسار محتوم للتاريخ يمكن التنبؤ به، و بالتالي قولبة المجتمع و الدولة و السياسة في إطاره".
الحداثة و القيم الجمالية ـ د. محمد الصفاح
الحداثة بكل بساطة و بعيدا عن التعاريف المركبة أو التعقيدات التعريفية ،تعني ،تجاوز القديم .و القديم ، نسق مركب ، أو منظومة مركبة ، يتداخل و يتواشج فيها الثقافي، و الاجتماعي ،و السياسي و الاقتصادي و السلوكي القيمي . و ينبغي التأكيد على أن هذه المكونات أو البنيات تشكل حياة الإنسان ، بل الحياة ككل ،القائمة على الفكري الثقافي ، و الاجتماعي ، و الاقتصادي و السياسي .و بما أن الحياة سيرورة يحكمها التغير و التبدل ، فمن اللازم أن يمس و يلحق و يصيب التغيير جوهر البنيات المكونة لها .و لعله المرمى أو البعد الحقيقي الذي يناضل الفكر الحداثوي المستنير على ترسيخه على المستويين النظري و العملي ، من منطلق أن جوهر الحياة، يقوم على التغيير ، و تحكمه فلسفة الدفع نحو الأمام .و طبيعي أن تستجيب هذه المكونات لارادة الحركة ذات الطبيعة الجبرية ، و المتجددة و المتفاعلة ، عنوان الحداثة التي تعني الجدة و التفاعل و المواكبة .وهي مقومات ثلاث،تعمل على تجاوز القديم من خلال صراع متواصل، ينجز وظيفتين اثنين ، متناقضين متلازمتين :
1- وظيفة الهدم : و المقصود بالهدم ، تكسير المكونات التي غدت طفيليات لا قيمة لها داخل النسق، و العمل على إقصائها و الدفع بها خارج دورته ما دامت تحمل وظيفة تشويشية.
الدين في حدود مجرّد العقل لكانط ـ فتحي المسكيني
نقدّم لقرّائنا الأعزّاء المقدّمة التي وضعها الفيلسوف فتحي المسكيني لترجمته لكتاب إمانويل كانط “الدين في حدود مجرّد العقل”. صدرت هذه التّرجمة عن دار جداول للنّشر، بيروت، 2012.
إذا كان ثمّة شيء يحقّ للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السّابقين فهو إيمانه العميق بالحرية؛ بأنّه كائن حرّ لا يدين بقدرته على التّفكير بنفسه ومن ثمّ على إعطاء قيمة خلقيّة لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أيّة جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا. وذلك تقديراً منه بأنّ “ما لا يصدر عن ذات نفسه وحريّته، لن يمنحه أيّ عوض عن النّقص الذي في خُلُقيّته”.[1] في هذا السّياق تحديدا افتتح كانط تصدير الطّبعة الأولى من كتاب الدّين في حدود مجرّد العقل بالإعلان عن أطروحة مركزيّة لديه، ألا وهي أنّ “الأخلاق، من جهة ما هي مؤسّسة على مفهوم الإنسان… لا تحتاج أبدا فيما يتعلّق بذاتها إلى الدّين… بل هي مكتفية بذاتها”.[2] فما الذي دفع فيلسوف الأخلاق الأكبر إذن إلى تقديم “نظريّة فلسفيّة في الدّين”؟[3] هل توجد حاجة لا يحقّ للأخلاق أن تدّعيها لنفسها رغم اكتفائها بنفسها؟
الحرية بين المعتقد والضمير، مقاربة فلسفية ـ زهير الخويلدي
استهلال:
" لقد ولدنا في قسوة العالم والحياة، والى هذا أضفنا قسوة الكائن البشري وقسوة المجتمع الإنساني "1[1].
ربما تكون قسوة العالم الذي نعيش فيه وخطورته متأتية من تحول ارادة الحداثة في غزو الطبيعة والرغبة في السيطرة على العالم الى الرغبة في غزو الذات والتحكم فيها وتعنيفها وتبرير استعباد الشعوب وانتهاك خصوصياتها وتدنيس رموزها والإساءة الى مقدساتها من قبل عولمة متوحشة ورأسمال منفلت من عقاله وذئبية بشرية تتصيد المصلحة وتدوس على القيم وتتاجر بعذابات الانسان. لقد أضعفت الحداثة الفكرية التي شملت مجالات الفلسفة والسياسة والفن والعلوم والمجتمع معظم الروابط التي تجمع الناس بالدين وأبعدت الكثير منهم عن الاهتمام بشؤون الايمان وقد أرست العلمنة والمذهب الانسي والعقلانية والقراءة الموضوعية والتوجهات التطورية والوضعية والإلحاد المنهجي وانتصرت الى العلم والعقل ودعت الأفراد الى تنظيم حياتهم وفق قيم التقدم والتنوير. لكن ما بعد الحداثة2[2] عادت بشكل سريع وبقوة الى تناول قضايا المقدس والرمز ومنحت فرصة كبيرة للعلوم الانسانية لدراسة الظاهرة التعبدية من زوايا متعددة وركزت بالخصوص على مفاهيم المخيال والذاكرة والوضع التاريخي والوجدان واللاشعور الجماعي والديني والإلهي والأخروي.
كما حرصت على التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام وبين الحياة الروحية والحياة اليومية وبين الاعتقاد واللاّإعتقاد ولذلك جعلت الٍأرواح والقلوب تراوح بين الاقرار والنفي وبين الاثبات والشك وبين الايمان واللاّإيمان تاركة العقول تتأرجح بين الانزعاج والثقة وبين الحيرة والطمأنينة.
وجه المثقف في خطاب ابن رشد ملاحظات حول الفكر الفلسفي في المغرب ـ يحيى بن الوليد
إن دعاوي " نهاية المثقف "، في اطار ما يعرف بخطاب النهايات، لم تفعل سوى أن أكدت، ربما بقوة، على ضرورة الثقافة والمثقفين، ويكمن مصدر هذه الضرورة في ارتباط الثقافة بالهوية خاصة في الثقافات "المغلوFة" "والمهددة " مثلما نجد في العالم العربي والإسلامي. وتتأكد مشكلة الهوية، وبشكل جلي، على صعيد العودة إلى التراث الذي يعد "قضية القضايا"، ويشرح ادوارد سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية "ان الثقافة "مصدر" من مصادر الهوية "، اضافة الى انها "مصدر صدامي " كذلك. وهو (أي ادوار سعي) يستخلص هذا المعنى " للثقافة " من حالات "الرجوع " الى الثقافة( ذاتها) والتراث(1).
ومن هنا فإن التراث لا يمثل حافزا من ناحية نسقه النظري الخالص أو مجاله التاريخي المحدود. هناك الفكر العربي،"إشكالاته المتعددة " و"ايديولوجيته المعاصرة " و" نزعاته المادية " و"ثابته ومتحوله " و"وثورته وعقيدته "... الخ، بكلام أخر: هناك الحاضر الذي يلون قراءة التراث أو المجال التراثي المشروط بمقتضياته التداولية الأساسية. الحاضر الذي يؤثر في علاقات القناص الموجبة التي تصل ما بين الماضي والحاضر، أو ما بين تاريخية القارئ وتاريخية المقروء. ثم إن هذا الحاضر. أو "تحدياته "، هو الذي يجعل العودة إلى التراث ذات "معنى ومعنى درامي" كما يقول محمد عابد الجابري أحد أبرز المشتغلين على التراث (2). وفي هذا المنظور فان ما أبدع رجالات التراث، دون أن نغفل ما تعرضوا له من قمع واضطهاد، هو ما عجزنا عن الإتيان بمثله في وقتنا الحاضر الذي اشتد فيه "استئسار الإبداع " و"تحقير العقل "، ومن هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف والنتائج على مستوى قراءة التراث، وعلى مستوى مكانته ذاتها ضمن لائحة القضايا التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. وفي جميع الحالات فإن الموقف الذي يدعو إلى "القطيعة " مع التراث بدعوى "التاريخانية " أحيانا والاندماج في العصر وحركته التقدمية أحيانا أخرى. يظل وعلى أهميته، "ضئيل " التأثير مقارنة بدعاوي العودة للتراث من أجل "تمثل " أفكاره التي نعتقد أنها "تجيب " على أسئلة الهوية / الحاضر.
الوظيفة الديداكتيكية للحجاج في درس الفلسفة ـ الأستاذ : عادل أومرجيج
تقديم :
إذا كان منطق الخطاب الفلسفي يتوخى تنمية القدرات الفكرية وممارسة أنشطة ذهنية وتربية فعل التفلسف لأننا لا نتعلم الفلسفة بمقدار ما نتعلم التفلسف على حد تعبير" إيمانويل كانط"، ثم اذا كان هذا الخطاب ينمي هذه القدرات نظرا لطابعه الإشكالي ولكيفية بناء قضاياه المجردة ثم لكيفية بناء تصوراته عن طريق صياغتها البرهانية والحجاجية، وإذا كانت هذه العناصر هي السمات الأساسية للخطاب الفلسفي، فإن درس هذا الخطاب هو عبارة عن ممارسة تعليمية تعلمية تهدف إلى ترسيخ آليات التفكير النقدي: الفهم، التحليل، التركيب، النقد، السؤال، الحجاج...وهو اعتراف بوجود ضرورة منهجية وتقنية لهذا التعلم/ التفلسف، أي وجود استراتيجيات المقاربة و التعامل،وهو ما نصطلح عليه : " الضرورة البيداغوجية و الديداكتيكية" لمادة الفلسفة "[1] . لكن عادة ما تعترض هذا الدرس جملة من الصعوبات والإكراهات التي تبقى حاجزا دون العمل على ترسيخ مقومات الخطاب الفلسفي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتفريغ هذا الخطاب من جوهره ليصبح درسا تلقينيا يعتمد بيداغوجيا الإخبار ونقل المعارف من رأس مملوءة يفترض فيها الإلمام بتاريخ الفلسفة، ونقل هذه المعرفة إلى رأس فارغة (المتعلم) بشكل مباشر دون إقحامه في عملية تعلمه، حيث يكتفي هذا الأخير بالتخزين والحفظ عن طريق التكرار. فالمدرس هنا ينجز درسا يغيب فيه التشارك والتفاعل والمساهمة من طرف المتعلمين بشكل فعال. إن هذا النمط من التدريس لا يجعل من درس الفلسفة ينسجم ويتطابق مع روح الخطاب الفلسفي كخطاب تفكيري: نقدي، تساؤلي، حجاجي... من هنا فإن تدريس مادة الفلسفة بالشكل الذي يتطابق وروح الفلسفة يقتضي النظر إلى هذا الدرس باعتباره نشاطا تتداخل فيه مجموعة من العناصر البنيوية الكبرى تهدف إلى تحقيق ما يعرف في أدبيات ديداكتيك مادة الفلسفة بالأهداف النواتية باعتبارها مقومات ذاتية يتأسس عليها الدرس الفلسفي ويتعلق الأمر بالقدرة على الأشكلة، المفهمة، الحجاج.
نظرية الذات في الفكر مابعد الحديث ـ زهير الخويلدي
"هل في استطاعتنا أن نرحل نحو ماهو آخر دون أن يكون في مقدورنا أن نرحل نحو أنفسنا؟ "1[1]
من المعلوم أن الكلي هو مطلب الفلسفة الأول وأن المناهج المتبعة في ذلك عديدة والمقاربات مختلفة ولكنها تشترك في عزمها على تحقيق انسانية الانسان بمواجهة النزعات اللاإنسانية والحرص على اثبات الانية عن طريق انتزاع الأنا من الضياع في العالم وخوض تجربة التفكير والارتقاء من الوجود الزائف الى الوجود الأصيل. لعل أقدس الأشياء بالنسبة الى الفكر مابعد الحديث هي أن يتساءل عن حال البشر والخوض في من هو الإنسان؟ وأن يجعل من ماهية الانسان مجال للتحقيق والانجاز وليس مجرد موضوع للمعرفة والوصف. كما يفترض أن يدرس جميع مستويات الحياة وينظر في علاقة الانسان بنفسه وبالعالم وبالآخر. لكن إذا كان المستوى الأول بديهي ومباشر ويتوسطه الوعي والمعرفة والتطابق مع الذات وإذا كان المستوى الثاني تجريبي وإرادي وتتوسطه التقنيات ووسائل الاتصال ويقتضي التحكم في الظواهر والسيطرة على الطبيعة فإن المستوى الثالث بين الذات والغير يتنزل في الاطار العلائقي الاجتماعي ويتجلى مجالا اشكاليا وغامضا بامتياز ويتراوح بين الرفض والقبول وبين الاستبعاد والاحترام.
المواطن و المدينة في الفكر العربي الإسلامي : إشكالية الفعل التشاركي عند الفارابي وابن خلدون والكواكبي ـ الأستاذ الهادي عبد الحفيظ
في تحديد المفهوم :
مفهوم المدينة كما تجمع المصادر المعجمية العربية هي كلمة عربية أصلها "مدَنَ" كما جاء في لسان العرب " مدن بالمكان أقام به ، فعلٌ مُمات ، ومنه المدينة ، وهي فعيلة ، وتجمع على مدائن ، بالهمز ، ومُدِن و مُدُن ، بالتخفيف والتثقيل ..[1]" و هي عند ابن منظور " الحصن يبنى في أُصطُمَّة الأرض مشتق من ذلك . وكل أرض يبنى بها حصن في أُصطُمتها فهي مدينة [2]"فالمدينة على هذا المعنى هي الحاضرة التي يكون لها حصن منيع و دار إقامة للناس والاُصطُمّة مكان وسط من الأرض في الحاضرة يشرف على المدينة .
و قد نجد قرابة لفظية لهذه الكلمة لفعل دين أو دان على نحو ما ذهب إليه تقي الدين أبي بكر ابن زيد الجراعي الحنبلي من أن كلمة مدينة "مشتقة من دان إذا أطاع و الدّين الطاعة "[3] لقوة أو حاكم أو مذهب ينظمها و هنا قد يفهم الدين على انه الحكم والملك (في المعنى السرياني أو الأرمني ) حتى ذهب بعض المفسرين والفقهاء إلى الربط بين الدين والمدينة (أو الملك على المعنى الخلدوني) بل اعتبر أن الملك هو ملك ديني لأنه وحده يحمل الناس على الاستقرار وعلى الطاعة ..فالله وحده من منظور الشرع ""مالك الملك" "يؤتي ملكه من يشاء بغير حساب" وليس للبشر منه سوى "الاستخلاف " و ساكن المدينة أو المدني أو المديني أو المدائني [4]هو مواطن الدولة المأمور بالطاعة والمحمول على الاجتماع فيها مع آخرين مع ما يستلزمه هذا الاجتماع من فعل و حق و واجب و في اللاتينية Citizen أو citoyen ابن المدينة أو المواطن كما نسميه اليوم . ومن ثم كانت المواطنة مشروطة بوجود مدينة يرجع إليها انتماؤنا .
جوهر العلمانية في فكر محمد أركون ـ محمد بنبراهيم
يختلف محمد أركون كثيرا عن المفكرين العرب الذين حاولوا التصدي لفكرة العلمانية، سواء بالرفض أو القبول، وتناولها في مجال تداولي مختلف تماما عن المجال الذي نشأت فيه. فالعلمانية نشأت في العالم الغربي، وفي الفكر الغربي؛ بمعنى أنها نشأت في سياق غربي خالص، هذا السياق منحها محمولات ودلالات معينة. من هنا يطرح السؤال: هل العلمانية غربية على الإطلاق؟ أم أن الأمم الأخرى قادرة على تبني العلمانية كنظرية وكممارسة؟
في السياق العربي حاولت مجموعة من المفكرين التطرق لمسألة العلمانية، مما جعلهم ينقسمون إلى تيارين مختلفين؛ تيار معارض وأخر مؤيد. في هذا المحور، سنركز على التيار المؤيد لفكرة العلمانية من جهة أولى، ومن جهة ثانية، سنركز داخل التيار المؤيد على المفكر الجزائري الأصل محمد أركون(1928 -2010م)، لقد حاول محمد أركون تبسيط إشكالية العلمانية، ومنحها مسارا جديدا بعيدا عن اليقينات الدوغمائية، والصور النمطية التي تعودها المفكر التراثي عن فكرة العلمانية. إن العلمانية مع محمد أركون لا تبقى منحصرة في تعريفها التقليدي الضيق(فصل الدين عن الدولة)، وإنما يحاول أن يسمو بها إلى إشكالية-موقف أمام نظرية المعرفة. ونورد في هذا السياق تعريفين للعلمانية من وجهة نظر محمد أركون:
جاك ديريدا ومغامرة الاختلاف ـ محمد حافظ دياب
كيف السبيل الى قراءة حرة للنص، تدفع به الى تجاوز وحدته المزعومة وتطابقه مع هوية ثابتة يطلقها على نفسه؟ وهل من مدخل يتحدى اتساقه واطلاقيته، فيعرض لمفارقاته وتناقضاته؟ ولماذا بالامكان أن تفتح هذه القراءة، فتشارف ما لم يقله أو يبح به، لكنه لابد فيه؟
تلك الأسئلة ومخارجها أرقت جاك ديريدا، وفرضت عليه رصدا دؤوبا ومتأنيا لكل علاقات الغياب التي لا تحضر بوضوح في النص. فلا يستوعبها الادراك المتعجل حين يظن أنه أمسك بها، لتفوته مداراتها.
حسبه البعض ضمن عشيرة ما بعد الحداثة، مع انتقاده المشروع الحداثي القائم على ميتافيزيقا الذات كمركز للكون ومصدر للمعرفة، وعلى العقلانية التي أعلت من النزعة العلمية المفرطة، والنظرة الشاملة المتضمنة نوعا من مركزية العلة وانغلاق النسق، حين تزعم قدرتها على التفسير الكلى للتاريخ والمجتمع.