ضمن حواراتها معه سألتْ الصحفية الفرنسية كلير بارني مؤلِّفَ كتاب “نيتشه والفلسفة”، الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، عن دواعي الكتابة عن نيتشه في وقت [الستينات] حيث محمومة هي النقاشات حول ماركس، وإعادة قراءته وتأويله، وحول الرايخ ونتائجه وآثاره، بله عن الكتابة حول شخصية “مشبوهة” كفريدريش نيتشه. كان جواب دولوز عن ذلك كلّه، في الحوارات (1977)، مقتضبا لا يكاد يبين؛ لأن “الدفوع” المفصّلة موجودة في الكتاب نفسه (1962): “لقد حاولنا في هذا الكتاب أن نفك تحالفات خطيرة. تخيلنا نيتشه ساحباً رهانه من لعبة ليست لعبته. وكان يقول عن فلاسفة زمانه وفلسفته: رسم كل ما سبق أن جرى الإيمان به. ربما يقول ذلك أيضاً عن الفلسفة الحالية، حيث النيتشوية، والهيغلية، والهوسرلية، هي قِطع الفكر المبرقش الجديد”. إنَّ كتاب دولوز في قلب هذا النقاش المحموم حول الديالكتيك والماركسية، لكنّه موقفٌ صارم من الهيغلية ونقد جذري لها ومحاولة جسورة لـ“فك تحالفات خطيرة” سوف “تنطوي أيضاً على مخاطر للعقل” (نفسه)، بكل وضوح: “ليس من مساومة ممكنة بين هيغل ونيتشه” (نفسه). بهذا، يمثّل دولوز، في هذه المأدبة الفلسفيّة، صفّ نيتشه في مقابل صفّ هيغل، في سعي حثيث لتجاوز الهاءات الثلاثة المسطيرة على دوائر التفلسف الفرنسيّة آنذاك: هيغل؛ هوسرل؛ هيدغر، وفي ناصية فكر جديد ما بعد بنيوي في أعقاب الحرب العالمية.
صحيح أن دولوز قد كتب عن فلاسفة عدّة: بيكون؛ سبينوزا؛ ليبنتز؛ هيوم؛ كانط؛ برغسون؛ فوكو، وكذلك عن أدباء: بروست؛ كافكا، بَيْد أن كتابه عن نيتشه يقطر إعزازا ومحبّة، وإذا كان اسبينوزا بالنسبة لدولوز هو “فارس الفلاسفة” فإن نيتشه هو بطلهم الرشيق والراقص والمبتهج.
يأتي كتاب “نيتشه والفلسفة” في خمسة فصول هي: فن المأساة؛ الفاعل ورد الفعل؛ النقد؛ من الاضطغان إلى الإحساس بالخطأ؛ الإنسان الأسمى ضد الديالكتيك (أو قُل: نيتشه ضد هيجل!). وفي هذه الفصول قراءة دسمة للمرتكزات النيتشوية، أو لما يُمكن أن نُسميه، لو آثرنا استعمال لغة دولوز نفسه في: ما هي الفلسفة؟ (1991)، المفاهيم النيتشوية (مثل: إرادة القوة ونظرية الإنسان المتفوق وموت الإله) والشخصيات المفهومية النيتشوية (مثل: ديونيزوس وزرادشت والمسيح). وفيها أيضا اشتغال بارع على طريقة نيتشه في الكتابة الفلسفية، والتي أخذت شكل الشذرات أو جوامع الكلِم، وتحليل لمصطلحات نيتشه التي يجري الاشتباه فيها (صص 70-73). ومقارنة دائمة ودؤوبة بين نيتشه ومن سبقه من هؤلاء الذين قدّموا أفكارا قد تبدو للوهلة الأولى أنها عينها ما يقوله نيتشه، مثل شوبنهاور وباسكال وكيركيغارد وشيستوف، و“لا ينقصُ كُتّابٌ تكلموا، قبل نيتشه، على إرادة قوة أو شئ من هذا القبيل، ولا ينقص، بعد نيتشه، كُتّابٌ أعادوا الكلام عليها. لكن هؤلاء ليسوا تلامذة نيتشه، مثلما ليس أولئك معلميه” (ص 103)، وهي مقارنات ممتدة على مدار الكتاب، بغية التأكيد على فرادة نيتشه، وأحيانا ما يقتطع دولوز، بألمعية أستاذ تاريخ الفلسفة، مساحات مطوّلة للمقارنة بين نيتشه وآخرين لفض اللبس أو الغموض، فقارَن بينه وبين مالارميه (صص 44-47)، وبينه وبين شوبنهاور (صص 106-108)، وبينه وبين كانط (صص 114-121).
ويبدو أن هذا الإصرار المنهجي من قِبل دولوز على التدقيق في كل مقولات نيتشه ومفاهيمه ومصطلحاته، بالشرح والمقارنة، وحمله إيانا على هذا التدقيق، يبدو لنا كصرامة “علمية” في مواجهة كل هؤلاء الذين تعاملوا مع نصّ نيتشه أو الدرس النيتشوي تحت سرج الماركسيّة (مثل: جورج لوكاتش في كتابه “تحطيم العقل” حيث ينساق إلى هذا المستوى من التعامل). فصحيح أنه كُتب الكثير عن نيتشه (را: كتاب “فلسفة نيتشه” لأويغن فنك، و“المهماز – أساليب نيتشه” لجاك دريدا، و“الإنجيل الخامس لنيتشه” لبيتر سلوتردايك. فضلا عن ما كتبه كل من هيدغر وفوكو وغيرهما)، لكن يظل كتاب دولوز أكثرهم إبداعية لما فيه من شمول وحيويّة ودقة قرائية عزيزة النظير.
في إيجاز وتلخيص، سوف نستعرض أدناه، قراءة دولوز لموضوعة أو إعلان proclamation “موت الله”، ويعتمد اختيارنا لهذه الموضوعة تحديدا على أهميتها في نصّ نيتشه كما على ذيوعها وسوء فهمها من قبل العديدين:
“ليست صيغة”مات الله“قضية نظرية، بل هي قضية درامية، القضية الدرامية بامتياز. لا يمكن أن نجعل من الله موضوع معرفة تأليفية من دون وضع الموت فيه. يكف الوجود أو اللا - وجود عن أن يكونا تحديدين مطلقين ينبعان من فكرة الله، لكن الموت والحياة يصيران تحديدين نسبيين يتطابقان مع القوى التي تدخل في تأليفٍ مع فكرة الله أو في فكرة الله. إن القضية الدرامية تأليفية، إذاً تعددية، وتيبولوجية وتفاضلية من حيث الجوهر. من يموت ومن يميت الله؟” (ص 195). “مات الله” قضيتنا الدرامية القصوى، لكن بأي معنى؟ “تعبر فكرة الله عن إرادة العدم، وعن الحط من قيمة الحياة؛”حين لا نضع مركز ثقل الحياة في الحياة، بل في الآخرة، في العدم، نكون نزعنا من الحياة مركز ثقلها“(...) إن الله اليهودي يميت ابنه لجعله مستقلاً عن ذاته، وعن الشعب اليهودي: هذا هو أول معنى لموت الله (...) الله المسيحي هو إذاَ الله اليهودي، لكن الذي غدا كوسموبوليتياً... يكف الله، على الصليب، عن الظهور كيهودي. لأجل ذلك إن من يموت على الصليب هو الله القديم، بينما يولد الله جديد (...) ومكان أب كان يخيفنا، يحل ابن يطلب قليلا من الثقة” (ص 197)، هذا هو المعنى الثاني. “أما المعنى الثالث لموت الله فهو التالي: يستولي القديس بولس على هذا الموت، ويعطي تفسيرا له يشكّل المسيحية... فأولاً مات المسيح لأجل خطايانا! (...) يرفع الله ابنه على الصليب بفعل المحبة؛ نرد على هذه المحبة بقدر ما سنحس بأنفسنا مذنبين بهذا الموت، وبقدر ما نعوِّض من هذا الذنب عبر اتهام أنفسنا، ودفع فوائد الدَّين. وفي ظل محبة الله والتضحية بابنه، تصبح الحياة ارتكاسية بكاملها.. تموت الحياة، لكنها تبعث مجدداً بوصفها ارتكاسية (...) الله المصلوب يبعث حياً: هذا هو تزوير القديس بولس الآخر (...) [و:] في الضمير المسيحي، لا يخفون الاضطغان فقط، بل يغيرون اتجاهه: لقد كان الضمير اليهودي ضمير اضطغان، (بينما) الضمير المسيحي إحساس بالخطأ” (ص 197-198). النتيجة: “تقودنا المسيحية إلى مخرج غريب. تعلمنا أننا نحن الذين نميت الله. إنها تفرز بذلك إلحادها الخاص بها، إلحاد الإحساس بالخطأ والاضطغان. الحياة الارتكاسية بدلاً من الإرادة الإلهية، الانسان الإرتكاسي بدلاً من الله، الانسان – الله وليس الله – الانسان بعد الآن، الانسان الأوروبي. لقد قتل الإنسان الله، لكن من قتل الله؟ إن الإنسان الارتكاسي”أقبح العالمين“. لم تكن الإرادة الإلهية، إرادة العدم تتسامح مع الحياة الارتكاسية، وهذه الأخيرة لم تعد حتى تحتمل إلهاً (...) هذا هو معنى موت الله الرابع: يختنق الله حباً بالحياة الارتكاسية، يخنقه ناكر الجميل الذي يحبه كثيراً” (ص 198-199).
وبعد ذلك، من هو النيتشوي؟ يقول دولوز: “إن لإحساس بالخطأ، والمثل الأعلى الزهدي، والعدمية هي حجر المحك لكل نيتشوي. ثمة يستطيع تبيان إذا كان فهم المعنى الحقيقي لفن المأساة أو لم يفهمه” (ص 52). إن النيتشوي يعيش من خلال مفاهيم الإثبات والبراءة لا النفي والخطيئة، بأخلاق الأقوياء لا الضعفاء، لا ينظر من خلال ثنائية: طيب/شرير وإنما: سيد/عبد، لا يقفز ولكن يرقص. ماذا يعني ذلك كلّه؟ هذا ما حاول الفيلسوف الفرنسي الكبير أن يفسّره في 262 صفحة. وقد تكون/ين أو لا تكون/ين نيتشويا/ه، لكن ما يؤكد نيتشه عليه دوما هو أنه لا يريد أنصارا أو حواريين: “وحيداً أمضي الآن يا مريديّ! وأنتم أيضاً ستمضون الآن، وحيدين! هكذا أردت لكم.”.