أنفاسهناك جثة..
مدفونة في مكان معلوم يتعين إخراجها الآن, وإعادة التحقيق في الجريمة.
جثة رجل
وجدت في النهر قبل بضع سنين, ودفنت على عجل دون أن يفضي التحقيق المزعوم إلى شئ.
الرجل
كان قيد حياته مقهورا, ممن لايحفل أحد بمصائرهم أحياء وأمواتا.. أغلق الملف بمجرد فتحه, ولم يشر أي أصبع إلى المرأة.
المرأة الآن
في قفص الإتهام, معتقلة على ذمة التحقيق, والتحقيق طال دون مبرر أو سند قانوني.
المرأة
تعرف رجالا كثيرين
والرجل
كان جارا لها ,و اشتكى للسلطات مرارا من جيرتها الخادشة لتصوره للكون.

أنفاسوعاد صاحبنا بذاكرته إلى الخلف ، إلى سنوات طوال من عمره المديد ، إلى شهر رمضان ما قبل ثلاث وعشرين سنة أو يزيد عن ذلك بقليل . ولقد جاهد كثيرا من أجل وضع  تلك الفترة في طيّ النسيان ، أو إبعاده عن ذاكرته إبعادا كاملا ، إلا أن ذلك لم يكن في المستطاع . فما كل ما يهواه المرء بنائله . وما كان يريد أن يعود إلى الماضي ، لأن تلك الفترة بالذات كانت تطوي ذكريات مؤلمة جدا . واستعادة هذه الذكريات كانت تعني بالنسبة له فتح جرح قديم وقد أندمل إلى درجة كبيرة . فلا فائدة البتّة في فتح مثل هذا الجرح ، وقد مرّت عليه هذه السنوات ، ولكنه فعل ذلك ، نعم ، فعل ذلك لغرض في نفسه أخفاه عن غيره إخفاء مقصودا
عندما تخرج صاحبنا من جامعة أجنبية حاصلا على شهادة الدكتوراه كان المفروض أن يرجع إلى بلده لكي لا يبقى تحت طائل متطلبات كثيرة مختلفة . لقد عاش فترة طويلة هناك ، فذكريات الطفولة الحلوة ببراءتها الساطعة تكمن في كل زاوية من زوايا قريته ومدرسته الابتدائية . ولكن قريته هدمت ، وأجبر أهله على الهجرة إلى مكان آخر بعيد عن تلك البقعة ، فهو لا يستطيع حتى أن يتخيله . عائلته وأصدقاؤه وزملاء الطفولة وأقاربه كلهم هناك ، وقد عاش معهم هذه السنوات الطويلة ، وشاركهم في أفراحهم وأتراحهم . وما طعم الحياة بدون كل هؤلاء ؟ أليست قيمة الحياة كامنة في هذه العلاقات الاجتماعية ؟ ولكن الأهم من ذلك أن بلده احتضنه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، يشرب من مائه الريان ، ويأكل من زاده الوفير . يستفيد من امكاناته كغيره من الناس ، بل أكثر من ذلك بكثير . أليست العودة تنفيذا لايفاء العهد في خدمة بلده وأهله طوال العمر؟ أليس ذلك بقليل بحق الوطن ؟ بلى ، فهذا ولاشك قليل من كثير ، وغيض من فيض . إذن فما الذي يحمله على التراجع من ذلك ؟

أنفاسوهو يمسك بمعصمي بقوة ويسحبني وراءه مثل لاشيء, كان الجيران ينظرون إلي في إشفاق. كنت أنظر إليهم من وراء الدموع وأنا أطير في الهواء. هو يلعن دين أمي وربها وربي أيضا.
- حشومة عليك أصاحبي.
- وا سمح ليه غير هاذ المرة.
كانت هذه العبارات تعترض طريقنا وأنا مجرور إلى وجبة تعذيب دسمة.
- ما سوق حتى واحد. كل واحد يديها في راسو.
هكذا كان يرد ولا أحد يجرؤ أن يخلصني من قبضته الجبارة؛ أنا الفرخ الذي لا يزن أكثر مما تزن ريشة.
لا أذكر أنني أتيت شيئا يستحق كل غضبه ذاك. كان جبارا لا يتسامح بسهولة. كان يربيني بطريقته الخاصة "جدا". "العصا خارجة من الجنة اللي كلاها يتهنى", كان يقول دائما وهو يتطلع إلي في نشوة المنتصر عندما يكون قد انتهى من "تربيتي" وأنا أغالب الألم والقهر. لكنني لم أكن أنتهي من الشغب الذي كان يثير غضبه علي.

أنفاس"قبورنا معتمة على الرابية
والليل يتساقط في الوادي
"
للراحل محمد الماغوط
 
أفقت مثقل الرأس...
كان نومي متقطعا,لم أقو على احتمال حرارة امتصت كل شئ ليعسر تنفسي وأغرق في عرق  بلل ملابسي الداخلية...
غادرت ضيق الغرفة عبر ممر ضيق هو الأخر.اخترت المكان القصي من الشرفة التي لم تتسع لأكثر من ثلاث طاولات متقاربة و ست كراسي...كانت الشرفة الوحيدة بهذا النزل اليتيم بهذه التي لاهي بالمدينة ولا هي بالقرية...بيوت تكاد تشكل كتلة طينية واحدة ذات شبه مريع بتلك التي ,في صغرنا,شكلناها من وحل البرك...مع ما شكلنا من أكواب وأباريق وحتى بعض النوق النائخة دوما : مثلث عليه رأس صغير وذيل على الوجه المقابل...
جلست أرقب تلك الربوة التي نسجوا حولها ما نسجوا...لكن رؤوس النخل اللامعة مع كل نسيم عليل,كانت كما فرشات تنمق إطار لوحة زاهية,تشدني...

أنفاسأخيرا استطعت أن أنفخ بطنها. لكني لم أنجح في هذه المهمة إلا بعدما صارت رجولتي في الميزان. هذا ما كنت أقرأه باستمرار في عيون جاراتنا (رحمة) و(زهرة) وأخريات. كـنّ يجهلن بأنني خريج معهد الترجمة، وأنني قادر على نقل وشوشاتهن إلى سبع لغات على الأقل. يكفي أن تصدر عنهن غمزة أو إشارة لأفهم منها أنهن يرمينني بالعُـنّة، ومعناها وِفق واحدة من تلك اللغات التي أتقنها أنني "مْـثقف"!
حينما يحاصرنني بنظراتهن ينتابني الشك، فلا أشعر إلا وأنا أتحسس حِجري لأطمئن على سُلالتي، ثم أتساءل: مُـثقفٌ "مْـثقف"؟!  يا ذِي الفضيحة! وماذا سيكون مصير هذا الوطن إذا كان مثقفوه مثقفين وأميـوه هم الفحول؟
لكن بقدر ما كانت حركاتهن تضايقني، كنت أنتشي بقدرتي على اقـتحام عوالمهن النسائية.. أحيانا، أترجم همسهن حتى قبل أن أسمعه، وهذا طبيعي، فلمثل هذه الوضعيات يتخصص المرء في الترجمة الفورية.
لكني لن أعمل بعد اليوم ترجمانا، فزوجتي حامل. كلانا في الحقيقة حامل: هي تحمل جنينا، وأنا أحمل هَـمّاً أهدهده بين شوارع المدينة طوال النهار، وفي المساء ينام معي في سرير واحد.. لو كان هـمَّـ (ـةً) على الأقل! لو كان أنثى لهان الأمر! 
زوجتي حامل وعليّ أن أكون في مستوى الحدث.. عليّ أن أبحث لها عما تشتهيه. واسمحوا لي، إن لم أخبركم بما يريده وحـمُها، فلذلك سببان: أحدهما أنه يُستحَبّ وفق عادات محلية، ألا يُشهَّـر بالمطلوب قبل العثور عليه، والثاني، وهو الأهم، أن منطق هذه القصة يقتضي أن تصبروا معي قليلا، وما صبركم إلا بالله. لو كان الأمر بيدي لآتيتكم من "قاع الخنشة"، ولكن الله غالب.

أنفاسبعد شتاء قارس البرد سقطت فيه ثلوج كثيفة غطت الجبال والوديان والسهول والهضاب بلباس أبيض ناصع البياض قدم صباح نهار يوم ربيعي جميل . أشرفت الشمس في هذا اليوم على غابة سبل من فوق الجبال الشامخة العالية ، وأرسلت أشعتها الذهبية البراقة لتزيل البرد وبقايا الثلوج ، وتنشر الدفء في أحشاء كل حي يعيش في هذه الغابة الجميلة من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى . ونهضت هذه المخلوقات لتقابل هذا النهار الجميل ، وتستمتع بكل بهجة وسرور بنعم الله الكثيرة ما شاء الله لها أن تستمتع بذلك .
خرجت الصديقات الأربع من بيوتهن منذ الصباح الباكر كعادتهن التي مارسنها منذ عهد بعيد . وما خرجن إذ خرجن إلا ليجمعن ثمارا وفيرة في هذه الغابة التي سكنّاها منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويلتهين ما يلتهين بالتجوال واللعب ، ويمرحن ما يمرحن بالرقص والغناء ، ويثرثرن ما يثرثرن وهن يعملن معا ما شاء الله لهن بذلك . وما أن مشين مسافة قصيرة إلا ولفت أنظارهن شيء جديد حصل على مقربة من بيوتهن . لقد استجدّ مرتفع غريب غير متناسق الأطراف ، طال بما يسد أنظارهن من رؤية أطراف الغابة المتناثرة . فوقفن مندهشات مستغربات من أول وهلة ثم خائفات وجلات بعد ذلك ، فمدققات متسائلات بعضهن البعض بنظراتهن الغريبة المومئة : ما هذا الشيء الغريب الذي نراه الساعة والذي لا عهد لنا به ؟ وفي تلك اللحظة كان كل شيء ساكنا خامدا هامدا إلا من نسيم عليل يداعب أوراق الأشجار الغضة الخضرة ولا يكاد يحركها قيد أنملة .

أنفاسإنّ السّواد المُطْبِقْ على ساعاتنا يُطمئننا بضرورة انعكاسٍ واضحٍ للقمرْ ....
من يملك تسمية الإتجاهات ، يملك حتماً توجيه البوصلة .. هكذا تبدو الحقيقة أكثر انسجاما مع ذاتها . فمن منّا يقول أنّ تدفق الدم من وإلى القلب يأخذ وصف الجريمة التي تزجّ بمرتكبها الى حيز المقصلة ؟ وهل أن دمنا الموزّع على كافة أنحاء جسدنا المنفيّ _ بالكيفيّة التي يوزّع فيها الطحين على اللاجئين _هو سلاحنا السّري والوحيد الواجب مصادرته احترازا من تدوين وصيتنا الاخيرة ...؟؟؟
إذاً ... فيا أيّها الدم المشبوه فينا ... أخرج منّا فإنك رجيم...
أخرج بكل الوسائل ، مع كل السوائل ،
مع اللعاب الفائض عن الحاجة ،
مع رشح المسامات ،
مع ذرف العيون ،

أنفاسيا الصابرونَ على الـهمِّ ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتـي ، و ذَاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ ..
من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا .. باردًا يومًا .. لكن لهيبًا ما يلفحُ وَجهـي ، و شتاتٌ مُبعثَرٌ مِني تعبثُ بِهِ رياحٌ شتى ، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ و بيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتـى أعودَ إليها ، و فـي عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر .. لَـم تَقُل شيئًا لكن تـمتمات تصدرُ مُبهمةً عن شَفَتَيْها ، خـمنت أنـها أدعيةٌ بالـحفظِ و العودةِ .. أخي الصغير واقـفٌ حذوها بقميصهِ الـمتهدلِ و إصبعه تعبثُ بِأنفِهِ ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا ، فهو لا يَـعلم بعدُ معنـى الرحيلِ .. مِنَ النافذةِ الـخشبية الزرقاء تُطل أختي و هـي تُلقي بيـن الـحين و الآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة ، هنالك أبـي على فراشٍ سقيمًا ، مرضٌ داهـمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ .. تـحسَّنت حالُــه قبلَ يومين فأخبرتُه بـموعدِ الرحيل ، لَـم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ .. و مِن عَينَيْهِ اللتين تـهدَّلت عليهما الأجفان صَرَخَ استجداءٌ مزلزلٌُ بعَدَمِ الرحيلِ .. و لكن أنّى لـي ذلكَ و لَـم أبلُغ فرصة َ السـفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الـحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلـى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًـا .. و يـتَعَثَّرُ تدفق الـدم عَبرَ الشرايين فأدركُ أن اِنـخِسافَ الأرضِ بـمَن عليها ليس دائمًـا أشدَّ الـمَصائِبِ ..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة