عادة ما نعتبر أن الرياضيات هو ذلك المجال الذي لا يتحدث سوى لغة المنطق والدقة اللامتناهية، وغالبا ما نعتقد بوعي منا أو بغير وعي أن كل ما هو رياضي واقعي وكل ما هو واقعي رياضي، الرياضيات لغة لا كباقي اللغات، والعالم برمته على غرار المدرسة الفيتاغورية إلى يومنا هذا أعداد وأشكال هندسية، بل إن الكون لا يمكن له أن يُفهم وأن تُعرف آليات اشتغاله إلا عند إخضاعه للفهم الرياضي، خلاصة القول في هذا الأمر هو أن الرياضيات مقياس كل شيء وما عداه حسب المعرفة العلمية مجال للتطاحنات واللايقين، مادام الإنسان يسعى في نهاية الامر إلى اليقين كي ينطلق نحو لبس آخر لإضفاء طابع اليقين عليه كذلك، ألم يسعى ديكارت طوال حياته وهو أب الرياضيات الحديثة إلى تكريس اليقين بعد الشك فيه؟ وما كل حقيقة ثابتة إلا ويتم الشك فيها بداية ثم إثباتها على أسس يقينية بإخضاعها لمنطق رياضي صارم يتوخى الدقة والوضوح والتميز.
في هذا المقام سنحاول فحص الرياضيات ليس انطلاقا مما هو متعارف عليه وإنما مما هو منسي ولامفكر فيه من طرف أغلب المشتغلين على فلسفة الرياضيات، والحال أن أول ما يمكن مصادفته في هذا الأمر هو تلك العلاقة الإصباحية البدائية بين الرياضيات والفلسفة، إذ بقدر ما أن اهتماماتهما تكاد تأخذ طريقا ليس يشبه الطريق الآخر، بقدر ما أنهما لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض، والحق أنه ليس يجب تجاوز أول علاقة حميمية عدائية في نفس الآن بين الرياضيات والفلسفة، والتي تعود جذورها إلى الحقبة الإغريقية وبالضبط داخل المدرسة الفيتاغورية ، حيث لاحظ أحد الفيتاغوريين أن طريقة حساب ضلع مثلث غير قائم الزاوية انطلاقا من مبرهنة فيتاغورس الشهيرة، أي حساب مربع أضلعه، سنصبح أمام مربع المربع، والذي إذا أردنا حساب قطره، سنلفي أنفسنا مجبرين على تطبيق مبرهنة فيتاغورس أي حساب ضلع مثلثه، وهو ما سيضعنا أمام مربع مربع المربع، أي أنه يجب علينا حساب وتر المربع الثالث وهو ما يعطينا مربعا رابعا وهكذا دواليك إلى مالانهاية، والذي سنعبر عنه بالقيمة الرياضية التالية: 1.41421356237309504880168872420969807856967187537694807317667973799، هذا المفهوم الجديد ـ المالانهاية ـ سيجعل الفيتاغوريين أمام مشكل يصعب حله، بل ويصعب إدراكه تماما، بل الأدهى من ذلك أن صاحب هذه المعضلة الرياضية لاحظ أن النهائي يحتوي على اللانهائي وهو أمر غير مقبول بتاتا، عندما نأخذ آلة حاسبة على سبيل المثال، ونحاول قسمة العدد 7 على العدد 9 سنحصل على النتيجة التالية :0,77777، إنه العبث بعينه، والذي لم يخرج إلا من الرياضيات أي من الذي نعتبره معيار الدقة والوضوح المنطقيين، والذي من أجل الحد منه تم إنشاء ما سمي لحظتئذ بالعدد التقريبي حيث سنعبر عن خارج هذه العملية بالقيمة الرياضية التالية: 0,777، أما مشكلة ضلع المثلث فقد تم العثور على حل مؤقت لها، من خلاله تم تحويل هذا المالانهائي إلى القيمة الرياضية الكسرية التالية: 70/99، حيث سيجعل الرياضيين أمام قيمة عددية جديدة سميت بالأعداد الصماء، ومن من أجل درء هذا العيب في الرياضيات دعا فيتاغورس أتباعه إلى إخفاء هذا السر على الجميع، لكن صاحب هذه المسألة باح به للجميع فتم التخلص منه عن طريق رميه في النهر، انهارت الرياضيات بعد ذلك خاصة رياضيات الفيتاغوريين مادام الكون برمته مبني على أسس رياضية والتي بانهيارها انهار النظام الكوني مباشرة، وظهر محله السؤال الإشكالي التالي: كيف للمتناهي أن يحتوي على اللامتناهي؟ حاول الرياضيون حل هذا الأمر فلم يجدوا إلا الفراغ، وهو ما أدى بعدئذ إلى ظهور علم جديد بمنطق جديد، عمل على الإجابة على هذه السؤال بعدما عجزت باقي العلوم على الخوض فيه، هذا العلم الجديد هو الفلسفة.
عندما نعود إلى ما قلناه سلفا سنجد أن الفلسفة خرجت من رحم الرياضيات، أي أنها ولدت كي تقدم لنا حلا لمسألة جذر مربع 2، كي تقدم لنا جوابا حول احتواء المتناهي للامتناهي، من ثمة أنشأ أفلاطون أكاديميته الشهيرة مانعا أن يدخل إليها من ليس رياضيا، أما أرسطو فقد قذف بهذه المعضلة إلى الفيزياء مؤكدا نهاية المطاف أن اللامتناهي هو الشيء الوحيد الذي يوجد بالقوة ولا يوجد بالفعل عكس باقي الاشياء والموجودات.
تأسيسا لما سبق نستخلص أن الرياضيات التي كانت رمز الدقة، تحولت بقدرة قادر إلى مجال للعبث، لكن عبثها هذا هو الذي ساهم في ظهور الفلسفة التي حاولت تجريد الرياضيات أكثر فأكثر وهو ما جعل العقل الإنساني يفكر في ماوراء الطبيعة أي في الميتافيزيقا، التي اعتبرت بعدئذ ولازالت العمود الفقري لكل تفكير فلسفي محض، بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل إنه ظهرت معضلات جديدة في الهندسة لم يتم حلها لحد الساعة، أولاها فكرة تربيع الدائرة وثانيها مسألة تثليث الزاوية، ثم ثالثتها وأخيرتها تضعيف المكعب، وإن اهتم بها كبار الرياضيين فإنهم لم يعثروا إلا على نتائج غير منطقية ولدت من رحم الرياضيات حيث يبقى من أهمهم كل من أرخيطاس و ميناخماس وهيبوقراط...
عاشت الرياضيات إذن في الحقبة اليونانية تقلبات عدة، جعلته يتغلب عنها بالنسب والعبارات التقريبية، حيث وجد الرياضي نفسه أمام قيم ومفاهيم جديدة كالأعداد الصماء والأعداد المهملة ومجموعة الأعداد المنعدمة والعدد الذهبي... لكن ومن أجل إعادة الرياضيات إلى التربع على عرش المعارف عاد العلماء إلى محاولة إضفاء طابع اليقين على هذا العلم من خلال مسلمات أقليدس المنطقية التي تأسست على البرهان العقلي le raisonnement ، مثل مجموع زوايا المثلث التي تساوي 180 درجة، وأنه من كل نقطتين من المستوى يمر مستقيم وحيد، وفكرة أن الكل أكبر من الجزء... لكن وبسبب وجود مدرسة أخرى وهي المدرسة السفسطائية، لم تتمكن الرياضيات من العيش بسلام ـ حيث لا تتنفس إلا في اليقين والدقة كما نعلم ـ عندما طرح بروتاغوراس فكرة البرهان على البرهان، أي أن البرهان الذي نبرهن بواسطته من أدرانا أنه برهان حقيقي، بالتالي ومن أجل إضفاء طابع العلمية عليه، يجب البرهنة عليه أيضا، بالتالي فإنه سيحتاج هو الآخر لبرهان وهكذا دواليك إلى مالانهاية، وهو الأمر الذي سار عليه ابن الهيثم عندما انتقلت الرياضيات إلى العالم الإسلامي، حيث شكك الرجل في مجموع زوايا المثلث ومنها في بعض مسلمات الهندسة الأقليدية إذ بفضل المستقيمات المتطابقة يمكن لمالانهاية من المستقيمات أن تمر من نقطتين من المستوى.
إن القرن التاسع عشر والعشرين هما قرنا أزمة الرياضيات الكبرى كما نعلم، سواء في الهندسة مع ريمان ولوباتشوفسكي، أو في الفلك مع إنشتاين وهابل وهالي، أو في الفيزياء مع إنشتاين وهاوكينج...، لو عاش كانط على الأقل في القرن التاسع عشر لأعاد النظر في مجموع أفكاره التي وردت في كتاب نقد العقل النظري عندما أبدى إعجابه الكبير في تقدم الرياضيات والفيزياء عكس الميتافيزيقا، من ثمة وكجماع للقول في كل ما سبق نخلص إلى أن مسيرة الرياضيات لم تكن ذات يوم مفروشة بالورود كما يعتقد البعض، بقدر ما أن هذا العلم هو الآخر عاش ولازال يعيش داخل العبث واللامعنى، وأن الدقة لم تكن في يوم من الأيام الثابت الذي يتحول، بقدر ما أن الثابت الرئيسي هو المتحول، العالم لا يمكن أن يأخذ لنفسه مسارا مطلقا وما المطلق إلا النسبي الذي لا مفر منه، والحال أن هذه الرحلة عرفت منعرجا ثانيا عندما تم تسييس la politisation الرياضيات خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية إبان القرن الفائت، وهو المتمثل في محاولة طمس معالم الأقليات الجنسية والعرقية والعقدية والفكرية، من خلال تكريس فلسفة الأعداد المهملة التي لن تكون طرفا كبيرا في المعادلة، نفس الشيء تم تطبيقه في الفيزياء خلال الحرب الباردة، حيث عمل المعسكر الشرقي على إثبات قانون التناقض الذي أكده إنجلز بتطبيقه على السالب والموجب، إذ بوحدة تناقضهما نكون أمام الحركة والطاقة، في حين أن المعسكر الأمريكي ساتر على النقيض من ذلك عندما دافع على فكرة أن الحركة والطاقة لا يمكن أن تتأسس إلى عن طريق التكامل بين السالب والموجب وليس تناقضهما الذي لا يولد إلا التنافر، من ثمة وكحاصل لما تقدم لا يمكن إلا أن نستخلص أن الرياضيات بدوره يحتمل نسبة كبيرة من اللايقين ومن العبث ومن اللامنطق أيضا وجب الانتباه لها، والتي بفضلها لازال الرياضيات يحقق تقدمه، إذ اليقين الثابت والدوغمائي هو قتل لعجلة النجاح والبحث...