أنفاس استيقظت على صوت أرعن..
حاولت تحديده أو تشبيهه بصوت في الذاكرة، لكنني فشلت، واكتشفت أن الذاكرة لا تستجيب إلا بمقدار اهتماماتنا! فمن أين كنت سأعرف أن الصوت كان لمنشار كهربائي؟ وكيف يخطر في البال أن أحدا ما سيقرر في لحظة عابرة أن يقص شجرة ما؟
لم تكن الشجرة في البدايات تعنيني من قريب أومن بعيد.. كانت سروة طويلة أمر بها ولا أعيرها أي اهتمام، ولم تكن تثير بي أي شعور محدد، إلى أن رأيت يوما على ساقها حفرا بمسمار يقول: أنت حمار!
يومها حاولت اكتشاف المسافات بين الشجرة والمنازل الأخرى، وقدرت أخيرا أنني أقرب الرجال إليها في الحي، ما يعني أنني الحمار على ساق الشجرة!
فكرت في استخدام مسمار أو سكين لإزالة الحفر، لكنني خشيت أن يراني أحد، وتحديدا ذاك الذي كتب العبارة، وتصورت حجم الشماتة التي سيمتلئ بها حين يراني، فعدلت، وصرت كلما أمر بها أحاول أن أتجنب النظر إليها، لكنني في لحظة غامضة، ألقي بنظرة خاطفة فتصيب الهدف تماما: أنت حمار!

أنفاسالحكاية الأولى
أوصيك خيرا بالأزهار
في حقل من الياسمين ، كانت نحلة تحلق مزهوة بعودة الفصل الجميل ، وهي تداعب البتلاث سقطت فجأة وأحست بدوار كبير .استعادت وعيها وهي داخل قنينة زجاجية ، ومن الخارج حاصرتها طفلة صغيرة بعينين صغيرتين ، توسلت إليها باكية :
-    أريد العودة إلى حقلي .
فأجابتها الصبية حانقة :
-    هذا طلب مرفوض ...مرفوض...
من فرحتها عدت بجنون ، سقطت القنينة وتكسرت ، وتحت هتافات الورود حلقت النحلة المسكينة مرعوبة خائفة نحو الأعلى .
بعنف بطشت الفتاة بالزهور ورمت بها عاليا ، فأصابت النحلة وسقت مرة ثانية لكن على خدها المتورد فلثمته بلسعة .

أنفاسبـعـد أن ضاقـت الـسـبـل بـعـلـي واشـتـدت أزمـتـه الـمـالـية جـراء زيـادة نـفـقـاتـه بـدأ يـحـس بـثـقـل الـمـسـؤولـيـة الـمـلـقـاة عـلـى عـاتـقـه  .قـد كـبـرت الـبـنـات ولـم يـعـد مـا يـحـصـل عـلـيـه مـن أجـرة هـزيـلـة كـافـيـا لإعـالـة أسـرتـه الـتـي بـدأت تـنـمـو بـشـكـل مـسـتـمـر فـي الـوقـت الـذي ظـل فـيـه راتـبـه كـمـا هـو ولـمـدة تـزيـد عـن عـشـر سـنـوات .لـقـد انـتـظـر تـرقـيـتـه كـمـوظـف بـسـيـط بـالـبـريـد ، لـكـن دون جـدوى فـي حـيـن حـصـل عـلـى  الـتـرقـيـة شـبـان لـحـقـوا بـالـوظـيـفـة بـعـده بـسـنـوات عـدة ودون أن يـعـلـم لـذلك سـبـبـا . ومـع تـوالـي الـضـغـوط الـمـاديـة عـلـى كـاهـلـه بـدأت زيـاراتـه لـمـكـتـب رئـيـسـه تـتـوالـى مـتـسـائـلا مـسـتـفـسـرا عـن مـصـيـر وضـعـيـتـه ، كـيـف يـتـسـلـق مـوظـفـون أصـغـر مـنـه سـنـا وأقـل خـبـرة وتـجـربـة بـل وكـفـاءة ، الـسـلالـم والـدرجـات ويـبـقـى هـو قـابـعـا فـي نـفـس الـمـكـان كـأنـمـا كـتـب عـلـيـه أن يـبـقـى بـلا حـراك عـلـى خـلاف نـظـام الـكـون والـحـيـاة . كـانـت وسـيـلـتـه الـوحـيـدة هـي الـشـكـوى وكـتـابـة رسـائـل الاسـتـفـسـار دون أن يـمـلك أن يـتـخـلـى عـن مـبـادئـه كـمـا فـعـل ويـفـعـل الـكـثـيـرون مـمـن يـعـرفـون الـمـسـالك والـطـرق والـمـمـرات الـجـانـبـيـة لـتـحـقـيـق مـا يـريـدون دون أن يـكـلـفـهـم ذلك جـهـدا ولا مـشـقـة . كل مـا فـي الأمـر أن يـرسـلـوا عـلـبـا أو أكـيـاسـا إلـى رؤسـائــهـم لـيـحـظـوا بـعـدهـا بـالـتـرقـيـات والـرخـص وشـتـى الامـتـيـازات ، بـيـنـمـا ظـل صـاحـبـنـا لـسـنـوات طـويـلـة يـعـمـل بـجـد واجـتـهـاد ، وبـكـل مـا أوتـي مـن قـوة وصـبـر لـدرجـة أنـه كـان يـعـلـم كـل صـغـيـرة  وكـبـيـرة فـي الـمـكـتـب الـبـريـدي ، إلا أنـه لـم يـكـن يـعـلـم تـحـديـدا أيـن يـسـكـن رئـيـسـه ولا مـا يـفـضـلـه هـذا الـرئـيـس بـل ولا حـتـى تـاريـخ مـولـده .

أنفاسكلما استمعت إلى صوت البيانو، تذكرت رغبتي القديمة في تعلم الموسيقى.. تلك التي نشأت ذات يوم حين سمعت البيانو لأول مرة. لكن العمر تقدم بي، ولم تتح لي هذه الفرصة حتى اللحظة، وقد كان على الدوام ثمة ما يمنعني من ذلك.. النشاط في حزب سري، والعمل في أوقات الدراسة مثل إخوتي الآخرين، والزواج أخيرا، وإنجاب الأطفال.
لكنني ما إن أرى بيانو في مكان ما، حتى أشعر بقوة تجذبني إليه، وكم تمنيت لو أتمكن من الجلوس ولو مرة واحدة أمام تلك المفاتيح، لكي أثبت أنني قادر على العزف من دون تدريب، نظرا لإحساسي القوي بالنغمات، ولثقتي العالية بقدرتي على معرفة المفاتيح الملائمة لها، حتى وأنا مغمض العينين! ثم نسيت الأمر تماما بعد أن امتلأ المنزل صراخا وعويلا، والقلب كمدا على عمر يتطاير مثل دخان السجائر من بين الأصابع.
كان أصغر أبنائي سيحتفل بعيد ميلاده السادس، وكنت مضطرا لإهدائه شيئا ما. ولأنني مللت  الملابس التي أراها الأفضل في المناسبات كلها، نظرا لما يوفره ذلك من استحقاقات يومية ـ أعتذر عن استخدام ( استحقاقات) التي هي من مخلفات العمل السياسي ـ ، فقد قررت أن أهديه شيئا لم يخطر بباله من قبل، من دون أن أحدد ذلك الشيء..

أنفاسسامية،يا جنونا ألم بي ذات نزوة على باب العمر المتهالك. أبحث عنك الآن في كل الوجوه, في كل نفثة دخان, وفي كل رشفة من فنجان قهوة سوداء.
التقيتك على قارعة الغياب. صدمتني عيناك الجريئتان في لحظة كنت أستجمع شتاتي من حب عاصف أودى بغروري.
أحقا خنت صديقتك التي عبرتها أنت مقتحمة تخومي في ثقة زائدة؟
في ذلك الركن الذي تغطيه الأشجار في أقصى مكان من الكلية, كنت أحضنها هي المتعاقبة على فصولي المشروخة مثل اللعنة, ألامس شفتيها الظامئتين أبدا, انبعثت مثل طيف لا أدري من أين لتصيحي:
-حصلتكم* أ لعفاريت, آش كاتديرو**؟
لم أكن أعرفك, هي كانت صديقتك المقربة. توقفت مشدوها والتفتت هي إليك مذعورة. لملمت شفتيها وابتسمت وقد احمر خداها وأنت تقهقين في صخب. نظرت إلي ومسحت قامتي كلها. كنت أقصر مني بكثير. توقفت عند عيني وابتسمت في عهر وقلت لها: هذا يصلح لي أنا وليس أنت.
ببساطة انكمشت إلى"هذا". لم أعر كلامك اهتماما. ألم أقل لك أن غروري قد أودى به ذاك الحب اللعين؟

أنفاسناداني فخرجت. حييته فأجاب.
ما كان الشارع معتماً تماماً، فتبنيتُ بعض ملامحه التي تشبهني.
أخبرته أني لا أعرفه فما كذبني.
كنت أرتدي بنطالاً عادياً، وهو يرتدي (الجينز) الغامق.
عاتبني على تقوقعي في البيت، وقال إن الشارع الشجري والهواء الصافي أجمل.
خالفته، وعزمت على العودة.
كُنا ما نزال أمام البيت.
عنفني بقسوة ثم شتمني.
ضربني على خدي الأيسر، فأعطيته الأيمن.
أحسست بالطنين في أذني، ثم في الرأس.
تأبط ذراعي وهو يضحك، ثم انطلقنا ببطء.

أنفاسعندما فتح باب شاحنته ، وجدها امرأة لم يرجمالا كجمالها ، قامة كالنخلة المثمرة ، وجه خجول ، يميل إلى شكل البيضة ،يغطي رأسها غطاء محترم أزرق اللون ، تلمع نجماته الذهبية ، في ضوء مصباح سقف الشاحنة . جلبابها الترابي و    المزركش ، يوحي بأنها فتاة تنتمي إلى طبقة متواضعة ، كطبقته تماما . لهذا لم يخنه حدسه هذه المرة ، و توقف لإنسان قريب منه ، في ليلة دامسة كهذه ، و بذلك يكون قد كسر جدار الموقف الصعب ، الذي اتخذه مع نفسه ، بأن لا يتوقف أبدا لأي  شخص يشير له في الطريق ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بليلة سوداء ، تحتفي بالتيه و الضياع ، أكثر مما تكشف عن ملامح معاني معينة  . و ذكرى اللصين ،اللذين أشبعوه ضربا ، بعد أن أخذوا كل ما كان يملك ، من أتعاب شهر من العمل .. لن ينساها أبدا.
لكن ، ما الذي يدفع أنثى ، تخرج وحيدة ، في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ، و في مكان نائي و مخيف كهذا المكان . امرأة رفيقها الوحيد ، هو شجاعتها ، و حقيبتها اليدوية .و ربما وراء خروجها الغريب ، و رغبتها في السفر "بالأطوستوب" ، حكاية لا تقل غرابة ، من وجودها في هذا الوقت ، و في هذا الزمان ، و بهذه الطريقة الغامضة التي تطرح أكثر من سؤال ..

أنفاسفي هذه القرية الجبلية ، الغارقة في محراب الغمام الدائم . المنعزلة عن الرب والهائمة بعشقه . أرواح ساكنيها لاينزلون إلى السفح إلا مرة في السنة بعد جني خراج سخاء الأرض، لتبادل المشروبات الروحية بالجرر أو بعض الألات الموسيقية أو إصلاح عطبها . مشروبات يخيل لسابح في طعمها وعطرها أن فواكهها زرعت في حديقة جنة مصممها أريج خيال وأن عاصرها يد رب عظيم . . حتى عندما ينزلون لايصولون ويجولون في الكلام مع أهل السفح : وحده الحكيم له شرف الكلام .
والغريب ينزلون بأقنعة تخفي أجسامهم ووجوههم . لا أحد من أهل السفح زار القرية الجبلية . سرها المغلق نبع خوف وقلق : من يدخل لايعود إلى السفح بل حتى هذا اليوم الوحيد والذي لايتعدى إلا ثواني لن ينزل وإن كانت له في السفح شجرة من دم وحبل ذكريات .
هي مكتفية بذاتها لها حكيمها وهو من يتشرف بإعداد الأرواح على التيمم بالحروف والماء . لاأحد من أهل السفح يعرف سببا للموسيقى التي تأتي إليهم كندف ثلج وخصوصا عندما ينتصف الليل وكأن القرية الجبلية في عرس دائم . وهذه الموسيقى تجعل نفس المنصت إليها في حالة سكر دون مدام . وهذا يعرقل سير حياتهم ويربك نظام عملهم . البعض من عبيد المصلحة كان ينظر إلى قرية الجبل بعين الغضب والحقد . و البعض منهم يفكر في الإنتقام من أهلها وإجبارهم على النزول وإغراقهم في هموم حياتهم . لهذا السبب هذا اليوم من زيارتهم السنوية أو الحج .فرضوا قانونهم الجديد عدم التبادل والتعامل في السلع وخصوصا الألات الموسيقية مع سكان القرية الجبلية .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة