أنفاس(1)
قبل عام حل بالبلدة أولئك الغرباء ظاهرو النعمة.. وزعوا أسئلة هنا وهناك , وبعض أسف وبسمات لا تسمن ولا تغني من برد..
قيل إنهم أعضاء لجنة وزارية..
بصلاحيات واسعة وأفق أوسع ..تفقدوا أحوال البلدة والناس, وعدوا خيرا..ثم ابتدأت الأشغال وقام البناء.. ذاك البناء الذي تراه  "تزرورت" فتذكر الذين رحلوا وتغرورق عيناها بالدموع..
- أزيد من ثلاثين طفلا ..يا الله ..أي خريف للأطفال..أي خريف !..
يتهدج صوتها من فرط التأثر, فتشيح بوجهها جهة الصمت.. وتتيقظ الحواس للسعات البرد الذي حل من جديد..

(2)
هناك في الأعالي ..
في المغرب العميق العميق..بعيدا عن المدينة والأضواء والطرق المعبدة والمستشفيات وشبكات الهاتف وأجهزة التكييف واهتمامات الساسة  وكتّاب الواقعية المزعومة .. بعيدا عن أي حلم جميل , قريبا من العطب تقع البلدة ..

أنفاسدموعي امطار كانون الأول
تغمرني , تسبقني,تغرق الممر مابين باب وباب
اهرع نحو الحمام مبتلة , اخلع رداء روحي الأسود , اتوارى داخل نفسي
اجلس القرفصاء واتكـوّم
اتمدد في المغطس يمتزج بدني الملتهب بالماء ..فيلسعني
افرك ..افرك ..ذلك الملعون , المجنون (قلبي) اغتسل من ظلي
اقرأ المعوذتين , الأنشراح ,دعاء غسل الذنوب ..لكني لا اتطهّر !؟
ياالله..انا المرسومة تقاطيعي براءة الصغار , الساكن جوانحي
رشد الكبار ...ضـللّت
احمني من صفاقتي , حررني من حماقتي , كل ما حولي يختـــّل
كعقلي الذي اختــّل..!؟

أنفاسعلى يدي الممدودة، حطت قطرة مطر حملتها الريح إلي.. إذا أمطرت بالفعل، سيكون عليّ أن أغادر مكاني هذا.. فركت القطرة كحبة عطر بين أصابعي وشممتها، لكني لم أشم غير رائحة التراب ممزوجة برائحتي.. نظرت إلى البعيد، أتطلع إلى المارين، أستكشفهم.. فرأيته قادما، بدا مألوفا.. الروبيو¹؟  والدتي كانت تناديه هكذا، فكان ينزعج بينما تقول له:
    - شعرك الأشقر وتلك العينان الزرقاوتان  ستجذب النساء إليك يالروبيو.
    فتعتلي بعض الحمرة وجهه البيضاوي، ويحاول  الاعتراض بينما تستطرد والدتي:
    - ستحطم قلوبا كثيرة، يالروبيو..
    لم أدرك حينها ما كانت تعنيه أمي. وإن كنت بدوري، قد فتنت بابتسامته وأسنانه الناصعة البياض. كان يفركها مرارا وتكرارا في اليوم الواحد.. كان ذلك أحد الأسباب الكثيرة لغضب زوج والدته.. حين يشب الشجار بينهما، كان الروبيو يأتي لاجئا لبضع ساعات أو بضعة أيام إلى بيتنا الصغير.. ينام قرب كومة النعناع الذي سيبيعه والدي غدا في السوق. غالبا ما كنت أتسلل إلى جانبه لنتسامر لساعات طويلة.. أحيانا تنتبه لنا والدتي، فتأمرنا بالنوم، وإذا لم تلح كثيرا أبقى معه لوقت إضافي. كان ذلك في البدء، بعدها اختلف الأمر قليلا..

أنفاس...دخلت "زهرة"مرحة كعادتها لإعداديتها الصغيرة المتواجدة في أطراف القرية.تجر لعب الطفولة و حب الحياة وراءها . تكسو جسدها الصغير بأجمل الثياب (فهي آخر العنقود في البيت و الكل يحبها و يدللها) . تلفت أنظار أهالي القرية النائمين وسط كوم من التقاليد و الممنوعات . قالوا عنها يوما : "اتركوها حتى تكبر,إنها ما تزال طفلة" .
عاشت "زهرة" تلك الأيام المشبعة بالطفولة، تتنقل في كل اتجاه كفراشة تزهو بألوانها المختلفة أيام فصل الربيع . و تعلن عن تحدي خفي يهدد أركان مؤسسة الشيخ. لا تراها إلا باسمة أو ساخرة من بعض الأقوال المترامية في القدم ."لماذا لا أمارس الرياضة؟"سؤال وجهته بعنف لإحدى صديقاتها الصامتات . و هكذا عرفت "زهرة" بأفكارها الثورية الهاربة من قلعة الشيخ .
جاءها في يوم من الأيام,في غفلة عنها,إنذار رسمي يقول:"زهرة.. احتشمي .لقد صرت امرأة.تصرفاتك كلها عيب." يومها رقصت  "زهرة" و رقصت معها كل الأزهار المفقودة بالقرية . و أعلنت عن نجاحها الدراسي مرة أخرى بتفوق . و مزقت بذلك كل الحناجر التي نادت بعجزها عن الدراسة : العنوا هذه الفتاة  إنها شيطان صغير..و لن تفلح في الدراسة.

أنفاسأبحث عن ذئب
قالوا لي ، أن الذئب كان سيأكلني في رحلة من رحلات الصيد التي كان يهواها أبي في شبابه، ومنذ ذلك الحين ، عشقت الصيد أنا الأخرى ، وكلي أمل في العثور على هذا الذئب الذي كان ( سيحتويني ) ولو في معدته .
 
كاتيوشا  
ألا بوجاتشوفا تغني لمليون وردة حمراء ، وكاتيوشا الجميلة تقطف أزهار أشجار التفاح والكمثرى، وكاتيوشا أخرى تعانق كلاشينكوف ، ينجبان جثثا تملأ  (عين الحلوة)  والقمأة .
 
فوفا دوما؟؟ 

أنفاسهـل يـعـقـل أن يفكر المرء في نفسه متناسيا الآخرين ممن يعيشون معه في الوطن والبلدة وربما في البيت .
كان قـد جلس في المقهى على أحد الكراسي الأمامية . طلب من النادل زجاجة كوكا كولا ، سأله إن كان يبيع السجائر بالتقسيط أجابه النادل بالإيجاب ، طلب سيجارتين ، التفت إلي يسألني عن الثقاب ، وحين أكدت له أنني لا أدخن بدأ يحدثني عن تاريخ علاقته بالتدخين وبدا كأنه استأنس لحديثي رغم أنني استغربت منه هذه الجرأة الزائدة ، وتساءلت كيف أمكن لشخص ليس بينك وبينه سابق معرفة أن يسترسل معك في حوار من أي نوع كان ، حتى من دون أي مبرر معقول . قلت في نفسي لعله لم يفهم الأمور بالصيغة التي أفهمها بها أو لعلي أنا الذي كنت دائما أبحث عن التفسير المنطقي لأي حالة أو ظاهرة تصادفني ، هل من الضروري أن نخضع كل أمورنا للمنطق ؟ هل نحتاج إلى طلب الإذن لنحدث شخصا ما عما يختلج في صدورنا ؟ أم أن الأمر بسيط لا يستدعي كل هذه القيود . بدأ يحكي قصته ـ كما سماها هو شخـصيا ـ مع السيجارة ، قال لي بأن رفقة السوء هي سبب هذه البلية التي أصابته منذ أزيد من أربعين سنة  .أيامها كان يجمع أعقاب السجائر أمام المقاهي ويحاول الاقتداء بالكبار على خلفية ملصقات كان يراها هنا وهناك تحمل صور رجال يضعون بين أصابعهم سيجارة من نوع ونستون أو مارلبورو وعلى وجوههم علامات الرجولة والقوة .

أنفاس"ولما صعّرتُ لها خدي وطاءً على الثرى
قالت : لكِ البشرى بلثم ِ لثامي "

عمر بن الفارض

يسكنُ فوق سحابة الكلمة ، يهطلُ الحرف من فمه كاللؤلؤ المكنون
قطرة ..قطرة ..تروي جفاف العمر ، تردمُ تشقق النفس ، لتخضرّ أرض الجُدب ، وتزهر حدائق الأمل الصدئة .
يرتجفُ أصغرُ ..أصغرُ شريان في أقصى زوايا قلبي ، تصتك أسناني برودة الرهبة ، ترتعش أصابعي  أتخدر ، تدور الجدران ، يلتف السقف ، أراني لاعبة أكروبات صينية تتسلق على مطلع قصيدة ، تقفز بين ردهات بيت قصة ، ترقص بين الضمة ، الفتحة ، وتنثني على الكسرة بين الشطور والسطور..
زلزال يهز أطرافي ..فأنشطر ، يسقط كلي من كلي ..!
يهمس بصوت رخيم ، عابق ، مخملي .."يا حلوتي رددي معي" ..

أنفاسفي يوم بعيد و شديد البرودة من أيام كانون قبل ثلاثين عاما وقف الأستاذ عبد الجليل نائب مدير المدرسة كعادته بوجهه الأحمر الملسوع من البرد قرب بوابتها الكبيرة المشرعة لابتلاع التلاميذ جماعات وفرادى ، ليس قربها بالضبط ، إنما بعيد بعض الشيء ، يذرع الأرض ذهابا وإيابا مطأطأ الرأس وقد لف ذراعيه خلف ظهره ، وأخذ باطن كفه الأيسر يحتضن قفا كفه الأيمن وتركهما يستريحا على العصعص . أحيانا يتوقف للحظات بين الفينة والأخرى ليطيل النظر إلى الأرض حوله كمن يبحث عن قطعة نقود ضائعة ، ثم يعود للمشي البطيء كالسلحفاة من جديد . وقد يضع كفه في جيب بنطاله ليدفئه ، فيخرج الكف وقد اصطاد حبة فول كان قد نسيها من زمن ، فيلقي بها في فمه كمن يلقي حجرا في حفرة عميقة ، وقد يقتنص الكف فتافيت ورق عتيق فيرمي بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر.
وهو يأتي إلى هذا المكان بالذات كي يمسك تلميذا متأخرا فيوبخه أو يضربه ، وهذا يعتمد على مدى قرب التلميذ إلى  نفسه أو على مكانة أهله .. بينما هو كذلك لمح من بعيد تلميذا قادما لم يستطع أن يميز ملامحه رغم نظارته الجديدة ذات الإطار البني الداكن مثل كفتة لحم العجل . فأخذ احتياطه وراح يتأكد بأنامله من سلامة إغلاق دفتي سترته الضيقة والملتصقة بجسده وكأنه حشر بها حشرا بعد عناء ، ولامس ببواطن أنامله أزرارها المعدنية التي فقدت بريقها وكُشط طلاؤها .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة