في اليقين الحسي، يكون اليقين والحقيقة متساويين، في هوية مباشرة: ما أنا متأكد منه صحيح. هذه الهوية، التي سنرى تفككها، لن يُعاد اكتشافها، كوسيطة، إلا في نهاية كتاب "ظاهريات الروح". ذلك لأنه من الواضح أن المعرفة التي هي معرفة اليقين الحسي تبدو أفقر بكثير من كونها ثرية: “مما تعرفه لا تقول إلا هذا: هذا هو؛ وحقيقتها لا تتضمن إلا وجود الشيء [المعني]” (174/63). إن المحتوى الموضوعي لليقين الحسي هو بلا شك غني بالنسبة للوعي في اللحظة التي يدركه فيها بشكل وثيق، ولكن من هذا المحتوى يقول فقط: "هذا هو". إن الوعي متأكد من "الشيء [ die Sache ]" الذي يدركه، لكن حقيقة هذا اليقين، كما ذكرنا، تظل غير محددة تماما. لا خصائص، لا مفاهيم ولا وصف؛ يصر هيغل على أن الشيء المستهدف باليقين الحسي لا يعرف بواسطة الفكر.
جانب الذات، الأنا المتيقنة من هذا، تبدو أنها غير محددة تماما، لأنه لا يمكن وصفها بخلاف الذات المفردة الخالصة، في علاقة مباشرة مع وجود مفرد. وبلغة هيجلية: الأنا، هذا الكائن، متيقنة من هذا الشيء، من هذا. ولذلك فإن اليقين الحسي، في طرفيه، هو علاقة مباشرة وفردية بحتة، حيث يتناسب وفقر الحقيقة المعروفة والمعلنة مع الغنى الذي يعتقد المقصود الذاتي أنه يدركه.
ولكن هناك أيضا فرقا، في مباشرية اليقين الحسي، بين مقصودي الذاتي والوجود المتعارض-مع. عبر عنه هيغل بطريقة غريبة على ما يبدو: “إن اليقين الحسي الفعال ليس فقط هذه المباشرية المحضة، بل هو شيء يأتي ليقوم على نفسه كمثال لذاته” (175/64). ويضيف على الفور أن "التنوع الرئيس" (١٧٥/ ٦٤) يتعلق بالتنوع الذي يميز بين هذا الشخص والهذا، اللذين "ينفصلان على الفور عن الوجود الخالص" ( المرجع نفسه ). هناك إذن جانبان، أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، وكلاهما "مثالان" للوجود المفرد والمباشر.
بيد أن الوعي الحسي يقحم تسلسلا هرميا بين هذه "الأمثلة"، لأنه يطرح المتعارض-مع المباشر كما هو الجوهري، كما هو موجود بطريقة مباشرة، والانا ك"ما هي غير جوهرية ووسيطة" (176/ 64). وكما سيكون الحال بالنسبة إلى الشكلين الآخرين للوعي – الإدراك والفهم – تم طرح لامساواة مبدئية بين حدي التعارض، لصالح المتعارض-مع؛ هذه اللامساواة تتمثل هنا في أن المتعارض مع موجود بذاته وبطريقة مباشرة، بغض النظر عن كونه معروفا أو غير معروف، بينما المعرفة تتوقف على المتعارض-مع ولا تكون إلا من خلال وسيطه. فعلا، في ذاته أو لأجلنا، لا هذا ولا الآخر مباشران. هذا التنوع هو توسط متبادل: فاليقين بالذات يأتي بفضل المتعارض-مع، وهذا الأخير لا يمكن هو الآخر معرفته إلا بواسطة الأنا. لكن بالنسبة للوعي الحسي، وحدها المعرفة تكون وسيطة.
هذه هي الحالة الأولية للوعي. ومن الآن، سوف يتعلق الأمر باتباع التجربة التي قام بها لمتعارضه، والتي تتمثل في معرفة ما إذا كانت معرفة المتعارض الحسي، الهذا، هي في الواقع معرفة مباشرة بوجودها المباشر. لن يتعلق الأمر إذن بتقييم خارجي لهذا الشكل من الوعي، بل بالنظر إلى ما إذا كانت معرفة اليقين الحسي، وفقا لفحصها الخاص، صحيحة فعلا؛ ما إذا كانت فعلا استيعابا مباشرا للجوهر، لهذا الحسي.
ديالكتيك اليقين المحسوس
ال"هذا" يأخذ هذا الديالكتيك شكل سلسلة من الأسئلة التي يطرحها الفيلسوف على الوعي الحسي، مما يعطي طابعًا أكثر واقعية، ولكن ربما أيضا أكثر اصطناعية، لهذا الجزء من الفصل.
باعتبار المتعارض مع هذا الوعي هو الهذا الحسي، يتعلق السؤال الأولي لهذا الديالكتيك بوجود الهذا، الذي يتضح على الفور أن له بعدين، الآن والهنا ( 176/ 64). كل ثراء اليقين الحسي يحدث في زمان ومكان خاصين. ينصب السؤال الأول على الآن، والجواب الأول يعلن عن نفسه:"الآن هو الليل" (176/ 64). للتأكد من هذه الحقيقة، يمكننا أن نكتبها؛ لكن في اليوم التالي عند منتصف النهار، يكون الآن هو الزوال، لدرجة أن هذه الحقيقة "تبخرت" (177/64). هذه التجربة البسيطة غنية جدا بالدروس حول طبيعة الآن.
بالفعل، يمكننا الآن التمييز بين جانبين من الآن. من ناحية، هناك، إذا جاز التعبير، محتوى أو وجود الآن، مثلا الليل؛ إنه موجود مباشر، ونحن عموما نعبر عن هذا الموجود بطريقة غير شخصية: "إنه الليل". حتى الآن، اليقين الحسي هو في الواقع معرفة مباشرة بالموجود المباشر. مع ذلك، أثبتت التجربة أن محتوى الآن هو أيضًا غير موجود، لأنه عندما يوجد النهار، لا يوجد ليل. والحال أن النهار هو أيضا آن وموجود. هكذا يرتسم جانب آخر من الآن، والذي يمكن أن نسميه "شكلا" له، على اعتبار أن الأخير يحتفظ بذاته من خلال المحتويات المختلفة:
"يحتفظ الآن نفسه بذاته بشكل جيد، لكنه كآن بحيث لا يكون هو الليل؛ كذلك يحتفظ على ذاته، في مواجهة النهار الذي حل الآن، من حيث أنه آن ليس هو النهار أيضا، أو من حيث أنه سلبي بشكل عام". (177/65)
هناك إذن شيء مشترك بين كل "الآنات" المفردة، لكنه ليس أيا منها. ولأن الآن لا يمكن اختزاله في أي من محتوياته، في أي من "حالاته"، كتب هيجل أنه "سلبي بشكل عام" (177/65). ومع ظهور هذه السلبية، في اليقين الحسي، يتدخل شيء مخالف لما أكدته، ألا وهو الوساطة. ولأن الآن المحتفظ على ذاته ليس أي آن مباشر، فهو "الآن الوسيط" (نفس المرجع نفس). هذه الوساطة أو الوساطة المتبادلة تتمثل على وجه التحديد في ما يحتفظ بذاته بفعل عدم وجود المباشر: هو وسيط بما هو نفي له.
الآن بسيط: هو واحد ونفسه مهما كانت محتوياته، مهما كانت كينونته (ليل، نهار، الخ..)؛ فهو سلبي تجاه هذه الكينونة (ليس ليلاً ولا نهاراً، إلخ..) وغير مبالٍ بذاته. هذه الخصائص تجعل الآن كونيا: إنه ذلك الذي يظل مطابقا لذاته من خلال تحديداته دون أن يكون أيا منها (“لا-هذا”). ولذلك فإن اليقين الحسي يؤكد أو على الأقل يتضمن كونيا، أي بوضوح شيئا مختلفا تمامًا عما اعتقد أنه أكده. غير أن هذا الطريق المؤدي إلى الكلي ليس تيها، بل هو تحقيق لحقيقته: «الكوني إذن، بالفعل، هو ما يوجد من حقيقة في اليقين الحسي» (١٧٧/ ٦٥). ومن المفارقة أن ما هو حقيقي في اليقين الحسي ليس هو ما أثبت أنه كذلك.
ما يُظهر موضوعيا إلغاء لهذا، كما يدركه الوعي، هو تحويل مقصود هذا المفرد إلى كوني، من خلال الكلام، واستحالة تحديد هذا المقصود: "نعلن أيضا المحسوس كما لو كان كونيا؛ ما نقول هو: هذا، ما يعني العذاب الكوني، أو: هذا هو، ما يعني الوجود على العموم" (نفس المرجع).
هكذا يبدأ هيجل التأمل الأول في الفصل المتعلق باللغة. بقولي "هذا"، وبالتالي بالتعبير باللغة عن مقصودي من المتعارض الحسي المفرد، فإنني أتلفظ بكلمة كونية، لأن "هذا" ضمير إشارة يمكن أن يدل على كل شيء؛ فهو لا يعين أي شيء تحديدا، وحتى أقل تفردا. إن التعبير عن المتعارض-مع بكلمة "هذا" هو بمثابة تعبير عن الوجود الكوني؛ مقصودي متناقض مع تعبيري. غير أن مقصودي ليس متناقضا فحسب، بل مفند كذلك، لأن اللغة «أكثر صدقا» (١٧٨/٦٥). ومن هنا جاء النقد الخفي الموجه إلى فيلهلم تراوجوت كروج، بعد عدد من الصفحات (180/66)، الذي تحدى كل المثالية ليستنتج قبليا القلم الذي كتب به. ولكن حتى يتسنى لنا أن نطلق مثل هذا التحدي، فلا يزال يتعين علينا أن نكون قادرين على تحديد ما المقصود باستخدام "هذا القلم"؛ ولكن هذا مستحيل.
ولكن لماذا يجب أن تكون للغة الأسبقية على المقصود، على ما "أريد قوله"؟ لأن الكوني بالنسبة لهيجل هو ما يوجد من حقيقة في اليقين الحسي – “حقيقي” وفقا للمعيار المرجعي الذي وصعه – هو”وحده ما تعبر عنه اللغة كحقيقي” (178/65). بعبارة أخرى، فإن "هذا" المفرد، الذي تبين أنه فعلا كوني، لا يمكن التعبير عنه حتى بواسطة اللغة. فضلا عن ذلك، اليقين الحسي لا يحتاج إلى ان يتمثل المعنى الكوني لـ"هذا" من أجل تجريبه. إن النطق كافٍ لإثبات أننا "لا نتكلم مطلقا كما نقصد [ wie wir es (...) meinen ] في هذا اليقين الحسي" (المرجع نفسه). يظهر إذن التناقض، وهو الخلاف بين ما يقصده اليقين الحسي وبين ما يقوله.
حالة الهنا مشابهة للحالة الآن. الجانب المكاني لهذا يخضع لنفس الجدل؛ هكذا تختفي الشجرة التي أراها عندما أستدير ويصبح الهنا منزلاً. إن المحتوى هنا يتغير باستمرار، لكن حقيقته، وشكله الكوني الذي يتم التعبير عنه باللغة، يظل كما هو.
باختصار، يجد اليقين الحسي نفسه أمام شيء ليس هو الذي كان يقصده، أي وجود خالص ومجرد. هذا الوجود هو أقل مما قصده أن يكون “الوجود بهذا التحديد على أنه التجريد أو الكوني المحض في حد ذاته” (178/65)، أي وجود يتمثل تحديده في عدم كونه أي مفرد؛ وجود مجرد ووسيط تماما. بالنتيجة، الطابع الفردي لليقين الحسي تم اختزاله من الآن في المقصود أو الرأي الحميم “ومقصودنا الذي لا يكون عنده الحقيقي في اليقين الحسي هو الكوني، هو وحده الذي يظل قائما في مواجهة هذا الآن أو هذا الهنا الفارغ أو اللامبالي" (178/65).
في هذا المقطع يظهر التناقض بوضوح، أي التعارض الداخلي في اليقين الحسي، بين ما يعرفه الوعي عن متعارضه (الوجود الكوني) وبين ما يقصده، ما "في ذهنه" بطريقة فريدة، أي الهذا المفرد. من الممكن أن نلاحظ بشكل عام أن "التناقضات" العديدة التي سيواجهها الوعي لا تشبه التناقضات بالمعنى المنطقي الدقيق للكلمة. إنها تشبه ما يحدث هنا بالذات: واقعة تجريب التناقض بين ما يعرفه الوعي أو يعتقد أنه يعرفه عن متعارضه، وهذا المتعارض نفسه الذي يُنظر إليه على أنه الجوهر، الحقيقة. مع ذلك، في هذه المرحلة، لا يتخلى الوعي تماما عن متعارضه. سيؤدي هذا الخلاف إلى عكس العلاقة بين المعرفة والمتعارض-مع. لقد تم تحديد الأخير على أنه المباشر والجوهري، في حين تم طرح الأنا على أنها الوسيط غير الجوهري. بما أن المتعارض-مع انكشف على أنه كوني ووسيط، سيحدد الوعي معرفة هذا المتعارض-مع على أنها الجوهري، وهذه المعرفة ليست سوى “المقصود كما هو لي” (179/66). هناك انقلاب بحيث أن الجوهرية والمباشرية المنسوبتين إلى هذا تعودان من الآن إلى المعرفة (التي ستشبه حدسا حسيا)، لكن المتعارض-مع الحقيقي يظل هو الوجود المباشر، فقط "باعتباره متعارضي" (المرجع نفسه). في الأساس، "المتعارض-مع موجود لأن لدي، أنا، معرفة به" (المرجع نفسه).
يتم تجنب انهيار اليقين الحسي إلى حد أنه، في العلاقة المباشرة، أصبحت الأنا حاليا هي التي تخلق وتثبت التحديدات الزمكانية: “الآن نهار لأنني أراه؛ الهنا شجرة لذات السبب" (179/66). والمقصود يضمن وجود هذا المفرد. غير أن إعادة تشكيل العلاقة بين الأنا والهذا تخضع لنفس الجدل السابق، حالما تحدس "أنا أخرى" (179/66)
شيئا آخر غير الأولى وتضمن بنفس القوة ونفس الحق شيئا آنا آخر وهنا آخر، هذا آخر إذن. ليس من الضروري أن نفترض أن هذه الأنا هي نفس أنا فرد آخر: هذا الخلاف يمكن أن ينشأ داخل نفس الوعي، لأنه يكفي أن تمر لحظة وأدير رأسي نحو أنا أخرى، حتى يحدس أنا آخر، أي أنا بالذات في لحظة لاحقة، شيئا آخر. وعلى نحو مشابه لحالة الآن والهنا، يختفي المحتوى الملموس الذي حدسته الأنا، أو بشكل أكثر دقة، تلغي الحقائق التي تؤكدها الأنوات المختلفة بشكل متبادل. مرة أخرى، لا يمكن للتفرد المباشر أن يحتفظ بنفسه. في المقابل، لا تختفي الأنا: توجد وتستمر، غير مبالية بالمحددات الحسية التي تأتي لتعمل داخلها، لهذا السبب فهي كونية؛ فهي يمتلك في نفسها "رؤية بسيطة" (180/66)، أي حدسًا يظل كما هو مستقلاً عن المحتوى، ويتوسطه ويبقى غير مبالٍ به.
يمكن دائما أن نقصد أنا ادمفردة، ولكن ليس من الممكن، انطلاقا من هذا المقصود، أن نقول ما هي هذه الأنا المفردة، في حين أن الانا الكونية يمكن التعبير عنها وقابلة للتطبيق على جميع الانوات المفردة. هذه الملاحظة الثانية المتعلقة باللغة تؤكد هذه النقطة: أنه من المستحيل ذكر المفرد المقصود. أن تقول "أنا" هو أن تقول جميع الأنوات، بخيث أن اللغة لا تعبر إلا عن الكوني.
باختصار، يحدث الشيء نفسه تماما مع الأنا كما يحدث مع الهذا: المباشرية التي يفترضها الوعي كحقيقة يتبين أنها وسيطة؛ الأنا المقصودة هي كذلك بسبب نفيها للأنا الأخرى (من خلال وساطة) وتفردها لا يوصف.
الإظهار
يبدو أنه يجب على الوعي في هذه المرحلة أن ينتقل إلى شكل آخر، لأن “جوهره ليس في المتعارض-مع ولا في الأنا” (180/66). بالفعل، أبان هذا والأنا المفردة عن كونهما غير جوهريين: ليس لهما وجود. مع ذلك، يميّز هيجل مرحلة أخيرة: “نتأدى، نتيجة لذلك، إلى طرح كل اليقين الحسي نفسه باعتباره جوهرها، [و] ليس مجرد لحظة واحدة من لحظات هذا اليقين” (181/ 67).
يخرج الوعي من أحادية المواقف السابقة من خلال افتراض أن الحقيقي، الجوهر، ليس هذا أو أنا، بل الكل، أي هذا وأنا، معا في علاقة مباشرة. يتعلق الأمر، في عملية إعادة التشكيل النهائية هذه لليقين الحسي الذي يهدف إلى مقاومة الصعوبات السابقة، بعدم التخلي عن المباشرية، بل، في ضوء التجارب التي مرت بها، بوضع هذه المباشرية في العلاقة بين المعرفة والمتعارض-مع، دون إعطاء الأولوية إلى هذا أو ذاك:
"تحتفظ بنفسها حقيقة هذه المباشرية كعلاقة تبقى متساوية مع ذاتها، لا تطرح بين الذات والمتعارض-مع أي اختلاف في الجوهرية واللاجوهرية، ولا يستطيع أن يخترقها، بالتالي، أي فرق على الإطلاق". (181/67)
متعارض اليقين الحسي هو من الآن فصاعدا الوحدة العلائقية بين الأنا والمتعارض-مع، وحدة لا يكون فيها أي حد غير ضروري. وهذه الوحدة غير متمايزة بمعنى أنه لا يوجد اختلاف جوهري بين الحدين، لكن أيضا بمعنى أنه لا يتدخل أي كائن آخر، ولا تغيير في المحتوى الحسي. بشكل ملموس، تؤكد الأنا هنا وآنا مفردين، دون مراعاة حقيقة أنهما مقدر لهما أن يتغيرا أو أن أنا أخرى تؤكد شيئًا آخر. ويبقي من ذلك الحدس: «إنما أنا حدس خالص» (١٨١/ ٦٧)؛ ولا يريد القبول بأي شيء آخر غير هذه العلاقة المباشرة بين الأنا والمتعارض-مع.
إن مثل هذا الوعي لم يعد قابلاً للحوار، أولاً لأن التجربة السابقة جعلته يتخلى عن استخدام اللغة، ثم لأنه لم يعد يريد أن يأخذ في الاعتبار محتوى آخر أو التغيير في محتوى حدسه. ولا يسائل الفيلسوف، في هذه المرة، هذا الوعي، بل يقترح الانضمام إليه على المستوى تحت اللغوي، من خلال إظهار الهنا أو الآن المباشر: " الإظهار: إنما بجعلنا إياه يظهر يتعلق الأمر، لأن حقيقة العلاقة المباشرة المعنية هي حقيقة هذه الأنا-ذي، التي تقتصر على آن أو هنا” (182/67).
يلجأ الوعي إلى ما نسميه اليوم تعريفا ظاهريا أو تداوليا. للوصول إلى حقيقة اليقين الحسي، يجب علينا أن نحاول الانضمام إلى ما تظهره لنا، وأن نتموقع في مكاننا، وأن “نستقر في نفس النقطة من الزمان أو المكان” (المرجع نفسه). في الواقع، من المستحيل على الوعي أن يُظهر لنا حقيقته بعد وقوعها، لأنه بهذه الطريقة تُفقد العلاقة المباشرة.
يبدأ هيجل، على غرار جدل الهذا، بحالة الآن. إن الوعي يظهر لنا هذا الآن-ذا، لكنه يتوقف عن أن يكون هو نفسه كما يظهر لنا. لقد كان، لكنه لم يعد؛ لكن الكينونة والكينونة الماضية ليستا نفس الشيء. بتعبير أدق، يتم تحليل حركة عرض اليقين الحسي هذه في ثلاث لحظات. (1) الإظهار دون التعبير عن الآن هو الحقيقة الأولى. لكن يبدو أن الآن الذي أشير إليه ليس هو ما كنت أقصده، إنه مجرد شيء تم إلغاؤه، شيء حدث في الماضي. (2) التأكيد، أو على الأقل إدراك حقيقة أن الآن الأول وجد في الماضي، وبالتالي تم إلغاؤه. تتمثل هذه اللحظة الثانية فقط في نفي الآن المظهر (صيغة اسم المفعول). (3) ما كان لم يعد موجودا. إن ما يبدو وكأنه تحصيل حاصل يشكل فعلا مضاعفة للنفي، لأن إنكار وجود الآن الملغى يعني تأكيده: "ألغي ما سبق أن وجد أو الوجود الملغى، الحقيقة الثانية، أنفي، بعد ذلك، نفي الآن، وأقوم هكذا بالعودة إلى الإثبات الأول، وهو أن الآن موجود» (١٨٣/ ٦٨).
من الواضح الآن، في هذه اللحظة الثالثة، أن الآن الذي تم تأكيده مرة أخرى ليس مباشرا. إنه آن "منعكس في ذاته" (نفس المرجع)، أي أنه عاد إلى نفسه من خلال نفيه، يظل بسيطا بينما يحتوي على الآنات التي ليست هو. هكذا يتكون الآن الذي نحدده من وحدات زمنية مألوفة، مثل الثواني، الدقائق والساعات، الأيام، إلخ. يكتب هيجل عن هذا الآن الوسيط:
"إنه على وجه التحديد شيء منعكس في نفسه، أو بسيط، والذي، في وجود-آخر، يبقى على ما هو عليه: الآن الذي هو الكثير من الآن؛ وهذا هو الآن الحقيقي، الآن كيوم بسيط عندما يكون في حد ذاته العديد من الأوقات والساعات". (183/68)
باختصار، فإن الآن الذي أشير إليه هو بالضرورة مجموعة من الآنات، مجمعة ولكن في شيء بسيط، أي في آن واحد. عندما أفكر أو أقول "الآن"، فإنني في الحقيقة أحيل إلى يوم أو ساعة أو ثانية، وبالتالي إلى وحدة معقدة، إلى كوني. وفي حالة المكان، تحدث نفس الحركة وفقا للجهات المكانية: فالهنا الذي أظهره ليس هنا خالصا، "بل قبل وخلف، أعلى وأسفل، واحد على اليمين وواحد على اليسار" (184). /68). يختفي هنا المظهر (بفتح الهاء)، ليس بسبب سلبية الزمن، بل لأنه لا يمكن إظهاره إلا بقدر ما يتم أخذ آحاد الهنا في الاعتبار وإهمالها. من تأكيد الهنا الحقيقي يتبين أنه تأكيد لتعددية هنا، بلكوني بالتالي.
(يتبع)
نفس المرجع