أنفاساشتدت غزارة المطر ، فأخذت السماء تنقر زجاج السيارة نقرات متواصلة وسريعة ، محدثة صوت خشخشة أشبه بصوت قضم الخبز المقرمش .. المسّاحات تجاهد كي تتيح لعيوننا الرؤية عبر الزجاج المبلول ، وبخار صدورنا المبثوث عبر أنوفنا وأفواهنا يتكاثف على زجاج النوافذ كالغبار ، ليحاصر نظراتنا ، وهيهات لها من النفاذ إلى الأفق في هذا الضباب الثقيل المنثور .
كنت اجلس خلف السائق ، امسح بكفي البخار وأترك نظراتي تتسلل وتلهوا بين حبات المطر القريبة ، تلاحقها أفكاري الصغيرة الهاربة بين زحام الأسئلة .. أسندت ظهري ، ونظرت إلى امرأة في ريعان الصبا ، كانت تجلس بجوار السائق ، وفي حجرها كافولة من قماش أبيض ناصع ، لا يعكر صفو بياضه سوى بقعة واحدة صفراء ، قد تكون مخاطا سقط سهوا إثر عطسة قوية ومباغتة .
داخل الكافولة نتفة لحم حية وبضة ، بلغت شهرها الثالث ، لها رأس أملس وصغير بحجم برتقالة ، وقد نبت به زغب ناعم ، بالكاد خرج من فروته الطرية ، وفم ضيق لا يتسع لحبة عنب ، فقد رأيته مفتوحا على آخره حين وأوأ : وأ .. وأ .. وأ ... لقد وأوأ  بإصرار وعناد ، كأنه قصد الإزعاج .. شعرت أنه يعاندني و يناكفني .
- أسكتي هذا الرضيع !
- إنه جائع ! لا أستطيع إسكاته .

أنفاسأفندم…
أنــــــا، رقم (5558050 ) – رقيب ( هـ. ع. ) مجنَّد رجب ســـعد السيد ؛ تجنيد 10 / 10 / 70 ؛ (رديف) 1 / 9 / 74 – يا افندم – حكمدار ( ف. سطع. كيما. – س. 2 كيما. – قيا. فر. 6 مش. ميكا. )، واحدة من فرق المجهود الرئيسى ، المشاركة فى عمليات أكتوبر 73 .. طالب مكتب يا افندم .. متظلِّم ، وعندي أقوال عمَّا كان، وما هو حاصل، من أحوال الوطن، بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثين عامــــا، على أول معـــركة حقيقية (قاتل) فيها الجيش المصري ، في العصر الحديث…
     لم أشارك، من قبل، بمثل هذا الحديث، مكتفياً بما سجلته فى القالب الفني الذي أحبه : القصة القصيرة ؛ فأنا ( كاتب ) يا افندم ؛ والواضح، أن صوت الكتاَّب، وكتاباتهم الأدبية، شديد الخفوت بين بنى وطني، فلم يسمعني أحد. لهذا كان قراري – يا افندم – بأن أرفع صوتى، متخلياً عن القصة القصيرة الجميلة، آملاً أن أستجمع قواي ليكون صوتي عالياً، قدر الإمكان، فلا تغطي عليه جوقة الزاعقين في كل مكان، لعلَّ أحداً يسمعني..
     كنت راضياً بالصمت – يا افندم – حتى رأيت بعينيَّ، في برنامج تلفازى، مواطناً مصرياً، في سِنِّي، ولا بد أنه شاركني موقعة 73 ، وقد يكون من أبطالها، يتحدث إلى مقدِّم البرنامج عن جرَّاح قلب شهير، استنزف قدراته المادية، مستغلاً حاجته لخدمة علاجية، تتوقف عليها حياته، وحياة أسرته؛ ويا ليته أدى الخدمة، وقد حصل على أجره كاملاً، بضمير.. إذ عبث بشرايين قلب المواطن البسيط، الذي أخذ يعبر عن الواقعة بأن الطبيب أجرى لــه الجراحة بأسلوب خاطئ، واستبدل له شرايين قلبه بأخرى، أطول من المطلوب، ويصف المواطن الجراحة بأن الطبيب كأنما ركَّـــــــــب لــه (جــاكمــــان) ســـــيارة، ممتداً للخلف، دون أي حسابات، أو كأنه ركَّب له ( ليَّ) شيشة !!.

أنفاسكان البحر يرتمي تحت قدميّ موجة، موجة. و بين كل واحدة وأخرى، يتراجع. تركت ملح الماء يتسرب إليّ من حذائي الخفيف،  شيئا فشيئا. كأنه يتذوقني. كل موجة تستبيح قطعة جديدة من جسدي.. استيقظت باكرا ذلك اليوم. انتقلت بخفة من سريري إلى يوم جديد. انتقلت بخفة من ساعة إلى أخرى. تعلقت بالأمل  طوال اليوم. كيف وصلت إلى هذا الشاطئ؟ كيف انتقلت من النقيض إلى النقيض؟
درس تلو آخر، أتعلم في كلية الحقوق، مبادئ الحريات وحدودها.  لم أدرك انه سيكون علي أن أواجه حدود حريتي بتلك السرعة! تعلمت مذ كنت طفلة أن أتحايل لأحصل على قطعة خبز أكبر، ثم لأحصل على درس إضافي، ثم لأحصل على فستان أو حذاء.. وزعت ابتساماتي وبعض الغنج هنا وهناك.. لم أكن أتجاوز حدود الآخرين، كنت فقط أوسع حدودي. أستاذ القانون المدني، لم يكتف بالغنج. لم تشبعه ابتسامتي.. على مكتبه، توغل في أنوثتي باحثا عن سري الدفين.. صددته مرات عديدة، لكنه ذلك المساء تحين اللحظة جيدا، وحاصرني على مكتبه، دفن رأسه في صدري باحثا عن حليب يطفئ ظمأه. أمسكت رأسه بكلتي يدي ورفعته لأعلن اعتراضي لكنه طار إلى شفاهي يعضهما.. أشعرني وخز شاربه الكثيف بالغثيان، أردت أن أتراجع ثم كان أن تبادرت الفكرة إلى ذهني.. ألستُ امرأة حرة؟ ألست أعلن لكل من يرغب في الاستماع، أنني المالكة الوحيدة لجسدي؟ ألست التي تحتقر ذلك الغشاء الغبي الذي يحد حريتي؟ فلم لا أمنحه لهذا الرجل المتعطش مقابل ثمن أحدده؟

أنفاسالقاعة فارغة، الكراسي مصطفة دون أن يجلس عليها أحد..بالركن منبر مستطيل وضعت عليه ميكروفونات تستعد لنقل أصوات المحاضرين..وبالجدار لافتات تعلن عن ندوة حول الكتابة الرقمية..المستقبلون بباب القاعة ينتظرون استقبال من يأتي..لحظات تمر دون أن يظهر أحد..لكن بعد فترة يظهر بعض الحضور، يليهم آخرون على فترات متفرقة.
لم تمتلئ كل الكراسي..ظل أغلبها فارغا..ومع ذلك قرر المنظمون عدم الانتظار..ولعلهم كانوا متعودين على عدم حضور أشخاص كثيرين..لذا أعلنوا عن افتتاح الندوة، مكتفين بالجمع القليل.
جلس المحاضرون بأماكنهم أمام الميكروفونات..وشرعوا في طرح أفكارهم وعرض آرائهم بالتناوب. التفت ورائي فإذا بالكاتب الكبير يحتل مقعدا بالصفوف الخلفية، استبشرت خيرا، وخمنت أن الندوة ستكون غنية بالأفكار المفيدة والتدخلات الفريدة..ولم أهتم بنظرة غريبة تشع من عينيه، وربما لاحظتها أكثر عندما سمعت سعاله المتكرر، وعدم استقراره في جلسته..وقلت لعلها نظرة تنم عن فيض ذكاء..أو هي مؤشر عن اختلافه وتفرده..ومن حق الكتاب الكبار أن يختلفوا عن الناس العاديين..ماداموا يملكون رؤى تسبق المرئي..وسينتظر انتهاء العرض ليتدخل برؤيته ومعرفته التي ستكون حتما جديدة متطورة تتناسب مع موضوع الندوة المتطور والمتجدد..وبذلك سيبحر بنا في عوالم الإعلام والرقميات الأنترنيتية..

أنفاسبيضاءُ, بيضاءٌ كالثلج, بليغةٌ الأنوثة, ضامرةٌ الخصر، هيفاءٌ القدّ، ذاتُ عينين واسعتين، ونجلاوان بحدّة عالية، تشعان بلمعة ذكية كعيني قطة كأنهما تنيران أية ظلمة. يصعد الدم إلى وجهي كلما كانت تقترب مني.. يفور في ذلك الذي أجهله, يضغطني فلا أحتمل, فأقترب منها أيضاً، مقاوماً كل ما يخيفني، فقد أشاعوا يومها بان احد مسئولي الدولة الكبار آنذاك، كانت علاقته بأمها جد وطيدة، وقد عين من بين الطلبة لمتابعتها، وكنت دائما أتحاشى الاقتراب منها، ليس لأني ممتلئ من قصص الرعب التي سمعتها، عن ذلك المسؤول الذي وصفوه بأخطر الإمراض السايكوباثية، وكنا نعرف بان يغار عليها كما يغار على أمها، وصرنا نهابها أكثر مما نهابه، كنت أرى بان الاقتراب منها بأي شكل من الإشكال يتركب عليه عواقب وخيمة لا يمكن تفاديها، فكنت دائما اهرب منها، أو التقرب منها رغم أن ترتيب اسمها الأبجدي يجعلها دائما بجانبي، كنت أرى فيها أنوثة طاغية، وأحاول عدم مسّ أصابعها كلما اشتركنا في تمرين (المختبر)، تتعمد الدنوّ فوق رأسي، وتسقط زفيرها في رقبتي، لانتفض ارتجافاً، أراها تتعمد أن تلامسني، فأخاف من احتكاك حلمتيها الجريئتين، وغالبا ما استرق النظر إلى فتحة قميصها خافيا شبقا دفينا بين عينين مفتوحتين خجولتين، فأجن.. إذ غالبا ما تسرحان جريا في هضاب مفرقها المرمري الذي تتيه فيه أذكى العيون..

أنفاس..أخذت كلاب القبيلة تعوي ..و تعوي ..قلت الكلاب تنبح ..فلم هذه ..تعوي ..؟
و بالرغم من اللون القمري ، الذي يطغى على هذه الليلة ، فإني أكاد أقول أنني لا أرى قمرا .كما أنني أسمع عواء الكلاب القريب مني ، لكن لا أرى كلابا ، و قد تكون ذئابا ..و قد تكون هي تراني .. و "تنمنم" و "تنقنق"حول ظلال وجودي ، خلف سياج هذه الغابة الكثيفة ، دون أن تفهم ما أنوي القيام به ، و لا لماذا أنا هنا ..فقط لأنها كلاب ربما مسنة ، تسمع ..دون أن ترى ، وقد ترى ..دون أن تفهم .قلت ..تشجع يا سالم ، فالغابة لن تكون أكثر من غابة أشجار، و سواقي مياه ،جبلت على طاعة صخور صلبة ، يعود تاريخها إلى زمن غابر و قديم ..
عندما قطفت أول ثمرة قريبة من ذراعي الأيسر ، تعالى عواء كلاب القبيلة ، التي باتت أقرب مما يتصور .لم أشعر بالخوف بتاتا .بل أحسست بقوة لا حد لها ، تسري في كيان جسدي و روحي ، لا أدري ما هو مصدرها ، و لا كيف ولا من أين جاءتني .اخترقت الأشجار بتحد كبير ..أشجار كثيفة و ضخمة و عالية جدا ، لم يحصل أن شاهدت مثلها من قبل .كنت بين الفينة و الأخرى ، أردد لحنا عفويا ، أرتجله بلا أي تفكير مسبق ، أكسر به رتابة هدوء المكان ، الذي يكاد يلمس ..عواء الكلاب دائما يطاردني ، أو أطارده ، لست أدري ...،.إنه الآن آخذ في الارتفاع ، كلما تقدمت خطواتي.الأشباح فكر خرافي يجب أن يقبر إلى الأبد .

أنفاسكانت أشعة الشمس ترتق آخر ثقب في الأفق,وكان لامتزاج اللون هناك,في تلك العين الحمئة,أثر السحر...
صوت النوارس يعلو خلف قارب صغير يزحف نحو المرفأ,حيث بيوت الصيادين القصبية, ذات الأبواب الصدئة, تقبع وراء كثبان رملية كستها نباتات شوكية...
كنا نمشي كعادتنا . يطول مشينا وكثيرا ما يطول صمتنا........
تأخرت في اللحاق بها لأنزع حذائي حين أغوتني قدماها الحافيتان بالمشي على أثرهما . تذكرت قولة فرنسية شهيرة  
Il ne faut jamais marcher sur les pas des autres
وقلت هي ليست هذا الآخر بل هي قطعة مني تخبئ أسرار عشقي ...ثم وضعت قدمي اليمنى على أثر قدمها وقرأت دعاء ولوج الروح...
التفتت تعيرني بالهرم ,والحقيقة...أتعبني المشي خلفها على رمال نصف مبللة...
مدت يدها,جذبتني...كنا وحيدين والماء...نرقب النوارس التي خبا صوتها وتراصت على حافة بقايا سفينة ناتئة وسط الزرقة...
غابت الشمس,لكن الاحمرار لازال يزفها ببطء...

أنفاستلك الأسطورة البكر ، التي انقدّ الكون من أضلاعها ، ومن ركبتها كانت السلالات ، بهية الروح هي ، وفاتنة قسماتها ، حميمة لدرجة أن من يحتضنه آجرّها ينسى كينونته ، وحواسه لا تعد تدرك سوى صنعاء ، دفؤها خلاص الرجفات ، والابتراد بنسائمها شفاء من كل داء ، بلغت من الفرادة بحيث لا تتكرر ، ومن التميز حتى استعصت على كلّ استنساخ ، ومن التسامي أن تعالت على البحر ، وها هو يستجديها – على الآماد- سرّ خلودها ، من حُمرتها الآسرة كان الأصيل ، وبفجرها فضض سام بن نوح نهضة العالمين بعد الطوفان ، إنها ( أزال ) كما نقلت التوراة ، و( المحصنة ) كما ترجمتها لغة الأحباش ، ليس أجمل منها سواها ..
قمرياتها ما كلّت – منذ بلقيس - تنخل عصارة الأقمار ، وتغربل غلال الشموس ، ليلج الضوء نقياً متطيّفاً إلى بؤرة الأعماق ..
بوّاباتها عناوين سخائها ، كرمِها الذي لا يضاهى ، وشبابيكها ( المشربيات ) التي تنفذ منها أغنيات عائدة لتوها من جزر الحنين ، يرقد في أكنافها الماء المبخّر عذباً ، وكأنه يحرسنا من عطش قد يشيع ، أو يمتحن ديمومة الشذروان ( النوافير )الذي ما فتئ يستنهض رواكدنا ، و يشجعنا على أن نوزع صفاءنا على كل جهة تريد ..
و غير بعيد عن السماء يقربنا ( المفرج ) من الله وذواتنا ، فننجز فيه والخلصاء تأملاتنا والصلاة ، وتبذل الأفئدة في ( الدواوين ) في سبيل المحبة أحداقها ، وتنسج الشفاه ألفتها وحكايا الليل عن مجريات النهار ..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة