ماذا عن الحقيقة والحرية عند جورج فيلهلم فرديريش هيجل (1770-1831)؟ بطرح هذا السؤال تعطى الانطلاقة للمرحلة السادسة من هذه الجولة التي ظهرت لي في بادئ الأمر كمحاولة أو بالأحرى كمغامرة محفوفة بالمخاطر. إلا أن القارئ، وقد استمر متابعا لأطوار الرحلة منذ بدايتها حتى الآن لن يفوته أن يلاحظ أن صعوبة هذا البحث تصاعدت حدتها شيئا فشيئا إلى أن واجهنا، عند طرق باب هايدجر، جبلا هائلا لم نخترقه إلا بعد وقت طويل وجهك جهيد.
مما لا شك فيه أن الوقوف على مجمل تعاريف الحقيقة عند هيجل لن يكون ممكنا إلا انطلاقا من قراءة كتابه الموسوم ب"فينومينولوجيا الروح". يعرض هذا المؤلف، سيريل أرنو، الأشكال المتعاقبة التي اتخذها العقل في انتشاره الذاتي نحو المعرفة المطلقة: اليقين الحسي، الإدراك، الفهم... والعملية الجدلية التي يتم بها الانتقال من شكل إلى آخر. نحن الآن في حضرة أول عمل رئيسي لهيجل، كان له تأثير كبير قوي في تاريخ الفلسفة.
يجب أن ندرك، يتابع سيريل، كم نحن محظوظون: لقد مرت بضعة عقود فقط منذ أن تمت قراءة نص كتاب "فينومينولوجيا الروح" باللغة الفرنسية. كان لا بد من انتظار أكثر من مائة وثلاثين عاما حتى ترى الترجمة الأولى النور: تعني بها ترجمة جان هيبوليت، في 1939-1941، الذي امتلك الشجاعة لمعالجة هذه التحفة. حتى ذلك الحين، لم يكن هيجل معروفًا في فرنسا إلا من خلال موسوعة العلوم الفلسفية، وكتاب يسهل كثيرا على الجمهور الولوج إليه؛ ألا وهو "الإستيطيقا".
إذا كان هيبولوت قد أقدم على إنجاز مثل مثل هذا المشروع، فذلك لأن الفرصة سنحت له لمتابعة محاضرات الكسندر كوجيف في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا خلال ثلاثينيات القرن العشرين. يمكن القول إن الأخير هو أحد المهندسين الرئيسيين لإدخال هيجل إلى فرنسا، بعد أن عمل جاهدا من أجل تلقي فكره من قبل الجمهور الناطق بالفرنسية.
هيغل نفسه لم يساعد الأجيال القادمة على الاهتمام بهذا العمل. العنوان الأصلي للكتاب "النسق العلمي"، وعنوانه الفرعي: "الجزء الأول، ظواهر الروح"، منحا دورا شرفيا لهذا المصتف، في اقتصاد النسق الهيجلي: إنه كتاب لا مناص من قراءته لكل من أراد الإلمام يفلسفة كاتبه.
لكن الجزء الثاني لن يكتب له أن رأى النور. وبدلاً من ذلك، كتب هيغل (بعد "المنطق" و"مبادئ فلسفة الحق") "موسوعة العلوم الفلسفية"، والتي أعادت التفكير بطرق جديدة في اقتصاد النسق الهيجلي. بالفعل، في هذا الكتاب، لم تعد الفينومينولوجيا تعتبر الجزء الأول، بل جزء فرعيا بسيطا من قسم من الجزء الثالث من النسق كمل، بعنوان “فلسفة العقل”. ومن ثم فقد تم إبعادها إلى مكان ثانوي، في النسق الذي أعاد هيجل تصميمه. هذا، بالإضافة إلى الطبيعة المتأخرة لترجمتها، يمكن أن يجعل المرء يعتقد أن "فينومينولوجيا الروح" عمل ثانوي.
بطبيعة الحال، ليس هذا هو الحال: هذه التحفة الفكرية، التي اعترف بها ليفيناس كواحدة من المصنفات الخمسة الاجمل في تاريخ الفلسفة، أحدثت ثورة في عصرها، وكان لها تأثير كبير على المفكرين اللاحقين. بعيدا عن العمق المفاهيمي الذي تعكسه، وبعيدا عن التجريد الجاف الذي غالبا ما يرتبط به اسم هيجل، هناك في "فينومينولوجيا الروح العديد من الصفحات الرائعة من وجهة نظر أدبية بحتة.
.ربما يكون هذا المؤلف هو أول ما يجب قراءته بتمعن إذا أريد فهم الفلسفة الهيجلية. ولذلك فهو يستحق أن نحافظ على وضعه الأصلي؛ إذ هو المنفذ الأول الذي عبره نلج إلى النسق الهيجلي.
هنا، يتساءل سيريل أرنو: لكن أية ترجمة نفضل؟ في الواقع، تتوفر أربع ترجمات في دور النشر الرئيسية: ترجمة هيبوليت، وهي الأقدم، وترجمة لوفيفر، بورجوا، أو لاباريير. تحتدم المناقشات لتحديد أيها أفضل من حيث احترام مبنى ومعتى النص الهيجلي، وكذلك اللغة الفرنسية. يعتبر بعضها متقنا للغاية، أو منمقا، أو مفدلكا على نحو غير ضروري، مما يجعل نص "الفينومينولوجيا، المعقد أصلا، أكثر غموضا.
من جانب الكاتب، وبعد مقارنات عديدة، اختار ترجمة لوفيفر (منشورات GF)، ولكن قد يكون من المفيد الرجوع إلى الترجمات الأخرى بشأن اقتباس معين: في بعض الأحيان تكون الترجمات الأخرى أفضل ولن يتردد سيريل في استخدامها عند الضرورة. مع الحرص على تحديد الإصدار المستخدم.
لنستمع إلى حديث الكاتب بأيجاز عن الظروف التي كُتبت فيها "فينومينولوجيا الروح": كان هيجل يعمل في جامعة يينا، من بروسيا، ألمانيا خاليل، كمحاضر خاص (Privatdozent). يتعلق الأمر بوضع جامعي غير مجزٍ لأنه غير مدفوع الأجر، يتم فيه تعيين أساتذة بدون كرسي. كمساعد بشيلينج، دافع عنه في كتيب بعنوان "الفرق بين النسقين الفلسفيين لفيخته وشيلنج. لكن انتهي به الأمر إلى الابتعاد عنه، ليطور فكره ومذهبه الخاصين، ويبدأ في تأليف "فينومينولوجيا الروح" .
لكن متاعب ذلك الوقت لحقت به: فقد دمرت الحروب النابليونية أوروبا، وجاء الإمبراطور شخصيا ليقود معركة يينا وينتصر فيها. يقول التاريخ إن هيجل اضطر إلى الفرار من المدينة، مخبئا بعناية تحت معطفه مخطوطة كتاب "الفينومينولوجيا" التي كان قد أكملها للتو، وقد شاهد نابليون على حصانه الأبيض من بعيد. تحدث عن الحدث على النحو التالي: "رأيت الإمبراطور – روح العالم – يغادر المدينة ليذهب للاستطلاع؛ إنه لأمر رائع حقا أن ترى مثل هذا الشخص المتمركز في نقطة واحدة في الفضاء، جالسا على حصانه، ويمتد فوق العالم ويهيمن عليه".
هذا اللقاء العابر بين اثنين من العباقرة اللامعين، عملاقين كان لكل منهما تأثير عميق كل في مجال تخصصه، أحدهما في السياسة والآخر في الفلسفة، لا يمكن إلا أن يذهل الخيال. في عام 1807 تم نشر الكتاب. كان هيجل آنذاك في السابعة والثلاثين من عمره، وكان قد دخل إلى سجل التاريخ للتو. لم يخضع الكتاب لأية مراجعة أخرى، باستثناء المقدمة. وفي عام 1831، صحح النصف الأول منه قبل أن يجتاحه وباء الكوليرا الذي اجتاح أوروبا بأكملها.
والآن بعد أن عرفنا المزيد عن السياق الذي ألف فيه الكتاب، لننتقل إلى المحتوى نفسه. ما هي النظرية التي طورها هيجل في هذا العمل، وكيف مثل صدور هذا الكتاب ثورة في تاريخ الفلسفة؟
توخيا لتلخيص "فينومينولوجيا الروح"، يقول سيريل أرنو إن هيجل يقترح في المقدمة الشهيرة لكتابه هذا تعريفا جديدا للحقيقة، وهو ما يخالف ما كان مقبولا تقليديا: الحقيقة هي الكل. ماذا يعني ذلك؟ عندما نصادف نظريتين متعارضتين، نميل إلى البحث عن أي منهما هي الصحيحة، مستبعدين احتمال أن تكون كلتاهما صحيحتبن. نحن بطبيعة الحال نحترم مبدأ عدم التناقض، كما عرّفه أرسطو في كتابه عن "الميتافيزيقا": “من المستحيل أن تنتمي نفس السمة ولا تنتمي في نفس الوقت إلى نفس الذات وتحت نفس العلاقة”.
هكذا يعتبر الجمع بين المذاهب المتعارضة بمثابة تناقض لا يطاق ويجب حله في أسرع وقت ممكن، من خلال تحديد أي منهما هو الصحيح. ومن ناحية أخرى، فإن الرأي العام لديه مفهوم أبدي للحقيقة: إذا كانت الفكرة صحيحة، فلأنها كانت كذلك إلى الأبد. النموذج الرياضي 2+2=4 هو مثال رئيسي. هذه هي الحقيقة التي ستكون صحيحة دائما.
ليس هناك زمنية للحقيقة، أي ليس هناك تطور تدريجي، وهو ما يعني أنه في لحظة معينة قد تكون فكرة ما غير لائقة، وغير قابلة للتطبيق، وكاذبة، ثم "في مرحلة معينة من التاريخ تصبح صحيحة"، قبل أن يعفو، مرة أخرى، عليها الزمن. والواقع، كما يقول الكاتب، أن الرأي العام لا ينظر إلى تنوع الأنساق الفلسفية على أنه تطور تدريجي للحقيقة بحيث لا يرى في ذلك التنوع التناقض الوحيد.
هذا هو النموذج بالتحديد الذي يرفضه هيجل، في لفتة افتتاحية وثورية. فهو يقدم الصيرورة (أو حتى: الزمانية والتاريخ) والتناقض في قلب مفهوم الحقيقة، من خلال تعريفه ككل. الحقيقة لا تُعطى منذ البداية، بل تشهد "تطورا تدريجيا" تتخذ خلاله شكلا معينا؛ ومن ثم يمكننا القول أنه في هذه اللحظة من تطورها، ستكون بعض النظريات صحيحة والبعض الآخر خاطئًا. عندها ستتخذ الحقيقة أشكالًا أخرى، وستصبح النظريات بالية وغير كافية في هذه المرحلة الجديدة من التطور، وبالتالي كاذبة. وستصبح نظرية أخرى هي حقيقة هذه اللحظة من التاريخ، قبل أن تفسح المجال للأخريات، إلخ...
لذلك، إذا كانت هناك حقيقة كونية، فإنها لا يمكن أن تكون إلا الكل نفسه، أي مجموعة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي تتخذها الحقيقة في صيرورتها، وليس واحدا منها على وجه الخصوص. ولذلك فإننا نفهم بشكل أفضل لماذا يؤكد هيجل أن الحقيقة هي الكل.
استخدم فيلسوفنا استعارة معبرة بشكل خاص لتوضيح هذه الفكرة: النبات أيضا يمر بتطور تدريجي. في البداية كان برعمًا بسيطًا، ثم ازهر: نرى برعما يظهر، ثم تتفتح الزهرة وتنتج ثمرة. الآن سيكون من السخافة أن نرى تناقضا بين البرعم والزهرة، أو بين الزهرة والثمرة، وأن نعتقد أنهما يتناقضان، وأنه يجب علينا تحديد أي من الثلاثة يمثل حقيقة النبات. هي ثلاثة أشكال متتالية يتخذها النبات أثناء نموه، وليس لأحدها حقيقة أكثر من غيره، أو كل واحد منها يمثل حقيقة النبات في لحظة مختلفة:
"يختفي البرعم في انفجار الإزهار، ويمكن القول أن الزهرة تدحض البرعم. وكذلك عند ظهور الثمرة، يتم إدانة الزهرة باعتبارها وجودا-هنا كاذبا للنبات، وتحل الثمرة مكان الزهرة على أنها حقيقتها. هذه الأشكال ليست متميزة فحسب، بل كل منها يقمع الآخر، لأنها غير متوافقة بشكل متبادل. لكن في الوقت نفسه، تجعل منها طبيعتها السائلة لحظات الوحدة العضوية التي لا تتنافر فيها فحسب، بل يكون فيها أحدهما ضروريًا مثل الآخر، وهذه الضرورة المتساوية وحدها تشكل حياة الكل.
كذلك فإن الأنساق الفلسفية المختلفة (الشكية، الرواقية، النقد الكانطي، الخ..) لا تمثل الحقيقة، بل لحظة من تطورها، والتي ازدهرت في لحظة معينة (مثلا اليونان ثم روما بالنسبة للرواقية) قبل أن تفسح المجال أمام أنساق فلسفية أخرى، أكثر تكيفا مع العالم الجديد الذي ظهر للتو (العالم اليهودي، العالم المسيحي، إلخ..).
وهكذا فإن ما ندركه بسهولة عن الزهرة (ليس هناك تناقض بين أشكالها المختلفة)، لا نتصوره بشكل طبيعي في مجال الفلسفة: واقعة أن هناك عدة نظريات فلسفية تطرح مشكلة، وكونها تصل إلى استنتاجات متعارضة يبدو غير مقبول، ونحن نحاول حل هذه المشكلة، هذا التناقض، من خلال إثبات النظرية التي نفضلها، ودحض النظرية الأخرى:
"بينما يكون، من ناحية، التناقض المجلوب إلى نسق فلسفي معتادا على ألا يتصور نفسه بهذه الطريقة، ومن ناحية أخرى، لا يعرف بصفة عامة الوعي الذي يفهم ذلك النسق كيف يحرر هذا التناقض من أحاديته أو يحتفظ به مخترقا بها، ولا كيف يعترف في شكل ما يبدو متعارضًا ومتناقضًا مع نفسه بعدد كبير من اللحظات الضرورية بشكل متبادلة.
لا ينبغي لنا إذن أن نعتبر التناقض فضيحة، بل يجب أن نتلقاه كخاصية أساسية للحقيقة، التي يتم تصورها ككل في طور التكوين، وتنتقل من شكل متوال إلى آخر، ولكل منها شرعيته في وقت معين. من خلال اقتراح إعادة التعريف هذه، يحقق هيجل هذه البادرة الثورية: يدخل التاريخ في تعريف الحقيقة ذاته. إن نموذج الحقيقة الرياضية، الخالد لأنه صالح طوال الوقت، لم يعد مناسيا. ما هي عواقب هذا الإقحام للزمان في قلب الحقيقة؟ هذا ما سنعرفه في الفقرات الموالية.
في الحقيقة، ل"إضفاء الطابع الزمني" على الحقيقة في الواقع عدة نتائج أساسية. أولا، التاريخ لا يحدث بالصدفة، بل هو المكان الذي تنكشف فيه الحقيقة تدريجيا. هناك إذن غاية للتاريخ، غائية، هدف، ( telos باليونانية): "الحقيقة هي الصيرورة ذاتها، الدائرة التي تفترض كغائية لها والتي تكون بدايتها غايتها والتي لا تكون فعالة إلا بتحقيقها وبغايتها.
أو لنقل مع هيجل مرة أخرى: الحقيقة هي الكل. لكن الكل ليس سوى الجوهر الذي تم إنجازه بشكل نهائي من خلال تطوره. يجب أن يقال عن المطلق أنه في الأساس نتيجة، وأنه ليس في النهاية سوى ما بكونه في الحقيقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي غاية التاريخ هذه التي نتجه نحوها تدريجياً؟ ليس هذا هو المكان المناسب للإجابة على هذا السؤال. ليس من المناسب إعطاء "الكلمة الدقيقة للتاريخ"، إذا جاز لنا في المقدمةأن نتخرط في هذا التلاعب بالكلمات. لن يكون لذلك أي فائدة. هل يمكن أن نكتشف اسم الجاني في بداية الرواية البوليسية؟
بما أن الشيء لا يضمحل في الغاية التي يهدف إليها، بل في التطور التدريجي لتحقيقه، فإن هذه الغاية لا يمكن تقديرها بالكامل إلا عندما نمر بالمراحل المتعاقبة للأشكال التي ستتخذها الحقيقة، في انتشارها التدريجي. هكذا "تكون الغاية هي الكوني غير الحي، كذلك لا يكون الميل إلا الدافع الخالص المجرد من فعاليته، والنتيجة العارية هي الجثة التي تركت هذا الميل وراءها".
في المرحلة الحالية، مرحلة التمهيد، يجب علينا أن ننتبه إلى مبدإ تطور الحقيقة ذاته، بدلا من السعي لاكتشاف المراحل الملموسة لهذا الأخير (سيكون هذا موضوع هذه المحاولة)، وما يؤدي إليه في النهاية (ما سنكتشفه في نهاية المطاف). أي تمهيد في كل الأحوال غير مناسب للمصنف ذاته الذي كتبه هيجل. ربما يكون كتاب "فينومينولوجيا الروح" هو الكتاب الوحيد الذي تبدأ مقدمته بـ... نقد مبدأ التمهيد في الفلسفة: "التفسيرات التي اعتدنا تقديمها في التمهيد، في بداية العمل، لإلقاء الضوء على الغايات التي اقترحها المؤلف، ودوافعه […] لا تبدو زائدة عن الحاجة في حالة العمل الفلسفي فحسب، بل حتى، بالنظر إلى طبيعة الشيء، غير مناسبة وتتعارض مع الهدف المنشود". وإذا كانت الحقيقة في الواقع هي الكل، الذي يشمل مجموعة واسعة من الأشكال التي تتخذها على التوالي، فلا يمكن التعبير عنها في مقدمة لا يمكن أن يكون لها سوى طول محدود بطبيعتها. لا يمكننا سوى تقديم بعض الملاحظات غير الضرورية والطارئة في المقدمة، لأن كل ما هو ضروري لا يمكن إلا أن يكون جزءً من نسق سيشغل عرضه عدة مئات من الصفحات: "مهما كان من المناسب أن يقال في مقدمة عن المسائل الفلسفية وبأي طريقة يتم ذلك، من خلال إعطاء لمحة تاريخية عن القصد أو وجهة النظر الشاملة المعتمدة، والمحتوى العام والنتائج التي تم الحصول عليها"، كل هذا لا يمكن أن يكون سوى "ربط بين التأكيدات والتصريحات حول الحقيقة المذكورة كيفما اتفق - وهذا لا يمكن أن ينطبق على طريقة المضي قدما التي سيتم من خلالها تقديم الحقيقة الفلسفية.
في الواقع، إذا كانت الحقيقة هي الكل، فلا يمكن تقديمها إلا في نسق: "الشكل الحقيقي الذي توجد فيه الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون نسقها العلمي".
لا يتعلق الأمر بكشف بعض الحقائق بطريقة حماسية، أي "ملحمية"، بل يتعلق بتقديم عرض كامل وشامل ونسقي لأن الأشكال المتعاقبة المختلفة التي تتخذها الحقيقة يتم استنتاجها من هذه أو تلك: لقد تم تفصيلها وفقا لعملية ضرورية يجب إماطة الحجاب عنها.
بهذه الطريقة فقط ستصبح الفلسفة علما؛ عندها لن تكون حبا (philo) للحكمة أو المعرفة ( logos) بحسب ما يقترحه أصل الكلمة، بل معرفة. هذا المثل الأعلى للعلمية، الذي يقطع مع الخضوع الأصلي المحمول على أصله اللغوي، هو ما يطالب به هيجل: "الإسهام في اقتراب الفلسفة من شكل العلم - نحو الهدف [الذي يتمثل] في القدرة على التخلي عن اسمها المتمثل في حب المعرفة وأن تكون معرفة فعالة – هو ما شرعت في القيام به".
الفلسفة علمية لأنه من الممكن تقديمها في نسق، وهي بالعكس نسقية لأنها علم. هذا المثل الأعلى للعلمية، الذي لم يعد يهمنا في القرن الحادي والعشرين، موجود بالفعل عند ديكارت، وسيتناوله هوسرل لاحقا، كما يتضح من عنوان كتابه "الفلسفة كعلم صارم".
واليوم، فقد هذا المثل مصداقيته، ولم نعد نسعى إلى جعل الفلسفة علما، أو علما مطلقا. لكن بالنسبة لهيجل، على العكس من ذلك، كما يؤكد بشكل حازم، "لا تكون المعرفة فعالة ولا يمكن تقديمها إلا كعلم أو كنسق. أو مرة أخرى، "الضرورة الداخلية للمعرفة لتكون علما تكمن في طبيعة هذه الأخيرة. وإذا كان هذا ممكنا، فذلك مرة أخرى، لأن الحقيقة هي الكل. ومن هذا التعريف للحقيقة ينشأ هذا المفهوم للعلم، وليس من غيره. ومن تعريف آخر كان سينتج نموذج آخر للمعرفة: مثلا، تلك الخاصة بشذرات المرحلة ما قبل السقراطية
المرجع:
https://www.les-philosophes.fr/hegel/ phenomenologie-esprit/Page-9.html