تجمهروا على بعد يسير من بوابة السوق، يتابعون ألسنة اللهيب، تلتهم أكداس التبن وجنبات الشاحنة. بينما فر السائق عباس ومساعده بجلديهما مبتعدين، وسط دخان كثيف وشرر متطاير... وبين سائل ومجيب، تبين عباس أن مصدر الشرارة الأولى للحريق لم يكن سوى نزوة مراهقين يتلذذون برؤية النار في عاشوراء...
جابت دماغه المشدوه حزمة العادات والتقاليد المرتبطة بعاشوراء، مرت بسرعة خاطفة مثل وصلات إشهار: أدخنة المفرقعات وأشكالها، ألوان التعاريج وزخارفها، أهازيج البنات كل ليلة من ليالي عاشوراء، عشرات الأصناف من اللعب البلاستيكية المجلوبة للصغار المصرين على التجول والتسول البريء وهم يسألون الكبار حق "بابا عيشور" ، مياه الصباح المبروكة وزخاتها ، أصناف الفواكه الجافة ، طقوس البنات في تقمص أدوار النساء في الولائم، تأكيد النساء على جلب العطور والبخور، إصرارهن على إقامة " الشعالة" قبيل غروب اليوم العاشر من محرم، احتفاظهن بواحدة من قديد عيد الأضحى وشواؤها في نار الشعالة ثم إطعامها المتحلقين حول النار، خروجهن إلى المقابر صبيحة اليوم الموالي للترحم على موتاهم وتوزيع ما تيسر من خبز وتين مجفف وتمور...
وإذ شاعت همهمات المتحلقين تعلن طيشا بغيضا، وترثي حال عباس البئيس، كان آخرون يتجاذبون مشروعية الاحتفال أصلا... فقد اختلف المسلمون بين سنة وشيعة في التعاطي مع هذه المناسبة، فبينما يتخذها الشيعة أيام حزن وحداد على الحسن والحسين، شهيدي كربلاء، اتجه السنة إلى إظهار مظاهر البهجة وإدخال الفرحة على قلوب الأطفال بشراء اللعب والهدايا، وإكمال احتفالاتهم بإطعام الطعام في ساحات المقابر ترحما على موتاهم...
أكلت النار شاحنة عباس ، ولم يتبق منها غير هيكل حديدي فاحم، فاقتاده رجال الشرطة خائر القوى، يجرجر قدميه بصعوبة بالغة. أحس المسكين أنه كان حطب النار في عاشوراء، نار أتت على أخضره ويابسه، فالشاحنة لاتزال مرهونة الملكية، ابتاعها منذ شهور بالتقسيط المريح الذي لم يعد مريحا، بعد أن عدِم مصدر تسديد الأقساط، وبات عرضة للمتابعة والمساءلة...
حاول الضابط أن يهدئ من روع عباس، فأخذ يعدد أمامه ملفات أحداث مشابهة: قنبلة تتسبب في إجهاض حامل في شهرها السابع، طفل يفقأ عين جاره بمسدس الحبيبات البلاستيكية الصلبة، بنت تحرق أثاث منزل العائلة وهي تحاول تقليد "الشعالة" ، رجل يعتدي على زوجته وقد باغتها تحرق خلطة سحرية تبين منها جلد فأرة الخيل...
عاد عباس إلى بيته راجلا، ثقيل الخطو يحمل جبال هموم، وقف مندهشا أمام الباب، يتابع حركات النساء المتحلقات حول الشعالة على وقع التعاريج والأهازيج، ويتابع شغب أطفال حول نار عمت أرجاء الكون والجسد...