يجلس ثلاثتهم على مقاعد إسمنتية، مغروسة في قارعة طريق عام، كأنها أوتاد يتشبث بها الوطن المتداعي قهراً، تحت أنامل المتحكمين في البلاد والعباد، لا ينبس أحدُهم ببنت شفة، كما يبدو للعيان، لكنهم غرقى في متاهات جارفة من التفكير ينتصرون في مناظرات جدلية، ويهزمون في أخرى، يخوضون حروبًا ضارية تخيلتها عقولهم، فيحلقون مع روبن هود ليعيدوا الحق المسلوب إلى أهله، يثورون مع جيفارا إذا ثار يحارب الظلم والعبودية، يقفون خلف الفاروق، إذ وقف بالعدل والمساواة بين الخلق على اختلاف مشاربهم، ثم يفيقون من نشوة انتصاراتهم الموهومة على أم كلثوم، تشدو بعذب صوتها "أعطني حريتي أطلق يديَّ إنني أعطيت ما استبقيت شيئا"، ليغرقوا مرة أخرى في أنكاد أنفسهم وهمومها، تخيم عليهم مثل خريف أسود، يقتل الجمال الذي يولد ويزحف بالموت على قمم الأشجار الشامخات، يعريها من الأمل المنثور على أغصانها فتمسي وحيدة لا عزاء لها إلا الهيام بقادم الأيام.
الأول منهم مهندس حاسوب، تخرج بامتياز مع مرتبة الشرف، وثانيهم تخرج من كلية العلوم، أما الثالث فعاشق النحو والصرف تخرج من كلية الآداب، اجتمعوا في ظل منارة الكتب والقراطيس، شيّدوا تحت سمائها أمنيات المستقبل الزاهر وكتبوا على أنفسهم العهد بالنجاح والتفوق، فلم يدخروا جهدًا في الارتقاء بذواتهم، ولم يترددوا في طرق الأبواب طلبا للعلم والسعي في طرقات المعرفة بلا ملل ولا كلل، يسألون تارة ويناقشون أخرى، يبرهنون مرة ويستنتجون ثانية، خطواتهم ثابتة، قوية، واثقة، في سبيل الوصول إلى أهدافهم النبيلة وتحقيق غاياتهم الرائدة.
لكنها أيام ما أعجل انقضاءها! يُسلمَهم القدر بعدها لواقع مأساوي مظلم لم يتوقعوه حتى في أسوأ كوابيس الليالي المرعبة، واقع يلقي بهم في الشوارع والطرقات، يعانون البطالة والضياع، فما من فرصة يقتنصونها ولا مبادرة يستثمرونها، لا عزاء لهم إلا البكاء على أطلال الماضي المندثر، وتبذير الطاقات في وقت ضائع، يوغلون في الشكوى والتذمر، ويلقون بالتهم على النفس مرة، وعلى الشرق مرة، وعلى الغرب أخرى في عراك بائس لا خير فيه ولا فائدة، يتيهون في أعماق الوحدة والعزلة، يبحثون عن مخرج ينتهي بقبس من نور المستقبل فلا شيء منه ولا أمل إليه.
في زمن النكران لا تتسع لهم الأروقة، ولا تفتح لهم الميادين، يصدون بالتأجيل والتحقير والتقزيم فلا يقدرون قدرهم، ولا يمنحون حقهم، توصد الأبواب أمام مبادراتهم، وتفترس الأعذار طموحهم، فتفتر هممهم، وتذبل عزائمهم، ويتسرب العلم من عقولهم، وتخبو حماسة أفئدتهم، ويبدأ انفصام حقيقي بينهم وبين الانتماء إلى الوطن، وتظهر الانحرافات الفكرية والخُلقية في سلوكهم، فيرتفع شأن الموت في نفوسهم الشابة، وتُحتَقر الحياة في عيونهم الفتية، ويمسون وقود فتنة قد تحرقهم وتحرق الوطن أول ما تحرق.