أنفاسمن عاداتي أنني أفضّل السير حاسر الرأس، كاشفاً عن صدري حين تعصف الرياح أو يهطل المطر أو ينهمر الثلج متحدياً صفعة الريح أو لسع الثلج والمطر.‏
ولعلكم خبرتم رياح الشمال التي تحمل أجنحتها الغيوم. فهي تهب من ناحية البحيرة ناشرة نوراً بلون الرماد أميل إلى الزرقة، وكانت ندف الثلج تلوّن الطبيعة بالبياض متراقصة في الجو كأجنحة حمام البحر الأبيض المتوسط حين يواجه العاصفة وصراخها يملأ السماء.‏
ويكمل معزوفة البحر الهادر. والشجرة المستحيية ترسل ضفائرها كشعر لم يرجّل، يمتزج في أوراقها الخضرة واللون الذهبي كأنها جدائل شعر عذراء تتلاعب بها الريح وتبعث فيها حفيفاً شجياً. وكنت شغوفاً بالدنو منها والوقوف تحت أغصانها المسترسلة وسماع عزفها للريح.‏
يتراكم الثلج ويذوب على أذني وأنفي فأتخيل أنه هدية البحيرة لزائريها ، تقدمه من زبد أمواجها المتطايرة بصوت فراخ نوارس البحر التي لم تبرح بعد البيضة، ولم تكتس الزغب فوق العنق.‏
لا أدري لماذا يسمون هذه الشجرة المستحيية، لعلها سميت كذلك لأنها تخجل أن تعترض على صفعات الرياح فتتمايل كريشة طائر عجيب على ضفاف البحيرة راضية بدورها الراقص، وأنا أقف تحتها أتأمل بدء هيجان العاصفة، وكأن الطبيعة والبحيرة والسماء والشجر تبيّت لي أمراً ما، وتستهدفني.‏

أنفاسسئم أحد الأنهار مجراه في الحقول والقرى، ورغب في مغادرته والوصول إلى مدينة ليست بالبعيدة والتسكع في شوارع سمع الكثير عن مبانيها الشاهقة المتفوقة على الجبال، ولكنه كان كسولاً، فبقيت رغبته مجرد حلم في الليل وأمنية في النهار، وتنبّه يوماً لأطفال يلعبون على ضفته ضاحكين مطلقين الصيحات المرحة، وراقبهم بفضول، وتاق إلى مشاركتهم في اللعب، ووجد نفسه يتخلى عن كسله ويهجر مجراه مندفعاً نحو الأطفال محاولاً اللعب معهم، فبوغت بالأطفال يصرخون فزعين، ولاذ بعضهم بالهرب مبتعداً عنه بأقصى سرعة، وطفا بعضهم الآخر على سطحه جثثاً هامدة خنقها ماؤه ولم تعد قادرة على اللعب بمرح، فاستغرب النهر ما حدث، وفقد رغبته في اللعب، وانسحب من الضفة عائداً إلى مجراه مقسماً ألا يغادره.‏
وهرع رجال إلى النهر، وانتشلوا من مياهه الأطفال الغرقى مدّعين أنه قاتل، فاكتأب النهر، وأقسم أنه بريء، ولكن الرجال لم يسمعوا سوى خرير يقوى ويضعف ويعلو وينخفض.‏
أما الأطفال الناجون، فقد عادوا إلى قريتهم القريبة من شاطئ البحر فرحين بهربهم من هلاك محتوم، وكانوا أطفالاً صفر الوجوه ذوي أجسام هزيلة مغطاة بثياب مهترئة، لا يعرفون الإحساس بالشبع، ولا يذهبون إلى المدرسة كل صباح، وقد سمعوا صوتاً مجهول المصدر يناديهم ويحضهم على الانتحار، ولم يسمع الكبار غير صوت مذيع يصف بحماسة وقائع مباراة في كرة القدم.‏

أنفاسالسرير موضب بعناية فائقة.
الغرفة يسكنها بياض كالصبح.حتى الإشارات الضوئية المنبعثة من تلك الآلة الهامدة انسجمت مع بياض الغرفة رقم...
أنبوب مطاطي وشم حافة السرير الموضب بعناية,انزلق كي يستقر داخل آنية زجاجية تحت السرير
القطرات متخثرة,لونها يكاد يصير بنيا...
القطرات منتظمة التباعد...
الدمعة التي حنت على خده ـ ولأنه كان يريد أن يخترق الزجاج العازل ـ انسابت ببطء هي الأخرى لتبلل زجاج الغرفة...
تخثر الدم وبطء انسيابه على طول الأنبوب المطاطي يعطي انطباعا بتثاقل الزمن كي لا يعلن الفاجـ....
توقفت القطرات....
همد الكائن الممدد على السرير الموضب بعناية...
انبعث صفير متواصل من الآلة الجامدة,توقفت الإشارات الضوئية...

أنفاسكان شادي الحلو واقفاً في الشارع المظلم الخاوي متردداً بين الذهاب إلى بيت عشيقته أو بيت أمه أو بيته، فطعنه فجأة خنجر طعنة واحدة عنيفة في الجانب الأيسر من صدره، فصرخ متوجعاً، وتمكن من رؤية وجه من طعنه، وكان وجهاً لم يره من قبل، وارتطم شادي بالأرض مرتمياً على ظهره، وتبللت أصابع يديه بدمائه المتدفقة بغزارة من صدره، فحاول الاستغاثة، ولكن استغاثته لم تكن غير أنين متوجع خافت، واقترب منه قط صغير، أبيض اللون، وشرع في لعق الدماء النازفة على الرصيف، فلم يحاول شادي إبعاده، وأغمض عينيه، ودخل بيت عشيقته التي استقبلته بوجه مكفهر متسائلة : لماذا تأخرت؟ أين كنت؟ هل كنت تقامر كعادتك أم كنت عند عشيقة جديدة؟‏
فقال لها إنه تعبان، ومحتاج إلى الراحة والنوم، وأدهشه أنها لم تنتبه إلى الدماء التي تلطخ صدره، واستلقى على السرير وهو يشعر أن تعبه يزداد، فأغمض عينيه، ولم يفتحهما إلا عندما سمع ضوضاء أطفال، ورأى أربعة أطفال غرباء يتضاحكون بمرح، فسأل عشيقته عنهم، فأجابت أنهم أولاده لو بقي حياً ولم يمت، فصاح بها رجل عجوز ملتح قائلاً لها بصوت مبحوح متهدج : اخجلي من أبناء الزنا يا فاسقة، ولا تنسي أن رجال عائلتك يقطعون رأس الحية ويقتلون القتيل ويمشون في جنازته.‏
وقال العجوز لشادي بصوت غاضب مؤنب : من سمح لك بالدخول إلى هذا البيت؟ كل بيت له حرمته، ولا يدخله إلا الرجل المتزوج على سنة الله ورسوله.‏

أنفاسجلس مطأطأ الرأس ، ذراعاه ممتدتان ، وأصابعه متشابكة حول ركبيته ، وجبهته ملتصقة من حين إلى حين بفخذيه . جسمه يرتعش ، كان قد دبت فيه حرارة غريبة  ، أذناه كانتا تلتقطان الكلمات بانتباه  وتركيز .
كان الحاج عبد الرحمن متوسط الثقافة ، كثيرا ما كان يشكو سوء فهم بعض العبارات وهو ينصت إلى خطبة من خطب الجمعة ، لكنه الآن ولأول مرة في حياته بدأ يحس أن للكلمات معنى وأن فيها حرارة ، لم يكن فقط يفهم الكلمات بقدر ما كان يحس بها ، يعيشها بكل كيانه ، بكل نبضه  ، كانت تشع نورا ، تساءل مع نفسه ، أي أب يمكن أن أكون ؟ بل أي بشر ؟ كانت كلمات الإمام وهو يخطب في الجمعة ، تصل إلى شغاف قلبه ، تغزوها بلا أدنى مقاومة ، فتحدث نزيفا مؤلما ، رباه ، ما الذي أصنع ؟ كيف حدث كل هذا ؟ وأنا المعروف بحلمه ، المشهود له بالرزانة وسعة الصدر ، كيف يصدر هذا التصرف الأخرق من هذا الرجل العاقل الذي كان الناس يضربون به المثل في الحلم  ؟ هذا الرجل الذي هو أنا سابقا والذي لا أعرفه حاليا . هذه التساؤلات كانت تذهب بعقله بعيدا يتأمل فعلته ، لكنه أحيانا يضطر إلى العودة إلى الواقع  . فهو لا يريد أن يفوته الاستماع ، كان موضوع الخطبة ، حقوق الأطفال في الشريعة الإسلامية ، كثيرة هي الأحاديث النبوية التي أوردها الإمام وكثيرة هي العبارات . ومع هذا السهو الذي يأخذه قسرا إلى تلك الغرفة المظلمة التي يقبع فيها ابنه الصغير . أيستحق كل هذا العذاب عقابا له على غلطة بسيطة تافهة ؟ فربما قد يكون مخطئا ، وربما قد يكون مظلوما ؟ وربما ... وربما...

أنفاسينتظرني على قارعة الطريق، كعادته.  في يسراه يحمل سيجارته، كعادته. يتمسك بطرفها إلى أن تحرقه، فيرمي بها إلى الشارع،  متحسرا عليها.. أطراف أصابعه اصطبغت بلون أصفر.. يطول انتظاره لي. يشعر برغبة في إشعال سيجارة اخرى. يخرج علبته من جيبه، يعد سجائره، ثم يعيدها إلى مكانها كاملة العدد..
حيث يقف، لم تسمح ميزانية البلدية بزرع شجرة يتظلل بها. تحيط به مساحة فارغة، يستوطنها عمي عبد الرحمان الزاهد المتسول لقمة فقط، وأطفال هاربون من حصص الدراسة، يلاعبون كرة هزيلة. وحين تتوقف السيارات أمام إشارة الضوء الأحمر، يهرولون إليها ليعرضوا علب المناديل الورقية..
حين تمر بقربه فتاة تتمايل على كعبها العالي، يلاحقها بنظراته.. ثم متوجسا من غيرتي إذا  ما لمحته، وهاربا من سجائره ينضم للأطفال مهرولا خلف الكرة الهزيلة..
- كوووون، يصرخ منفعلا.. ثم يلتقط انفاسه ويعود إلى مكان الإنتظار.. يتصفح هندامه، ينفض عنه بعض الغبار، يلتقط منديلا مستعملا من الأرض ويمسح به طرف حذائه.. ينظر إلى آخر الشارع ثم الى الجهة الأخرى، وإذ لا يراني قادمة، يخطو بضع خطوات عشوائيا في المكان.. يتلمس علبة سجائره مرة اخرى.. ويعيدها إلى مكانها، مرة اخرى.

أنفاسقصتي هاته
 لم أكتبها كما تكتبون بالحبر على الورق..
في برهة من الزمن،
 وإنما كتبتها بدمي ..
 فلو أتيتم إلى هناك،
حيث سقطت..
 لوجدتم قطرات دمي اجتمعت..
وكونت صفحة على التراب..
 وستظهر لكم الحروف والكلمات..

أنظر اليهم، فينقبض قلبي، ويكتسح بدني عرق ساخن.. أطفال في سنك وأقل يمارسون لعبة الحرب، وأنت، واقف مكتوف اليدين ترنو اليهم بعينين دامعتين ..

أنفاسوضاق الأمر بالقايد ، حاصره الإرهاق ، أرهقته طاعة عبيده وإخلاصهم ،تضخم إحساسه بذاته حتى فاض عن  ذاته فكيف يفهم الناس أنه مثلهم لا يعلم الغيب ، ولا يستطيع المنح والمنع،وكيف يستطيع أن يفهمهم أنه نذل نجس،وانه خائن متواطئ بل هو النذالة والنجاسة والخيانة والشر ذاته مجسدا يسعى .
هل يعرف الناس "القايد باشاغا" أكثر مما يعرف هو نفسه؟ هل عندما يرى شرطته وزبانية التعذيب في حاشيته تجلد الرعية ، تجوعهم تعبث بكرامتهم ، بأعراضهم تكون رؤيته وهما ومحض خيال؟! فإذا صدق ذلك ترتب عليه أن إحساسه بأنه" باشاغا وهم أيضا و محض خيال و إذا كان الأمر كذلك فالأحسن إن يحمل إلى مستشفى المجانين. أرهقه الشك ولم يجد لدفعه سبيلا.
ولكن كيف يكون الأمر خيالا والعروش تهتز عندما يهتز وتسكن عندما يسكن ؟ و بوسعه أن يتأكد من ذلك في كل حين وقد تأكد منه آلاف المرات!؟
سأقف. وانتصب القايد باشغا واقفا ، فاضطرب كل ما حوله ، كل ما حوله تحفز وتهيأ واستعد ليكون السابق لأي إشارة ، أو رفة رمش؛ أو حركة من بنانه . واقفا  رغم قصره  مد  في الأفاق بصره ، فتراءت له الجحافل الكادحة؛ كل يكدح فيما وضع له ؛ هؤلاء في خدمة الأرض قد صار نصفهم ترابا وطينا ونصفهم بشر ا،والقائمون على تأديبهم يلهبون ظهرهم بالسياط   في تفان حتى التحم الجالد بالمجلود ؛  فلا يعرف من يد من ينطلق السوط وبظهر من يلتصق ،  فهو موصول بينهما وكلاهما يصرخ هذا من الألم، وذاك ليبرهن على تفانيه في العمل ، وعلى هذا المنوال تجري سنة الله في مماليك القايد ، وبين هؤلاء تندفع المواكب مهللة مستبشرة تسوق قطعان الأغنام والبقر ، والبط و الإوز والدجاج.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة