أنفاسكان يجلس على كرسي بلاستيكي أمام محل بقال الحي ، تمر الفتاة الصغيرة أمامه لتشتري بعض الأغراض ، يتأملها محدقا وعقله مشغول تتقاذفه الأفكار كيف تشاء ، تساءل كيف أمكن لهذه الصبية وهذا الوجه الطفولي أن يثيرا انتباهه بهذا الشكل الملح . التفت إلى البقال يسأله عن هذه الطفلة التي خرجت للتو من المحل بدعوى أنه اكتشف في ملامحها ما جعله يعود إلى الوراء لسنوات مضت ، ليسترجع بعض الصور التي خزنتها ذاكرته ، ولم تصل إليها آثار التعرية وعوامل النسيان . أجابه البقال بأنها ابنة صديقه القديم السيد جابر . لحظتها تراكمت في ذهن صاحبنا صور وذكريات تلاحقت بشكل جنوني لم يستطع أن يوقفها . عادت به الصور إلى سنوات مضت كان يحمل فيها الطفلة وهي صغيرة ، ويضعها في حجره . كانت كلما رأته تناديه : عمي . قال للبقال : أتعلم أن هذه الطفلة كانت صغيرة جدا حين كنت أشتري لها قطع الحلوى . أجابه البقال : يا أخي لقد مرت سنوات طوال ، فإذا كان ما تحدثت عنه دقيقا فإن الأمر يعود على أقل تقدير لأكثر من عشر سنوات .
هاهي تعود إلى محل البائع ، ربما لأنها نسيت شيئا جعلها تضطر للعودة . ناداها ، التفـتت إليه ثم أكملت مسيرتها نحو المتجر ، كرر النداء ، فأطلت برأسها من باب المحل ، تأملته طويلا قبل أن تصرخ : عمي . دنت منه كثيرا : أعذرني لم أكتشف ملامحك في البداية ، فضلا عن أنه مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها ، على فكرة أين كنت طوال هذه السنوات ؟ والله يا عمي ، صدقني ، لقد اعتقد البعض أنك مت خاصة وأن اختفاءك كان مفاجئا وبدون سابق إعلام . 

أنفاسك..ك. كتب
ق..ق.. قراءة
أ..أ..أدب
حـ..حـ.. حساب
ن..ن..نشاط..نحو..نقل
ت..ت..تاريخ..تصريف..تعبير..تفتح..
ع..ع.. عبادات..
ع..ع..عقائد..
ش..ش..شكل..
ل..ل.. لغة..
ج..ج..جغرافية..
ر..ر..رسم
أقول ويعيد الصغار، ثم أعيد ويرددون، وفجأة أظلمت الحجرة التي يدخل أعلب نورها من الباب، كنت وراء الصفوف أتكئ على الجدار الخلفي، أتابع التلاميذ وهو يرددون الكلمات المكتوبة على السبورة السوداء..
وقف يسد الباب بقامته المديدة، بمنكبيه العريضين وجلبابه الأسود الفضفاض، لم بدخل في الوهلة الأولى.. توقف يبحلق بعينيه الواسعتين في أرجاء الحجرة، لم يرني او لم ينتبه لوجودي هنا الى الخلف.. ربما كان ينتظر أن يجد شخصا طويلا عريضا بلباس أنيق، وربطة عنق مزركشة، يبظر اليه، فيحس بالهيبة والاحترام... تقدم قليلا داخل الحجرة وقد أحس بحرية التصرف، بدا لي وكأنه يدخل اصطبلا للبهائم، وتذكرت يوم جاء بي أبي الى المدرسة أول مرة، وقفنا امام مكتب السيد المدير ولما أذن لنا بالدخول، خلع أبي نعليه ووضعهما تحت إبطه، ثم طلب مني أن أفعل مثله، ودخلنا..انتصبنا امام المكتب الخشبي اللامع، وما إن انتبه الينا المدير حتى قام من مكتبه، تقدم من أبي، قدم له كرسيا، وطلب منه باحترام كبير ان يلبس نعليه وأنا كذلك، وسأله لم فعل ذلك.

أنفاسأحس عمر بالفراغ والبرد ففتح دفتي كتاب كبير ملقى على الطاولة واندس فيه.
التقى هناك امرأة تفترش رصيفا باردا وترنو للشارع، خلع معطفه والبسها إياه .ومضى وفي قلبه غصة ممضة حتى شارف صفحة أخرى، استند فيها إلى جدار فوقف قربه رجل ضرير يتضور جوعا ، لم يطلب الرجل من عمر شيئا، نظر عمر لوجهه مليا ثم قاده إلى حانوت في الطرف الآخر واشترى له طعاما بما كان في جيبه من مال.
غفا عمر قليلا ثم وجد نفسه في صفحة أخرى وفيها وجد زنازين كثيرة وطغاة بلا عدد وما خرج من هناك حتى كان قد جرد من كل ملابسه وذاق ألوانا من العذاب ....
مشى مسافة طويلة حتى أخذ منه التعب والجوع تذكر المرأة والرجل الضرير فاستشعر في قلبه غصة ممضة...

أنفاسلم يكن راضياً. ها هي الساعة تقترب من الثامنة، ويكاد اليوم ينتهي، ولم يتجمَّع في علبة الإيراد ما يجلب الرضا. مرَّت عدة أيام على نفس الحال..في الصباح، وهو بطريقه للعمل، يفشل في التقاط أي راكب؛ ليس بسبب ندرة  الركَّاب، ولكن لأن اتجاهاتهم تتعارض مع خط سيره من بيته، في (الورديان)، إلي (الحقَّانية)، في ميدان المنشية، حيث يعمل في وظيفة كتابية، تحتِّم عليه التوقيع بقائمة الحضور، قبل الثامنة والنصف؛ وذلك يجعله يتهرَّب من كل راكب يطلب نقله إلى مكان بعيد، ليتوفَّر له الوقت، للبحث عن مكان يوقف فيه السيارة، بعيداً عن احتمال أن تقع عليها عين زميل، فتفشل محاولات الكتمان، وينتشر الأمر في المحكمة كلها. يأتي خوفه من المساءلة القانونية بالمرتبة الثانية، بعد تطيُّره من نظرات الحسد والحقد وألسنة السوء. لم يروا مكابدة السنوات الطوال، منذ خرج من الجيش، بعد الحرب، يحمل في يده رخصة القيادة (درجة أولى)، ويعمل عند أصحاب السيارات، الذين يشتركون – جميعهم – في اتهامهم الدائم للسائقين بعدم الأمانة في توريد  (الغلَّة)؛ ولن يصدقوا أنه اشتراها بالتقسيط، ولا يمكن أن يتصوروا القلق المميت الذي يقلب كيانه، وأيام الشهر تزحف إلى نهايتها، دون أن تقترب الجنيهات المقتصدَة من الرقم (300)، قيمة القسط الشهري.
  يعلم ويؤمن بأن الله يقسِّم الأرزاق.. وهنا، يجب أن يوجِّه التأنيب إلي نفسه؛ فهو، في حالات كثيرة، كان يركب رأسه، ويصرُّ على أن يحدد خط سيره في شريط الكورنيش، فقط، رافضاً العديد من طلبات التوصيل إلي الأحياء الواقعة في عمق المدينة، أو الضواحي.. السير في شوارع شتاء تلك الأحياء مخاطرة.

أنفاسأي شخصية فذة تلك التي هزّ حُراسها  (البودي غارد) بالرؤوس الحليقة أرجاء المطعم الهاديء في بهو الفندق( الكلاس) ، وكأنه هجوم مسلحٍ أو سطوٍ مفاجيء .. أقام المكان ولم يقعده.. ؟؟
عكّر علينا صفو سماع عازفة البيانو ، رجّ العصير في الجوف وأخرج القلوب الوجلة من بين الضلوع..
احتجت دقائق حتى أرخي أعصابي ، أعيدُ تنظيم دقات قلبي ،ويستقرُ زوغان عيني .. لأدرك ما جرى ومن يكون هذا المُهمّ الجائع الذي سبقه الوفد الشرس ليحتل الطاولات المقاعد والكراسي ..
يُمنع الدخول والخروج من عمالقةٍ، كل واحدٍ  منهم بحجم دب قطبي ، متجهم الوجه
كشيطان غاضب .. يحمل في يده (موبايل) و(توكي وكي) يتحدث بهمس ويتحرك كقرد أجرب ينظر إلى الساعة ويراقب وجوه الحضور .
أصوات مظاهرة صاخبة ، تكتكة الفلاشات تسبق الموكب ، صراخ أنثوي يتوسل ويتسول :  " أرجوووك ، دعني أمرّ .. يااااااي .. واوووووو ..بلييييييييييييييز ..!" .
تأهبٌ ، استعدادْ..  حانت لحظة الصفر ، هاهو (العظيم ) يقترب .. اصطف الحرس على الصفين ، هبّ الجميع.. (هرجٌ ومرجٌ) حتى عازفة البيانو قامت ترحب بالقادم المهيب و...  قيدتُ جسدي بالمقعد حتى لا أطير مع قلبي الذي هرب مني وتدحرج بين القلوب المتزاحمة أمام قدميه ..!!

أنفاسأتجول باحثا بين دروب أسئلة نصوص المدينة ، المغسولة الوجه ، بشيء من ماء الزهر المفقود و طلعة الملح القادم . إليك تشدني  الفراشات البيضاء ، و المشاكسة  في فراغات المعنى المحتمل و العميق عموديا  أقرأها زائرا و مسائلا ..و رافضا  لصورة جدل ، يدخن سجارة في مقهى عقيم . أخترق تفاصيل الحروف المرفوعة الرأس ، و الأخرى المنقسمة الأطراف . يصيبني شيب اللفظ حينا  بحجارة الدلالة المبتورة العين .فأقول لابأس ..، فلتكن بداية هذه السفرة ، عثرة قدم تشعل الضوء في طريقي إلى الأمام .
و حينا آخر ، أجدني واجما ، تعتريني نار الدهشى القصوى .
 و عبر احتراق الدخول السهل ، إلى تلوينات متعة حرف ، يسائل و لا يشكو لسلطان قبيلة الرقمي الفياضة ..،  و بمعية سواعد الأشجار الطالعة ، تحت هذي التكوينات الجارية ، أطرح سؤال البحر الحزين .. و المنتشر غريبا ، بين عطش المد .. ، و رمل الجزر العليل .
هي  ريشة حمراء ، أزرع بها أجمل الأسئلة الفاضحة ، في تربة تدير أكبر مقاولة لبناء الأقنعة ، و ربطات الأعناق الطويلة ، في مدينتي .. تربة شقراء و أنيقة .. ، احتلها القمر الهرم منذ كنت طفلا ، تستهويه اليوم أرجوحة الأجداد ، المشدودين بعمود رمال مخيمة حبلى بالمزيد من الجراح ..

أنفاسمنذ زمان لم أحكِ او أكتبْ شيئاً ذا بالٍ عن هذا اللامع في عتمةٍ وسط الضلوع كشمعةٍ بِعِدَّةِ ذُبالات .
رسمتُ يوماً شمعةً بذُبالةٍ واحدة فلم يُقِنِعْني المنظر !
فعدتُ فقرَّبتُ منها منقارَ بلبلٍ فوجدتُ أنَّ هذا حسنٌ ثم قرَّبتُ منها ورقةً من شجرة تفاحٍ خريفية فكان المنظر كثيرَ الشَّجا , فتمتمتُ قائلاً : لو بقيتَ هكذا أيُّها الوطن رَغم صدى المرارة !
واليوم وقد بدأ الشتاءُ هنا بترتيبِ حقيبتهِ الثلجية متهيِّئاً للرحيل الى موطنه الأصلي خلف السنوات والذكرى , أتذكَّرُ شتاءكَ المُتحلِّقَ حول المواقد وتنانيرِ الأمهات .
أتذكَّر شطراً من قصيدة لشاعر إنكليزي تعلّمناها في المرحلة الإعدادية بصيغة سؤال :
اذا كانت كلُّ الفصول فصلاً واحداً فماذا سيصبح هذا الفصل ؟
وانا أيضاً أسأل نفسي : حقّاً , ماذا سنطلق عليه ؟
أتذكَّرُ هبوط أماسيِّك , لم تكنْ أماسيّ وإنما نجوماً تجلس على أَسِرَّةٍ بَريَّةٍ وتَقطرُ الضياءَ كالقُبَل على أفواه الينابيع !
كانت دموعنا تمنح الصيفَ حرارتَهُ وتمنح الخريفَ معنى الراحة بعد العمل المثمر وتمنح الربيعَ فرحَ الولادة واخضرارَ النسائم .

أنفاسكـان يـمـسـك رأسـه بـيـن كـفـيـه ويـسـائـل نـفـسـه عـن سـبـب هـذه الـمـحـنـة الـتـي تـمـر بـه وكـأنـهـا عـاصـفـة هـوجـاء ، كـان مـن حـيـن إلـى حـيـن يـرفـع صـوتـه بـشـكـل مـفـاجـئ " تـفـو" يـصـاحـب صـوتـه ضـرب شـديـد عـلى الـطـاولـة الـمـوضـوعـة أمـامـه فـي الـمـقـهـى . لـقـد سـبـق لأصـدقـائـه الـمـقـربـيـن أن نـبـهـوه إلـى ضـرورة الـتـوقـف عـن هـذه الـحـمـاقـات خـاصـة وأنـه لـم يـعـد صـغـيـرا كـمـا أن الـفـتـاة الـتـي بـدأ يـلاحـقـهـا هـنـا وهـنـاك تـصـغـره بـأكـثـر مـن ثـلاثـيـن عـامـا ، هـي ابـنـة الـثـمـانـيـة عـشـر ربـيـعـا أمـا هـو فـقـد تجـاوز الـخـمـسـيـن مـنـذ فـتـرة لا بـأس بـهـا . إن أكـثــر مـا كـان يـؤلـمـه ويـحـز فـي نـفـسـه هـو هـذا الـتـغـيـر الـمـفـاجـئ فـي شـخـصـيـتـه وفـكـره ، خـاصـة وهـو الـشـخـص الـذي تـعـود أن يـأخـذ كـل أمـوره مـأخـذا جـادا عـقـلانـيـا ، مـحـلـلا ومـقـايـسـا ومـوازنـا . لـم يـكـن للـعـاطـفـة حـيـز يـذكـر فـي قـراراتـه وتـصـرفـاتـه ، بـل يـمـكـن الـقـول بـأن الأمـور الـعـاطـفـيـة لـم تـكـن ضـمـن بـرامـجـه بـلـه أن تـكـون مـن ضـمـن أولـويـاتـه . الـعـقـل ـ ولا شـيء غـيـر الـعـقـل ـ كـان سـيـد مـواقـفـه وتـصـرفـاتـه ، وحـركـاتـه وسـكـنـاتـه . لـكـنـه هـذه الـمـرة أحـس بـأنـه لـم يـعـد يـمـلك إرادتـه كـمـا لـم يـعـد يـتـحـكـم فـي خـيـاراتـه . كـانـت الأحـاسـيـس تـقـذف بـه مـن لـجـة إلـى أخـرى مـنـذ أن لـمـح تـلك الـفـتـاة الـغـضـة الـطـريـة ... اللـيـنـة الـمـلـيـئـة بـالـحـيـاة .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة