أنفاسالمعلم

في اليوم الأول .. أهداها كتاب الحب
في اليوم الثاني .. أرفق الحب كتاب المعرفة
في اليوم الثالث .. ناولها موسوعة التجربة
في اليوم الأخير
حفظت المفردات .. حملت مكتبة متنقلة
نزلت إلى السوق .. اتخذت الرصيف متجرا
احترفت البيع والشراء
ولغة الثرثرة …

أنفاسحين يشرعون في التوافد على مقهاهم ، يكون الشرقاوي / النادل أكمل بالكاد تصفيف الطاولات و الكراسي بالداخل و بعضا منها على شكل سطر مستقيم على الرصيف الضيق ، هم مجموعة من المستخدمين البسطاء للغاية و الموظفين من أدنى المراتب أو الاسميين  على الأصح ، وبعض المتوسطين الزائفين إلى جانب مجموعة من المتقاعدين من مهام بسيطة ، و كذلك بعض العاطلين  و الحرفيين شبه المشتغلين . كلهم باتوا مشهورين بالمقهى منذ زمان و اشتهرت هي بهم . يسابق كل منهم الزمن كل صباح و كل مساء كيلا يسبقه أحد لزاويته المنذورة له ، بل لكرسيه نفسه ، و لا يستطيع من اصطدم عند قدومه بغريب منشور بزاويته إخفاء تقاطيع وجوم و حزن عميقين من على وجهه ، تحسبه خسر خسرانا فادحا ، وتجده فرحا و نشيطا كطفل و قد غادر الغريب المكان و استعاد هو زاويته دون أن يخفي طقوس الجلوس لأول مرة . كل منهم يتخلص من البيت أو الأولاد أو الزوجة العاملة أو منهم كلهم بسرعة جنونية و ينقذف إلى مقهاه . و من يكون مجبرا على العمل صباحا تجده كالذي يساق إلى الجحيم ، فهو لا يخلف الوعد مع زاويته و كرسيه و لا يغادره إلا في آخر لحظة و في عينيه علامات غبن فادح لعدم إتمام الجلسة إلى آخر رمق و هو ساعة الغذاء أو العشاء الملزمة .و عموما فعلاقاتهم كلهم بعملهم هي علاقات كراهية و حقد لامحدودين ، يعبرون عنها في كل مناسبة و بدون مناسبة ، هي علاقة غريبة فعلا و لكنهم كلهم يتآمرون على استساغتها و تبريرها رغم شذوذها.

أنفاسالانعكاس
*******
أصر هذه المرة على كشف وجهه للمرآة مستقصيا تفاصيل باهتة ،
كان الطقس يؤذن بيوم مطير،
اكتشف حجم الذبول في خلفية الانعكاس و قد استحال بريق الوهم إلى سراب دامس ،
جحظ عينيه متحسسا زوايا مظلمة ،
تأفف ، ثم أخفى وجهه عن وجهه .
ما قبل الانعكاس
**********
ناء بحمل ظل أتعبه سراب الجسد ،
لم يجد سبيلا للبوح بصمته الجارح غير تمني سلخ جلده للتجدد ،
بينما العيون تترصده كاتمة أنفاسه بمحاضر التواطؤ على الخديعة ،

أنفاسحين عدتُ واسـتيقظتُ، وجدتُني ممدداً على كنبـة جـدي، منهكـاً ككـل مرة، وإن بدوتُ كمن استيقظ من نوم عميق. تعجزني شدة الإجهـاد عـن مجرد التقلُّـب على فراش الكنبة الطري. كنـتُ في نفس المكان عندما جاءوا، وكانت حجرة جدي خالية .. الكنبة تحت نافذة الحجرة مباشرة؛ وكانت النافذة مفتوحة، وخرجت جدتي، بعد أن ســوَّت فراش جدي، تشرف على عملية إعداد الإفطار. كنتُ مستلقياً على الكنبة، رافعاً سـاقيَّ، مستنداً بقدميَّ على إفريز النافذة العريض. كانت الشمس قوية تدفئ القدمين؛ وكنت هانئاً بالسكون، وفي ذهني أن مائدة الإفطـار قادمة، وأن ذلك يعني أنني سأسمع – بعد لحظات – صوت جدتي، في جرسه الموسيقي الجميل؛ تخصني أنا – من بين جميع الأحفـاد المتناثرين في البيت الكبير – وتناديني باسم التدليل الذي تقلب به صفتي إلى أنثى .. وكان في نيتي أن أتمهل، برغم إحساسي الشديد بالجوع، وأتشاغل عنها بالتأمل في صفحة من الصحف التي يكومها جدي بنظام خاص في ركن من إفريز النافذة. اعتدتُ أن أتخابث، لتأتي هي إليَّ – في كل مرة – وتعنفني، وتدغدغني، وتبحث، من فوق ملابسي، عن شيئ بين فخذيَّ؛ وأنا أروغ منها، غير راغب في أن أبتعد عن يديها؛ ولكنها لا تلبث أن تعلن احتجاجها، فقد أجهدتها، والجميع ينتظرونني؛ ثم تدعوني بلطف أن أنشـط وأقوم، وتميل عليَّ، وتلمس شفتاها وجهي، فتقتحمني أمواج الإحساس بروعتها. ولكن، سرعان ما يتبدل العالم تماماً فور أن أخرج، في ذيلها، من الحجرة .. وجوه أخرى .. متعددة .. عابسة؛ وأياد متحفزة تقبض على الأرغفة الساخنة، وأعينها مركزة على صحاف الفول المدمس الموزعة بنظام خاص على سطح الطبلية.

أنفاسإلى  تلك العجوز  . .  بائعة العلكة على رصيف الزمن. .  بائعة الكبريت سابقا
كم أتمنى لو تقرؤني الآن  . .
  لو تقرؤني  . .
        لو تقرأ فقط  . .
            فقط  .

 
قبل فطام بعيد  . .
أخبرتني أمي عن بائعة الكبريت
بائعة الشموس الصغيرة في أزقة الظلام الكبير
عن  اختباء البرد في معطفها الشاحب
وتساقط السماء فوق جبينها الذي لا يتسع لأكثر من قبلة

أنفاسثلّة أصدقاء. أحد منا لم يكن قد تجاوز العشرين. كل خميس نذهب إلى بيت الأستاذ. بيته هناك وسط مزرعة قرب قرية بعيدة في الجبل.
نسميه دون تحفّظ بل وبفخر "الأستاذ". نتجادل ، نثير مواضيع ، نقرأ كتباً.. جميعاً كنا مهجوسين بعالم آخر.
في خميس ما ، وكان الطقس شتاءً ، كان يوماً بارداً.. بارداً غائماً. جالسين في مؤخرة الباص كما العادة نحن الأربعة.
انتبه "سين" إلى ذلك الجرف الصخري على يسار الطريق. كلنا انتبهنا كأننا نرى ذلك للمرة الأولى. "سين" انطلق كالمجنون يحكي عن منام رآه البارحة. انصعقنا، صرخنا بصوت واحد: "عجيب"..
"ع" قال: "غير معقول ، أنا رأيتُ نفس المنام". "م" "أوه"، قال.. هل أنت متأكد.. هل أنتم.. وأنا لاأعرف ماذا كنتُ أقول ، كنتُ أحتاج لأصدّق ما أسمعه.
أثارت ضجتنا جميع من في الباص. تبادلنا تفاصيل المنام لكي نتأكد. كلّ منا روى المنامَ نفسَه؟ التفاصيل نفسها. كنا نريد من الباص أن يلتهم المسافة ، أن يوصلنا بأسرع وقت إلى بيت الأستاذ أو إلى.. أقدارنا.

أنفاس(الورقة الأولى )

قلبـُك أخضرْ .. وقلبي أخضرْ
يميلُ الحزن نحوك تبّهت
يميل الحزن نحوي .. أذوي ..
نُصبح زفرة يُطلقها نيسان ويمضي...
حُبك باقة ( بنفسج ) تفوح يوما في العام
حُبي غرسة زيتون أخضر تنمو , تكبر , تتفرّع
إن تكسر غصني حمائم السلام , رُسل المحبة
تحملني .. تنقر نافذتك, تلقيني حِرزا بين يديك
بينك وبيني ستارة غدا تبلى...
وستدخل أشعة الشمس من خلال الثقوب
لتزيل ما علق في قلوبنا من أحزان

أنفاسألآن بدأت ليلة الزفاف . صار فواز عريسا ، قد لا يعرفه من يراه بشعره المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم ، وبذلة الفرح السوداء التي اشتراها من البالة ، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد غيرت شكله وقلبته رأسا على عقب ، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد ، ثقب ابتلع قطعة نقود صغيرة إلى جوف البذلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة ، فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة ، هذه الليلة التي انتظرها من سنين طوال ، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها .. فهو متشوق إلى درجة أنه فكر بصرف المدعوين  وتقديم عقارب الساعة ، كي يختصر الساعات ويصل بسرعة إلى ليلة عمره .
ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت الزوجية الضيق كعلبة السجائر ، حتى حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف ، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه متجها بها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية ، مبتسما ، وقد لاحت في عينيه نظرات لها بريق  أخاذ .. بريق به دفقات من خفايا قلبه ووراءه رعشة حياة ، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات ، وقد فهمتها سهير وسبرت أغوارها .. من المؤكد أنها فهمتها .. فهي من الراسخات في معاني الصمت ، بل ليس بمقدورها ألا تفهمها ، رغم ما غشيها من توتر ، وما حل بها من حياء .. فألذ أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال .. بل هي على يقين أن للقلوب السنة لا تسمعها الآذان .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة