ليلة السبت ياسمينة في درب الأسبوع المقفر وهذه ضحكة آخر النهار تنحسر، فتنشفها العيون الحسيرة بما تبقى من لهفة التجلي، أجساد متداعية ترتجل الخطو نحو صناديق الضجيج والسمر الجائع.. تمر بمحاذاة المستشفى المنبوذ وراء البوابة الحديدية ذات اللون البرتقالي ، وهي تشاكس الجدران المشرئبة بذؤاباتها الحمراء لتودع ايقونة النهار الشتوي الراحل، أفواه يابسة تتبادل التحايا رخوة ناصلة، تبتسم قليلا ثم تنكمش كثيرا. والطريق الرمادية غارقة في صمتها السري، تبتلع الخطوات دونما توقف.
-سأسهر الليلة حتى تجحظ عيناي وتندلقا من محجريهما. سأنتشي بالنسيان الدبق لأطرد عني شياطين القنوط في هذه المناسبة على الأقل.
هذه المرة ذرع إدريس غرفته الضيقة في اتجاه الشرفة. أطل فوقفت عيناه – كالعادة- على بواب المستشفى وهو منشغل هذه المرة . نظر يمنة فبدت له المقهى فاترة، شاغرة المقاعد الخارجية. شعر بأن دماغه مرهقة فعاد إلى الكرسي. استلقى فوقه وأمسك رأسه بين كفيه:
-الليلة أدهش السماء بخفتي اللبلابية. وحين يخلو الدرب، سأردد بصوت مرتفع تلك اللازمة الأمازيغية الأسيانة "توقف عن النواح أيها الباكي. إنك تذكرني بمن تعلق القلب آه، كما طال انتظاري إياك أيتها الليلة الحرامية..
فتح إدريس الكتاب: "حاء، زاي، نون. تتعقبك آلاف الشجون ..." أغلقه بتشنج:
-أي طالع سوء هذا؟
عاود فتح الكتاب في صفحة أخرى ولما قطع سندباد من رحلته ما قطع، لم يشعر إلا وقدماه تسوخان في وحل لا هو بأحمر اللون ولا هو بقرنفلي. حاول أن يستحلب أوابد تجاريه الفذة ، لكن النهاية لم تمهله، فامتصته وهو على عتبة الاستحلاب ..." صفق الكتاب بين يديه حين ضرب إحدى دفتيه بالأخرى وهو يرتجف:
-أبهذه البساطة تتنكر لك الإشراقات يا سندباد؟ كلا، لن أصدق أن انتهيت. لا أريد أن أصدق رغم أني رأيتك تمتد بديك المرتعشتين إلى السماك تماسك تمسك بالنجوم التي شهدت مغامراتك الغريبة، فإذا بهما ترتطمان بالمدارات الرعناء. لم تنثن على الصمود، فطاوعت النهاية وأنت تبتسم ألست النهاية بهذا الشكل مغامرة يا سندباد؟ لكني سمعت صوتك المتموج يتناهي إلى مسمعي من تحت الوحل قائلا: "إنك لم تلامس دفء الماء ولم تصافح وشم الأسماء" . ولم أصد أذني وهما تستقبلان نشيجك غير المتوقع . إنه ينمو صوتا باكيا ..لا، لم يكن ذلك هينا. وبكيت معك، لأن البكاء يغسل القلب ويخفف الألم. قلت لك: إرفق بنفسك العزيزة يا فتى القرى القصية في انتظار أن تطلع الشمس فيصير الوحل يابسا. قلت لك: إن اللبلاب لا يعرف الانكفاء.. وإذا كنت قد عقدت العزم على الغياب فألهمني الجرأة وظمأ المغامرة . زودني ولو بالقليل من تهوراتك النبيلة.
دخل إدريس الحانة، فاستقبله عمر بوجه بشوش:
-طال غيابك هذه المرة إدريس.
-مساء الخير أولا يا عمر.
-لقد هزلت بشكل غريب. ألم تلائمك ظروف المدينة؟
-كيف أجيبك؟ ولو وضعوني في أجمل مدينة في العالم، أتظنني أمتلي لحما؟
-عرفت إذن. تلك هي البداية دائما . عوز وتعب وغربة. لا تهلك نفسك بالهم. إن إلا أيام معدودة وتسوى وضعيتك المادية.
-وحتى إذا سويت.. أتظن أني سأكون سعيدا؟ من يسد الديون التي تراكمت علي منذ مجيئي إلى هنا؟ من يتكفل بتمويل الأسرة بعدما أحيل الوالد على المعاش؟ ناولني الكأس عساني أنسى بعض الشقاء...
ظل إدريس يشرب، عمر يمده بالكؤوس المكللة بفقاعات البيرة. تصل الموسيقى إلى أذنيه هلامية متلكئة في انسيابها الأبهى . اختلط الدخان بالأضواء، بالحديث برنين الكؤوس والقنينات. فبدت الحانة قبة محلقة تقلها كف شهرزاد لتنسج حولها حكاية الصباح. تحركت فيه خرافة اللبلاب، فالتفت إدريس إلى الرواد وصاح بنبرة تغالب امذلال لسانه:
-لعنة الله عليكم جميعا...
وغرق في ضحكة مجلجلة. نزل للتو، من فوق الكرسي العالي ذي القاعدة الثلاثية القوائم. مشى بخيلاء بعض الخطوات. كاد يسقط لولا أن يدا أمسكت بياقة معطفه من الخلف، تسللت نطفة خوف إلى قلبه. وما إن استدار بوجهه حتى كانت قبضة بشعة قد اخترقته . هوى على إثرها راعفا وقرأ في كتاب اللبلاب : "ألف لام ميم . قد كنت في أحسن تقويم ، ثم ردتني البيرة أسفل سافلين ..." حدق بعينيه إلى السقف وقد فاض عليه النور الأصفر المضبب، فبدا له قبسا أجوف بلا قرار، بلا تخوم. حطت ظلمة خفيفة على حدقتيه، ثم نطت على جفنيه واستقرت أخيرا في بؤبؤيه. "حاء. زاي. نون ... تتعقبك آلاف الشجون . تستدرجك أجسادك المتخاصمة إلى الانسحاب، فتتعلق بخاصرتك أقداح البيرة الملعونة. تخونك خرافتك وعروش اللبلاب المجنونة. وتبدو ليلة السبت صبارا في الأسبوع الوردي. كم هي مالحة هذه الليلة .. كم هي مالحة..."
ذرع ادريس عرفته الضيقة في اتجاه الشرفة. أطل. فوقعت عيناه- كالعادة- على البواب وهو منتشر فوق كرسيه العتيق ومسندا ظهره إلى العمود الإسمنتي الحديث البناء . يبدد بحجارة وحشية الليل الشحيح. تراجع إلى الخلف وهو يحدق في الليل المنتصب خلف الشرفة كخيمة فاحمة السوداء. ارتمى على السرير. إنه متعب وجائع . عيناه المسمرتان في السقف تغفوان شيئا فشيئا. يكبر الصبار، يبكي السندباد، يتضاءل الصندوق ويمتد الجوع. ينتفض اللبلاب، يفرخ عروشا طويلة. تنحي الشرفة فتقفر العروش اللبلابية إلى وسط الدرب وهي تردد تلك اللازمة الأمازيغبة الأسيانة "توقف عن النواح أيها الباكي. إنك تذكرني بمن تعلق القلب."
محمد عياش - خنيفرة
-أبهذه البساطة تتنكر لك الإشراقات يا سندباد؟ كلا، لن أصدق أن انتهيت. لا أريد أن أصدق رغم أني رأيتك تمتد بديك المرتعشتين إلى السماك تماسك تمسك بالنجوم التي شهدت مغامراتك الغريبة، فإذا بهما ترتطمان بالمدارات الرعناء. لم تنثن على الصمود، فطاوعت النهاية وأنت تبتسم ألست النهاية بهذا الشكل مغامرة يا سندباد؟ لكني سمعت صوتك المتموج يتناهي إلى مسمعي من تحت الوحل قائلا: "إنك لم تلامس دفء الماء ولم تصافح وشم الأسماء" . ولم أصد أذني وهما تستقبلان نشيجك غير المتوقع . إنه ينمو صوتا باكيا ..لا، لم يكن ذلك هينا. وبكيت معك، لأن البكاء يغسل القلب ويخفف الألم. قلت لك: إرفق بنفسك العزيزة يا فتى القرى القصية في انتظار أن تطلع الشمس فيصير الوحل يابسا. قلت لك: إن اللبلاب لا يعرف الانكفاء.. وإذا كنت قد عقدت العزم على الغياب فألهمني الجرأة وظمأ المغامرة . زودني ولو بالقليل من تهوراتك النبيلة.
دخل إدريس الحانة، فاستقبله عمر بوجه بشوش:
-طال غيابك هذه المرة إدريس.
-مساء الخير أولا يا عمر.
-لقد هزلت بشكل غريب. ألم تلائمك ظروف المدينة؟
-كيف أجيبك؟ ولو وضعوني في أجمل مدينة في العالم، أتظنني أمتلي لحما؟
-عرفت إذن. تلك هي البداية دائما . عوز وتعب وغربة. لا تهلك نفسك بالهم. إن إلا أيام معدودة وتسوى وضعيتك المادية.
-وحتى إذا سويت.. أتظن أني سأكون سعيدا؟ من يسد الديون التي تراكمت علي منذ مجيئي إلى هنا؟ من يتكفل بتمويل الأسرة بعدما أحيل الوالد على المعاش؟ ناولني الكأس عساني أنسى بعض الشقاء...
ظل إدريس يشرب، عمر يمده بالكؤوس المكللة بفقاعات البيرة. تصل الموسيقى إلى أذنيه هلامية متلكئة في انسيابها الأبهى . اختلط الدخان بالأضواء، بالحديث برنين الكؤوس والقنينات. فبدت الحانة قبة محلقة تقلها كف شهرزاد لتنسج حولها حكاية الصباح. تحركت فيه خرافة اللبلاب، فالتفت إدريس إلى الرواد وصاح بنبرة تغالب امذلال لسانه:
-لعنة الله عليكم جميعا...
وغرق في ضحكة مجلجلة. نزل للتو، من فوق الكرسي العالي ذي القاعدة الثلاثية القوائم. مشى بخيلاء بعض الخطوات. كاد يسقط لولا أن يدا أمسكت بياقة معطفه من الخلف، تسللت نطفة خوف إلى قلبه. وما إن استدار بوجهه حتى كانت قبضة بشعة قد اخترقته . هوى على إثرها راعفا وقرأ في كتاب اللبلاب : "ألف لام ميم . قد كنت في أحسن تقويم ، ثم ردتني البيرة أسفل سافلين ..." حدق بعينيه إلى السقف وقد فاض عليه النور الأصفر المضبب، فبدا له قبسا أجوف بلا قرار، بلا تخوم. حطت ظلمة خفيفة على حدقتيه، ثم نطت على جفنيه واستقرت أخيرا في بؤبؤيه. "حاء. زاي. نون ... تتعقبك آلاف الشجون . تستدرجك أجسادك المتخاصمة إلى الانسحاب، فتتعلق بخاصرتك أقداح البيرة الملعونة. تخونك خرافتك وعروش اللبلاب المجنونة. وتبدو ليلة السبت صبارا في الأسبوع الوردي. كم هي مالحة هذه الليلة .. كم هي مالحة..."
ذرع ادريس عرفته الضيقة في اتجاه الشرفة. أطل. فوقعت عيناه- كالعادة- على البواب وهو منتشر فوق كرسيه العتيق ومسندا ظهره إلى العمود الإسمنتي الحديث البناء . يبدد بحجارة وحشية الليل الشحيح. تراجع إلى الخلف وهو يحدق في الليل المنتصب خلف الشرفة كخيمة فاحمة السوداء. ارتمى على السرير. إنه متعب وجائع . عيناه المسمرتان في السقف تغفوان شيئا فشيئا. يكبر الصبار، يبكي السندباد، يتضاءل الصندوق ويمتد الجوع. ينتفض اللبلاب، يفرخ عروشا طويلة. تنحي الشرفة فتقفر العروش اللبلابية إلى وسط الدرب وهي تردد تلك اللازمة الأمازيغبة الأسيانة "توقف عن النواح أيها الباكي. إنك تذكرني بمن تعلق القلب."
محمد عياش - خنيفرة