- صباح الخير يا (أبو إبراهيم)، الدنيا الصبح، الفجر شقشق، امسح وجهك بالرحمن، اطرد إبليس واذكر الله!!
- لا اله إلا الله محمد رسول الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
رفع نفسه من الفراش بتثاقل ملحوظ، استوى في فراشه ووضع رأسه بين كفيه وغاب فيما يشبه السبات، وما هي إلا لحظات حتى ارتفع صوت شخيره ليصل مسامع زوجته في المطبخ. بدأت التبسم وهي تغادر المطبخ متجهة نحوه، وحين وصلته هزته برفق شديد وهي تضع يدها الثانية فوق رأسه.
- أبو إبراهيم وحد الله، عيون الدنيا بدأت تتفتح، وأنت بدلا من فتح عينيك وقلبك معها تحاول اغماضهما. النور قادم. والشمس ستضرب بقوتها غلالات الظلام لتفتح من خلالها شقوقا تتسع لقوتها القادمة لتندفع من قلب العتمة والغيب المتواصل. توكل على الكريم وسلم أمرك كله له، الشاي جاهز، يجب أن تغمر ذاتك بالنشاط لتلحق بصلاة الفجر قبل أن تندفع أشعة الشمس في الأفق الساكن ببقايا ليل بدا رحلة الانسحاب.
- لا اله إلا الله وحده، الله يرضى عليك يا أم إبراهيم، والله إني لا أعرف ماذا كنت سأفعل بدونك، أنت بركة، بركة غامرة يا أم إبراهيم. أصيلة وبنت أصول.
- أسأل الله أن يديمك لنا، ونحن أيضا بدونك لا نساوي شيئا، نفسك في البيت كافي لان نشعر بالفرحة والسعادة والأمان، دخلتك علينا تساوي الدنيا وما فيها. والله، وبكسر الهاء، منذ خروجك وحتى عودتك أبقى مرتبكة، مشوشة، كمن فقدت شيئا عزيزا لا أعرف ما هو، ولا يهدأ لي بال، ولا يقر لي خاطر أو عين إلا حين تدخل البيت وتملأه بأنفاسك وصوتك.
- أصيلة وأخت رجال، وهل كل النساء نساء؟ أنت حنونة قلبي وعمري، وردة روحي، غالية وستظلي غالية.
- حسناً، وهي تبتسم ابتسامة دلال وغنج يسح من كل جوانبها الحنان، أنت شاطر في مثل هذا الكلام، ولا أعرف لماذا خرجت عاملاً وليس شاعراً. الدنيا لا تزال صباحاً، وأنت مثل الأطفال تبحث عمن يداعبك ويناغيك.
- أتعرفين يا أم إبراهيم، كل صباح عندما تأتي لتوقظيني من النوم وارى وجهك، أحس بحاجة شديدة للبقاء في البيت، أنا لا أعرف لماذا أتعلق بوجهك ورائحة الصباح المنبعثة من بين مسامات جلدك وطيات ملابسك، شيء ما يمغنطني، يجذبني نحو البريق المرتسم في عينيك لينير قلبي وغرفتي قبل أن تبرز الشمس لتنير الكون. أنت يا أم إبراهيم، كل ما فيك له نكهة خاصة، حلوة مثل العسل، مثل التين، حلوة مثل عنب الخليل وبرتقال يافا. ولا أعرف لماذا حين أشم رائحتك أحس برائحة الأرض وهي تدفع رطوبتها وأنفاسها من باطنها. والله، والله الذي يعز ويذل أنني في لحظات كثيرة لا أستطيع التفريق بينك وبين الأرض. أنا احبك بنفس القدر الذي أحب فيه شجرة الزيتون، وللحقيقة فإنني لا أعرف كيف افرق بين عشقي لك وبين عشقي لشجرة الزيتون، بصورة أخرى، وإذا أردت أن تعزلي الغيرة، فأنني لا املك أن أقول لك إلا أن الكلام كله لا يجدي نفعا، لان ما أحس به ليس من اختياري، بل هو شعور مزروع بجذور قلبي وروحي، بصورة أخرى، أنا لست متزوجا منك أنت فقط، بل منك ومن شجرة الزيتون، لأنني، وفي أحايين كثيرة حين أركز بصري عليك وعلى شجرة الزيتون، فإنني أرى كلا منكما تحمل ملامح الأخرى، واراكما تتفجران خضرة ونماء وعطاء.
- الله يديمك يا أبو إبراهيم لنا ولشجرة الزيتون التي أتمنى أن تبقى هي ضرتي، الله يديمك يا نوارة عمري وبيتي، يا أحسن أبو إبراهيم في الدنيا. كلامك حلو، حلو- وهي تضم رأسه بين كفيها وتقبله بحرارة خاصة – لكن ما هو أحلى من كل هذا الكلام، روحك، روحك الخفيفة خفة عصفور الفجر، وأنفاسك العابقة بكل ذرة من ذرات جسدي، وصوتك الذي يقتحم روحي قبل أذني. أنت يا أبو إبراهيم رأسمالي في هذه الدنيا، والدنيا كلها بدونك لا تساوي عندي حبة خردل.
وبعد سهوم قليل بين الاثنين تنتفض أم إبراهيم
- وماذا بعد يا تاج رأسي، يبدو أن غزالتك شاردة هذا اليوم، اترك هذا الكلام لوقت اخر وانهض للصلاة، فالصلاة أولى من كل شيء، الصبح أذن، وصلاة الجماعة فاتتك، اطرد إبليس وامسح وجهك بالرحمن، صلي الصبح وستجدني قد جهزت لك شيئا كي تكسر السفرة، وإنشاء الله زوادتك اليوم من اللون الذي تحبه.
- يا الله، يا رب، يا عزيز، يا كريم.
توجهت أم إبراهيم للمطبخ وكلها سعادة ونشاط وحيوية، وبدأت تعمل بشكل سريع، خطواتها سريعة، متقنة، ورائحة الطعام التي بدأت تنتشر في الأفق لتعطر الجو تسربت من شقوق الجدران والنوافذ والأبواب، وصوت الدعاء المرافق للوضوء كان يتخلل تلك الشقوق والنوافذ والأبواب" اللهم باعد بين وجهي وبين النار"، " اللهم اجعلني من الغر المحجلين يوم القيامة"، وحين وقف على سجادة الصلاة وبدا بتلاوة القران، اندمجت اللحظات والمشاعر، رائحة الطعام، خرير مياه الوضوء، أنفاس الأطفال، بريق عيني أم إبراهيم، الماء المنساب من كفيها، كل شيء اندمج مع سمو اللحظة ورخامة الصوت وروعته. وما أن أتم صلاته حتى انطلق نحو الصغار المصفوفين على الفراش بجانب بعضهم، مسد بيده رؤوسهم برفق وحذر حتى لا يوقظهم، وأم إبراهيم تراقب بعينين حانيتين حنان زوجها وهو ينحني ليطبع على جباه وأيدي واكف وخدود أطفاله قبلاته التي تنعش روحها ونفسها قبل أن تنعش أرواح وأنفاس الأطفال.
- أبو إبراهيم، الطعام جاهز، تعال واكسر السفرة، الله وحده الذي يعلم ما هو شكل يومك هذا، قدم، قدم وسم بالله، اسم الله يذهب كل الشياطين، وإياك أن تأكل وتشبع، اجعلها ترويقة، ترويقة صغيرة، لأني جهزت لك زوادة خاصة، أنا أعرف انك ستحبها وأعرف انك تموت فيها.
- يا أم إبراهيم، الله لا يحرمني منك، الأشياء الطيبة والمميزة اتركيها للأطفال، هم أحق مني بها، بالنسبة لي أنا مستعد لان آكل أي شيء، خبزة ناشفة مع كوب شاي، نعمة وفضل من رب العالمين، ومن يرضى بما قسم له يرضى الله عنه. والأطفال أولى مني بكثير، هؤلاء هم عصافير الجنة، أحباب الله، وما يأكلونه هم استمرئه أنا، والله لو طلبوا قلبي وحبة عيني لأعطيتهم ما طلبوا، هؤلاء جزء من روح الله عز وجل، وجزء من روحي.
- وأنت تتعب، تجهد، ويجب أن تتغذى جيدا، ولزاما أن تأكل أحسن وأجود الطعام، والاهم، انك تاج رأسنا، حامينا، أبونا، ومثلما تنزع اللقمة من فمك لتضعها في فم أطفالك، يجب أن انزع اللقمة من فمي لأضعها في فمك، وزوادتك ليست من حصة الأطفال، بل من حصتي، منذ أسبوع وأنا اجمع فيها لك، واليوم شعرت أنها كافية، ولا يهمك، فالذي تأكله أنت مكسب لي وللأولاد، تلذذ أنت اليوم بهذا وما عليك أن تحمل هم الأطفال، الأطفال اليوم سيأكلون وجبة أخرى يحبونها كثيرا، وعندما تعود، سآكل أنا وأنت ما تبقى خلفهم. ولكن أمانة عليك أن لا تفتح الزوادة إلا وقت فرصة الإفطار في العمل.
- لا تخافي، والله لن افتحها إلا وقت الفرصة في العمل.
ونهض أبو إبراهيم من مكانه، انتصب حاملا زوادته، ولكن زوجته تناولتها من يده وتبعته نحو الباب الخارجي كعادتها في كل صباح، وعند الباب ناولته الزوادة وهي تدعو " الله يسهل أمرك يا رب "، " الله يكفيك شر اليهود "، " الله يعمي قلوبهم وعيونهم عنك ". أما أبو إبراهيم فقد التفت نحوها كعادته وقال:" ديري بالك على الأولاد، هؤلاء روحي" وتدحرجت دمعتان قاسيتان، ولمع بريق غريب في عينيه، فانقبض قلب زوجته مرة واحدة ليتحول كل فرحها وسعادتها إلى مجهول قاس قساوة الدمعتين اللتان تدحرجتا من عيني زوجها. تابعته بنظراتها كعادتها، لكنها اليوم وبسبب الدمعتين والبريق، أحست بأنها تود اللحاق به لتعيده إلى البيت، وبين هذه الرغبة والدهشة والذهول كان أبو إبراهيم قد التف ليدخل الزقاق الآخر المؤدي للشارع الرئيسي والذي تصطف فيه السيارات التي تقل العمال إلى حاجز الطيبة العسكري.
دخلت أم إبراهيم المنزل وقد تبدلت حالتها تماما، أصبحت لا تعرف ماذا ستفعل، أو ماذا يجب عليها أن تفعل. توجهت مباشرة نحو الأطفال وبدأت بذهول غير معهود تدقق في ملامحهم واحدا تلو الآخر، هذا فيه جبهة أبيه، وذلك انفه، أما الآخر فان الذقن والمحاجر هي نفس ذقن ومحاجر والده، وتلك الطفلة فيها خفة روحه ودمه، وتلك فيها نسمات أنفاسه وتكوير رأسه، جميعهم يحملون ملامحه وتقاسيمه، جزء من أنفاسه الحبيبة إلى قلبي، وجزء من روحه المحلقة، جزء من بسمته، وجزء من ضحكته المدوية. كلهم أبو إبراهيم، حبيب قلبي، شريك عمري، أب أطفالي، رفيق دربي، مؤنس وحدتي، هؤلاء وأبوهم محور حياتي ووجودي، ينبوع روحي وبقائي، بهم ولهم أحيا وأفنى. لماذا تدحرجت دمعتا اليوم من مقلتيه؟ لماذا بدت مؤق عينيه على غير عادتها؟ وما هذا البريق الغريب الذي لمع مرة واحدة وعلى غير عادة من عينيه؟ هذا البريق، تلك الدمعتان، لم أرهما طوال حياتي معه إلا اليوم. أبو إبراهيم لا يمكن أن يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد، اليوم تخلف، ما السبب؟ ولماذا لم أوقظه أنا أبكر حتى لا تفوته صلاة الجماعة، لماذا تركته نائما على غير عادتي حتى فاتته الصلاة في المسجد، لماذا واليوم بالتحديد، قال انه يراني شجرة زيتون، ويرى شجرة الزيتون أنا، الأمر غريب، غريب جداً، "يا رب سترك ورضاك، يا رب أبو إبراهيم أمانة عندك، يا رب أعده سالما لنا".
وصل أبو إبراهيم إلى السيارة، ألقى التحية على سائقها وهو يهم بالركوب على الكرسي المحاذي للسائق، لكن السائق بادره بالقول:
- أبو إبراهيم، اليهود مشددين اليوم على الحاجز، الطريق صعبة وغير آمنة، اغلب العمال عادوا والذي استطاع النفاذ نفذ في الصباح الباكر جدا.
- جميع المنافذ مغلقة، معقول، طريق فرعون، طريق السكة، خربة جبارة، طريق الواد، معقول انه لا يوجد أي منفذ نستطيع المرور منه.
- كلها مغلقة، مطوقة تماما، والعمال الذين عادوا قالوا انه لا يمكن للنملة أن تمر من هناك، اليهود منتشرون بكثافة، مسعورون، يطلقون الرصاص على كل شيء، حتى السيارات التي كانت متجهة نحو الحاجز لم تسلم من نيرانهم.
- يا ساتر، يا حفيظ، وماذا سنفعل نحن؟ الزوادة جاهزة، والأطفال نائمون، والرزقة مهمة. الأولاد يأكلون الحجارة. كل يوم حاجز، كل يوم إغلاق، كل يوم إطلاق نار. ما الذي نستطيع فعله نحن؟ الحال صعب، صعب جدا، وأخرتها مع هذا العمر الذي كله شقاء في شقاء، هذا زمننا، الله يعلم كيف سيكون زمن أطفالنا؟!
- إنشاء الله سيكون زمنهم أفضل من زمننا.
- الله كريم.
- طيب وطريق باقة الشرقية، مدخل نزلة عيسى مفتوح أم هو الآخر مغلق؟
- مدخل نزلة عيسى مغلق، لكن مدخل باقة الشرقية من الجهة التي توصلها مع الشارع الرئيسي لباقة الغربية وزيتا مفتوح، لكن يجب أن تقطع البيارة حتى تصل للشارع الرئيسي.
- توكلنا على الله.
تحركت السيارة من وسط المخيم نحو المدخل المؤدي لقرية شويكة، وعند مدرسة الصناعة الفاصلة بين أرض المخيم وأرض المدينة كانت السيارات تشكل صفا طويلا بانتظار التفتيش من قبل اليهود، وبسرعة كانت جملة السائق واضحة ومحددة: " نحن مسافرون باتجاه عتيل، انتم تحفظون الدرس جيدا، لأنكم إذا قلتم نحن متجهون نحو باقة الشرقية فلن يسمحوا لنا بالمرور".
- حافظين الدرس عن غيب، مثل درس المحفوظات، لا والله مثل اسمنا وزيادة. يا رب، العمر كله عذاب في عذاب، قصف في الليل، اجتياح وراء اجتياح، رعب من القذائف والصواريخ الساقطة من الفضاء، من الطائرات، ورعب من قذائف الدبابات، جثث، دمار، حتى رغيف الخبز، لقمة العيش التي تطلبها أفواه الأطفال، أصبحت جزءا من تركيبة المستحيل. وعلينا أن نواجه المستحيل بأجزائه، جزءا خلف الآخر، علينا أن نفتت الصخر لنستل منه لقمة العيش لأفواه الأطفال، يا رب إننا لا نسألك رد القضاء ولكنا نسألك اللطف فيه.
صوت آخر...
- يا رب يسر ولا تعسر، نحن رمينا همنا وحملنا عليك، أنت الكبير ولا كبير غيرك، أنت الكريم وأنت الرزاق، أنت الحامي ولا حامي غيرك.
وفي لحظة توجهت أنظار الجميع نحو اليهود وهم ينزلون احد الشباب من السيارة التي يقومون بتفتيشها، أداروه نحو الحائط وأمروه أن يرفع يديه ويلصقهما بالحائط مع المباعدة بينهما مباعدة تامة، ثم أمروه بان يرجع جسده وقدميه للوراء وهم يضربون بالعصا على موضع الكليتين، وأخيرا بدؤوا بمباعدة قدميه إحداها عن الأخرى، فأصبح جسده معلقاً بغير اتزان. تقدم أحدهم وبدا يفتش الشاب من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه، طريقته في التفتيش عدائية، تتفجر حقداً، تطفو السادية على كل حركة من حركاته، الصفعات المتتالية والمتلاحقة على خاصرتيه، الضغط ما بين فخذيه، تحسس الجسد بطريقة مذلة، القهقهات الشديدة التي كانت تنطلق من جميعهم حين يحاول الشاب الالتفاف للتحدث إليهم فيفاجأ بلكمات شديدة على وجهه وضربات العصا على جسده.
على الشاب أن يبقى مصلوبا هكذا، دون حراك، دون أن يبدل من وضع يديه أو قدميه، وعلى السيارات المصطفة أن تبقى واقفة تشاهد هذا المنظر، ومن يحاول التدخل أو التحرك فان الحائط يتسع لكثير من الأجساد التي يمكن أن تشكل صفا كبيرا في نهاية الأمر. النفوس كلها مشدودة، تغلي، تصليها السنة القهر، تكتسحها مشاعر العجز، تضربها الحيرة. والنساء على الشرفات والعليات تبكي وهي تبتهل إلى الله أن يأخذ بيد الشباب المصلوبين على جدر متفرقة، والأطفال يختزلون في ذاكرتهم صور الكبت والقهر والعذاب، يختزلونها في وعاء خاص داخل جماجمهم التي ستكبر يوما لتكبر معها كل الصور المختزلة، وسيبقى الألم هو النواة التي تشكل تكوينهم النفسي والذهني في المستقبل، وحين يكبرون وتتداعى صور الألم والقهر والكبت والعذاب أمامهم، في رؤوسهم، في صدورهم، في أحاسيسهم، سينتفضون انتفاضة تلو الأخرى، وسيرسمون بأجسادهم، بدمائهم، بأرواحهم حدود الفصل بين موت الحياة وحياة الموت، وسيتدفقون كشلالات صافية نقية في عروق الأرض، ليرسم تدفقهم هذا فواصل الحرية والكرامة، وسيرسمون خارطة جديدة لمفهوم الرفض، رفض قواعد الذل والكبت والقهر والعذاب. عندها، سيقف كثير من العالم معلنا دهشته واستغرابه وذهوله من هذه الانتفاضة التي تندفع وتتدفق دون سبب أو مبرر ودون أي وجه للحق، وكما لم يسلم الشباب في حياتهم لأنهم شكلوا سداً رافضاً للظلم والهوان، فان دماءهم وهي تنساب في عروق الأرض، لن تسلم من هجوم أولئك الدين يرون لون الدماء بأعين مختلفة.
بدا العرق يتصبب من ركاب السيارات المصطفة، عرق غزير، تجلبه حرارة الجو الذي خضع خضوعا تاما لالسنة اللهب المرسلة من الشمس، وحرارة الضغط النفسي المتراكم، إضافة لضغط القهر الصاعق من مشهد المصلوب على الجدار للتسلية ليس إلا. قهر وضغط، الم وعرق، ملح وحرارة، كثير من المشاعر، من الأحاسيس تجول وتجول، في الذهن، في النفس، في الخاطر، تجول بعشوائية، تصطدم، تهز الضلوع، تهز العقل، يحدث اصطدامها دويا هائلا يندفع صداه كشهيق بركان غاضب، لكنه مكبوت. أدعية، قراءة سريعة للقران، قراءة جهرية "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون" تململ، اضطراب، والمشهد، ذات المشهد مستمر. الشاب لم يبق وحيداً، بل أصبح الجدار يغص في صف من الشباب، وعواء اليهود، نباحهم، يزداد ارتفاعا ليتحول لعواء ونباح مسعورين، وأجساد الشباب تصفع بالأكف فيصل صدى الصفعات لآذان الركاب والجيران. والركاب يلفهم العجز، يشلهم الانتظار من أجل المرور لاصطياد لقمة عيش، لقمة خبز للأطفال والنساء الباقين في البيوت ينتظرون المجهول، يحدقون بالطائرات التي تأتي وتروح، يرصدون صوت الدبابات والجيبات، ينتظرون عودة آبائهم أو سقوط صاروخ من أحدى الطائرات، أو قذيفة دبابة، وربما رصاصات تنغرز في أجسادهم لتضيع فرحة الانتظار بعودة الأب، وفرحة الحصول على لقمة العيش من كف والد أخناه الانتظار على الحواجز قبل أن يفتته عذاب العمل ذاته.
تحركت السيارات، انطلقت لتقف من جديد على مفرق شويكة المؤدي للجاروشية. حاجز جديد، دبابات، سيارات عسكرية، أشباح وخفافيش، تدقيق في الهوية، في العمر مع سباب وشتائم، احتقار للإنسان، صلف وعنجهية، تعجرف من يملك الدبابة أمام من يحمل هم لقمة العيش للأطفال، معادلة غير متكافئة، غير مفهومة، غير مستوعبة، لكنها حقيقة قائمة فوق كوكب اسمه الأرض، ومن عليه يسمون بالبشر، بالإنسان، بالآدميين. صف آخر من الشباب مصلوب على الحائط، قهر جديد، كبت جديد، ما بين القهر والكبت الأولين وما يتبعهما مسافة قصيرة، قصيرة جدا.
تحركت السيارة من جديد وجاء صوت السائق واضحاً "نحن ذاهبون إلى علار" الجميع يعرف كل جملة، بل هم يحفظون تلك الجمل أكثر من حفظهم لأسمائهم، "علار باتجاه القرى لا ترتبط بالخط الأخضر، حيث لا عمل، لا خبز، لا لقمة عيش، لذلك يمكنهم الوصول إليها، أما باقة الشرقية أو نزلة عيسى فإنهما تشكلان معبرا للوصول إلى رغيف الخبز ولقمة العيش، وهذا خطر كبير، مهول، قد يزلزل الأرض ويفجر براكينها الخامدة. توقفت السيارات من جديد خلف صف طويل من السيارات على مفرق زيتا، حاجز جديد، دبابات، مصفحات، سيارات عسكرية، أشباح وخفافيش، بنادق نهمة حاقدة، عذاب جديد، ألم وقهر، عرق وملح، مرارة وكبت، ورغيف خبز يدور أمام الأعين كدورة الأرض في مدار الكون، لقمة عيش وأفواه أطفال ونساء وشيوخ، والأرض لا زالت تسمى بالأرض، ومن عليها يسمون بالإنسان، بالبشر، بالآدميين، وأم إبراهيم تجهز الأطفال للمدرسة، والمخيم يستعد لاستقبال دماء شهداء جدد، والسماء تفتح أبوابها كلها لاستقبال أرواح سوف تصعد من الأجساد لتندمج بروائح الملائكة والسماوات.
الطائرات تحلق في الأجواء، ترصد كل شيء، تستعد لاغتيالات دربت على القيام بها، المصفحات تقف على حدود المدينة، ارتال من الدبابات والمجنزرات والجرافات، الشمس تحتضن المدينة وتملاها بالنور والحياة، والأطفال المرتسمة وجوههم بالخوف والرعب الممزوجين ببسمة وداع لامهم وهم يحملون حقائب المدرسة استعدادا ليوم دراسي تحت هدير الدبابات والمصفحات وأزيز الرصاص، أولئك الأطفال الذين لا يعلمون إن كانوا سيعودون لأهلهم أم لا. قبلوا أمهم واندفعوا جرياً نحو المدرسة الواقعة على طرف المخيم.
وأخيرا وصلت السيارة باقة الشرقية، ترجل العمال وهم يحمدون الله على سلامة الطريق، وبدأوا يتوزعون على جوانب البيارة فرادى. هي خطوة أدركوها بالتجربة، فالذهاب لداخل البيارة كمجموعة يلفت النظر، ووقع الأقدام الكثيرة فوق الأوراق الجافة ليس كوقع قدمين، والاهم أن موت شخص واحد أقل ضررا من موت مجموعة كاملة، وقبل الدخول وكالعادة بدأ الجميع بسؤال الأهالي عن الطريق وأي المسالك اليوم أكثر أمنا؟ وهل مر قبلهم عمال آخرون أم لا؟ أسئلة روتينية، لكنها قد تقرر في لحظة واحدة حياة أو موت.
بدأ العمال دخول البيارة، حقل الألغام، بيارة الموت والرعب، بدأوا بدخول الخط الفاصل بين الموت والحياة، يتهامسون: "أنت ازرق من هون"، "وأنت انفد من هون"، "دير بالك على حالك"، "انتبه وين بتحط رجليك"، "إذا حسيت بخطر ارجع"، "ربك الستار"، "الله الحامي". وتفرق الجميع بين صفوف الشجر، خطواتهم، نقل الأقدام، الالتفات المشوب بالحذر الشديد، القرفصة المتكررة لرؤية المسافة المتبقية من بين سيقان الأشجار هروبا مما تحجبه الأغصان المتشابكة المتدلية المغطاة بالأوراق، الأنفاس التي تختلف بانتظامها وانطلاقها، كل هذه الأمور تدل وبشكل واضح على حجم الخوف والرعب المصاحب لمحاولة اجتياز البيارة من أجل الوصول للطريق المؤدي ليوم عمل شاق ومرهق. نفس الموقف، نفس الخوف والرعب، التحسب والتوقع، الحذر والانتباه سترافق رحلة العودة من العمل، لمن تكتب له عودة أصلاً. فكثير من العمال يضطر تحت ضغط صوت الرصاص وأزيزه المتواصل للعودة إلى بيته وهو يحمل هم الحواجز وهم لقمة عيش لم يتمكن من اصطيادها.
وفجأة دوى الرصاص في البيارة، رصاص كثيف متواصل، يمشط الأرض والشجر، صرخت الأشجار، تأوهت، ارتجت الأرض وشهق التراب، بدا الثمر بالتساقط السريع، الأغصان تفسخت. وصمت الرصاص مرة واحدة، صمتت البيارة، صمتت الأشجار، توقف التراب عن الشهيق. وجموع والناس على الشوارع تقف مشلولة، مكتسحة، لا تعرف ماذا تفعل، ولا تدري شيئا عما وقع داخل البيارة. النساء على نوافذ البيوت وأسطحها تدعوا باسم الله الواحد أن يحمي الرجال الذين قادتهم لقمة العيش إلى داخل البيارة، تلك النساء اللواتي يعرفن معنى لقمة العيش المستلة من بين أنياب المدافع والدبابات.
صمت شديد،حارق، يعذب النفس، ويقلب التوقعات والتحسب على نار الانتظار، استمر الصمت فارضا كل غموضه وأسراره على كل شيء لفترة طويلة جعلت الناس تفقد صبرها الناتج عن الخوف من مجهول ما يمكن أن يحصل لو تحركوا لدخول البيارة، لكن الصبر نفد، انتهى، وعلى بعض الرجال الدخول للبيارة ليعرفوا ماذا حصل، فربما هناك جريح ينتظر وصولهم كي يسترد جزءا من روحه التي تتلاشى لحظة وراء لحظة.
مجموعة من الرجال الذين كانوا يرصدون البيارة دخلوا وبأيديهم زوادات طعامهم، قذفوا الزوادات بعيدا ودخلوا، دخلوا وهم يتلون آيات من القران الكريم، بحذر شديد أتقنوه كانوا يتحركون، يبحثون بين الأشجار، بين السيقان، وعلى الأغصان المتكسرة والمتدلية لتغطي مساحات واسعة من الأرض، والصمت لا يزال يلقي بقوته وسطوته على كل شيء. حبات البرتقال والليمون تلاشت رائحتها، اندثرت، ليحل محلها رائحة دخان الرصاص المتناثرة أغطيته هنا وهناك، كل هذا الرصاص من أجل وقف لقمة عيش، معركة من جانب واحد، كلف رصاصها لوحده ثمنا أغلى بكثير من لقمة عيش منقوعة بدم البشر الذين تركوا خلفهم أفواها مفتوحة وأحشاء فارغة.
وجاء صوت من أحدهم: هنا، تعالوا هنا، لا اله إلا الله محمدا رسول الله، يا رب سترك، إنا لله وإنا إليه راجعون. في هذه اللحظة بالذات أحست أم إبراهيم بضربة عميقة تصيب قلبها، تمتمت لجاراتها: " الله يستر، قلبي سقط بين قدمي ". وتحلق الرجال جميعا حول الجسد المنخول بفعل الرصاص الكثيف الذي اخترقه. وجه جميل باسم، تفوح منه رائحة عرق زكي، عرق خاص، ممزوج بفرحة أطفال وأم، عرق لقمة عيش طاردته حتى اصطادته داخل بيارة برتقال وليمون، وتحت سيقان وأغصان منحته من خضرتها ونسغها وداعاً خاصاً، ومنحها من دمه وروحه بقاء خاصا.
كان ممدداً على ظهره وبيده اليمنى كيس فيه زوادة، وعيناه تتجهان نحو الزوادة تماما، تحديقته بالزوادة، لون عينيه، شكلهما، يوحي بأنه لا زال حيا. تردد الرجال كثيرا قبل أن يسبلوا عينيه، أحسوا بأعماقهم بان بين هذه العيون وتلك الزوادة علاقة خاصة مميزة، لكنهم في نهاية الأمر سبلوا عينيه وحملوا الجثة برفق حتى لا تتساقط أجزاؤها وتتقطع، فالرصاص الكثيف مزقها تمزيقا كاملا، وأي حركة غير محسوبة قد تؤدي لتساقط أجزاء من الجسد، وهذا ما لا يريد الرجال حدوثه.
ظلت الجثة تنتظر في السهل الواقع على طرف المخيم ساعات، فالاقتحام الذي بدأ صباحا للمخيم لم ينته بعد، والدبابات، المجنزرات، المصفحات، المروحيات، المقاتلات لا تزال تحاصر المخيم من كل الجهات. القذائف، الرصاص، الصواريخ تحاصر كل شيء، وما يحدث الآن فوق هذه الأرض، أرض المخيم الصغيرة، لا يعرف العالم عنها شيئا على الإطلاق، صراخ النساء، رعب الأطفال، الشباب المكدس كأكوام من الأكياس، والعجائز والمسنين الراعفة قلوبهم، كل هذا محتجز الآن في كيلو متر واحد، والرجال في السهل يحتفظون بجثة تنتظر الدخول للمخيم.
وبعد ساعات، ساعات ثقيلة، اختفت المروحيات والمقاتلات، تراجعت الدبابات والمجنزرات والمصفحات، واندفع الناس من بيوتهم، وتقاطرت مجموعات من القرى المجاورة، الجميع يفتش، ينبش بين الدمار، بين الأزقة، وعلى أسطح المنازل، يبحثون في كل مكان، في كل شيء، يحملون جرحاهم ومن كسرت عظامهم، يتدافعون نحو المشفى بسرعة وقوة، وفي غمرة هذه اللحظات المعبأة بالانفعال، دخل المخيم مجموعة من الرجال يحملون بين أيديهم جثة في يدها اليمنى زوادة.
وحين سقطت العيون على الجثة تعالى صراخ: " هذا أبو إبراهيم، أبو إبراهيم استشهد، لا اله إلا الله محمد رسول الله "، ومن فيه إلى فيه سرى الخبر في المخيم سريان الدم بالوريد حتى لاصق والتصق بأذني أم إبراهيم التي وقفت على عتبة البيت وأولادها يلتصقون بها، ويتشبثون بثوبها والدموع المتمحورة بالرعب تطفح في عيونهم.
ادخلوه بيته، بيته الذي غادره صباحاً بعد أن جثا على الأرض ممسداً جباه الأطفال، مقبلا اكفهم الصغيرة، مالئاً رئتيه من أنفاسهم الهادئة الوادعة، وسجوه وسط البيت، تدافع الجيران، أهل المخيم، امتلأت الأزقة وضجت، دعوات ودموع، شهقات حارقة، ذهول ودهشة، حزن، حزن قاتم داكن. وأم إبراهيم تقف مكانها وكأنها ماسورة، مأخوذة. في عينيها جمود صواني حائر، تائه،والأطفال لا زالوا يتشبثون بثوبها، يصرخون، يبكون، تنهمر الدموع من أعينهم كشلالات، وفي وسط هذه الرؤية لتلك العيون الصغيرة، في مركزها تستقر جثة والدهم المنخولة بالرصاص وفي يدها زوادة.
إكرام الشهيد دفنه، ودعوه، جاء صوت من بعيد، من بين الناس المتجمهرة والمحتشدة، الشباب جهزوا القبر في مقبرة الشهداء في ذنابه، الشيخ قادم، ودعوه، تناوب الحشد في الوداع، قبلات حارة، صادقة، تطبع على الجبهة والخدين، أدعية تتعالى رحمة على روحه، نساء ورجال وأطفال، عجائز ومسنون، توحدوا في الدعاء الصاعد للسماء. والأطفال يفتتهم الحزن، يمزقهم الأسى، يطحنهم منظر جسد والدهم المنخول، وأم إبراهيم تمد يديها لتلف الأطفال في قلبها.
وجاء الصوت من جديد، افتحوا الطريق لأطفاله وزوجته، وفتحت الطريق، انقسم الناس لصفين، وتقدمت أم إبراهيم وهي تدفع الأطفال أمامها، جثت قرب رأسه، وجثا الأطفال معها، لمست جبهته بحنان كبير، مد الأطفال أيديهم، تحسسوا الوجه، تحسسوا الجسد، ودوى صراخهم حين سقطوا فوق الجسد يتمرغون بدمائه ورائحة عرقه، طبعوا قبلاتهم على كل جسده، رووا جسده بدموعهم. بكى الرجال، تساقطت الدموع غزيرة، وتلاقت النظرات وتشابكت، عويل الأطفال جاء من كل زاوية، تفاقم الحزن واشتد، ولكن الرجال لم يكن أمامهم إلا خلع الأطفال عن الجسد وهم يربتون على أكتافهم. وجاء الصوت من جديد، ودعيه يا أم إبراهيم، رحمة الله عليه، ودعيه فإكرام الشهيد دفنه.
رفعت رأسها نظرت لأطفالها الذين كانوا يتفلتون من بين سواعد الرجال، نظرت للجثة، أحنت رأسها فسقطت الدموع مرة واحدة كمطر مفاجئ، قبلته، ضمت رأسه بين يديها، رفعته نحو صدرها وشهقت.
أنهضها الرجال، اقتربوا من الجثة، حاولوا نزع الزوادة من يده، لكن يده كانت تتمسك بها وكأنها حية، حاولوا مرارا، وحين عجزوا عن فتح يده فكروا بتمزيق الكيس. في هذه اللحظة بالذات ارتفع صوت أم إبراهيم: لا، لا تنزعوا الزوادة من يده، اتركوها تذهب معه للقبر، لقد مات دون أن يعرف ماذا أعددت له، لكنه الآن حين يوضع في القبر ليصحو على الملكين، سيفتح الزوادة لتكون شاهدة على شهادته، وعندها سيعرف ماذا أعددت له.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم