هذه النَّفسُ! ضَعيفَةُ العريكَةِ، صعبَةُ المرَاسِ، تستطيبُ كلَّ طربٍ ماجنٍ، مائجٍ، وتخنعُ أمام كلِّ ضربات الرذيلة. آه يا نفسُ ما أَضْعَفَكِ!
في هُدوءٍ كهنوتيٍّ، ثنى الراهبُ قُصاصته، وغاصَ بعيداً في ظلمة نفسهِ الخانعةِ، مستكيناً إلى جَسَامَة الصور المُتسللة من ثُقوبِ الذاكرة. طالعتهُ أحداثُ الساعة المنصرمة، واستسلام الجسدِ صاغراً، لمعاولِ الشّهوة المُقدسة. لم يكن يعلمُ أنَّ النيرانَ اللاهبةَ تبدأُ بنظرةٍ مسرُوقَةٍ وتنتهي بِذَبْحَةٍ خاطفةٍ تحزُّ العنقَ من الوريدِ إلى الوريدِ.
انتفضَ واقفاً، حمل كتبه الصفراء المُلقاة على الأرض، قاصداً الممر اللولبي المُؤدي إلى أقبيّة الدير، ثم تلاشى وراء ضَبَابِ الصباح الحليبي، وهواجس الخوف تسطو على ذهنه الشريد، وتنغص عليه صفاء الخاطر، لكأنَّها ديدان قبرٍ ناغلة تنخرُ جسدهُ الموشومَ بحروف الخطيئة. وحوشٌ تحاصرهُ، تتقدمُ، تتقدمُ، عُيونها حمراء، ألسنتها كبيرةٌ رطبةٌ متدليّةٌ. تسحبها قليلاً إلى الداخل، تصبح مثل شياطين وسخة.
تضحكُ الشياطينُ. تتقدمُ، تتقدمُ. وحده لا أحد حوله. الظلامُ، الظلامُ يتكاثفُ في قلبه الوجف. إنَّها عيونُ الشياطين. مدَّ يدهُ، تلحس الشياطين اليد، تكركرها، شعر بلذةٍ وقرفٍ، سحبَ يدهُ، رفعها، اللُّعاب العطن يتساقط، وبعده قطرات من الدم، دمٌ ثقيلٌ، لزجٌ، الدم يتدفق بسرعة سرطانيّة. لا أحد حوله. شظاياَ الدير تنهالُ عليه كالرامح، تُدْمِيه، تُهشم عظامه، وتسقطه طريحاً على الأرض. رفع رأسه بصعوبة بالغة، فاحتقنَ أنفه برائحة ثقيلة موجعة، رأى الشياطين على إفريز عال تنظر إليه وتعوي كما الذئاب في الفيافي.
دَاخِلَ دواماتِ الانصعاقِ، مال على جانبه الأيمن، ثم سحب مديّة حادةَ النصلِ، كانت مخبوءة، بشكل جيدٍ، تحت ذراعه اليسرى، مرَّرَ المُدية فوق لسانه، ثم لحس أطرافها بحرارةٍ تهفو إلى الموت، انفجر الدم، وامتزج باللعاب اللزج، أخذ الراهب يَتَلمَّظُ الدم ويبتلعهُ، وهو يرقب تراقص الظلال الهاربة على جدران الدير، بعينين زائغتين، اندفن سوادهما في عمق بياض مخيف، يوقدُ الهلع من مقابره المنسية. الموت جسرُ الخلاص. الموت بعثٌجديدٌ. بصوت متهدِجٍ، انفلتت هذه الكلمات من فم الراهب، مُضَمَّخَةً بروائح الانكسار، ومضرجة بالأسى.
وفجأةً تعرى الضباب عن أسماله البيضاء، مُرخياً ظلالاً نورانيّةً وارفةً، وانكسر حاجز السواد، تحت هيجان الضوءِ، وانفجارِ زُرقة السماء. تسلل شعاعٌ أثيري، من فجوات السقف المرصَّع بأيقونات لازورديّة، ممتداً على خط عموديٍّ متصلٍ، ولمّا وصلَ عند حدود الحائط الرخامي، استقام كاشفاً عن ملامح شيخٍ في أرذل العمر، يُمسك بعودِ زيتونٍ في يده اليمنى، وتفيضُ من جبهته علائمُ الورعِ والتقوى، أجالَ بصره في الفضاءات المُعتمة، فاستحالت العتمة ضوءا يكشفُ الزوايا، ويَفضحُ النوايا، ارتجفَ الراهب، وارتعدت فرائصه، كان يحس بأنَّ شيئاً فظيعاً على وشك الوقوع. بِئْسَ الظن السوء. اقترب الشيخُ من الراهب، ونظر إليه نظرة مَشُوبَةً بالشفقة، فألفاه حسيرَ الحال كسيفهُ، لم تستبق له أهوال الوهم ونوائب الشرِّ بقيّة. استطالَ النظر ردحاً طويلاً من الزمن، كانَ كفيلاَ بأن يُعيد للراهب بعض هدوئه، حينها أومأ الشيخُ بصوت خاشعٍ، هادئ:
- يَا بُني لماذا ترغب في الموت، تُريدُ الانتحار، وقتل نفسٍ حرّم الله قتلها إلا بالحق، إنَّ هذه الحياة تستحق أن تُعَاشَ؟! إنَّها استحقاقٌ؟
تنهد الراهب، وندّت عنهُ صرخةٌ خافتة، ثم غمغم ورائحة الدماء تنبعثُ من فمهمندّاةًبوجع الانهزام:
- كفاني ما ارتكبته من الذنوب، أريدُ أن أرتاح من حياةٍ كلُّ ما فيها يدعو إلى الارتياب، الموت جسر الخلاص.
- واهمٌ من اعتقدَ أنَّ الموت جسر الخلاص. عن أي خلاص تتحدث، إن الموت في حالتك، سيكون وبالاً، انس أمر الذنوب المرتكبة، فكر في ما سيأتي من الزمن، من منا لم يسقط في الرذيلة يوماً، أن تحيا فهذا أمرٌ جليلٌ، السؤال الحقيقي ليس متى أو كيف نموت، بل كيف نحيا هذه الحياة.
ارتَجفَ الراهب، وانسابت من مُقلتيه الدموع السواجم، تَقدم الشيخُ، ونزعَ ورقة زيتونٍ من العود الذي في يديه، ثمَّ وضعها على عينيّ الراهب، وطفق يقرأ آيات من سورة الرحمن، وما هي إلا لحظاتٌ قلائل حتى انسحب بياضُ العينين وعادَ السواد إلى مكانه، اهتزّ الراهبُ، وصوت من أعماقه الجوّانية يصرخ إنَّ الله يحبُّك. حاول فتح عينيّه متحدياً أمواج الضوء المنسكبة، عبثاً حاول، ولما فتحهما في عنادٍ متوثب، وجد أمامه مديته الحادة، وقصاصة منتزعة من كتاب مقدس، مكتوبٌ عليها: كن جديراً برائحة الخبز!