هبت نسمات الصبح الأولى ، مؤذنة باشراقة يوم جديد . هناك ، على عتبة بيته القديم ، كان إدريس يقف كعادته منتظرا تربع الشمس في كبد السماء ، لتصبغ سماءه العلوية بلون وردي مصقول بالذهب .
وغير بعيد ، تراءت له الجبال بوجهها الشاحب ، وقد صممت على الشموخ وتحدي الصعاب ، ولد المنظر في قلب إدريس إحساسا بضعف بشري مسيطر ، أطلق إثره تنهيدة مدوية آتية من الأعماق .
آه......ما أضعفني ..ما أشد خيبتي..كيف يمكن لهذا الجبل الجاهل أن يبقى راسخا وهو الذي لم يتلق درسا عن الصبر والشموخ وعزة النفس ؟
كان الجميع في القرية يتحدث عن فشل إدريس ، وتصميمه الأزلي على الهجرة إلى المجهول ، رغم إصرار أبيه الحاج علي على بقائه إلى جانبه للاعتناء بهكتارين من الأرض طالما فجرا جدالا حادا بين الطرفين يصل أحيانا حد الخصام ، فالأب يشم خلال الهكتارين رائحة الأجداد وعبق الماضي ، بينما يرى الابن في بيعهما حلا لا محيد عنه لكل هواجسه المادية ، ولم لا .وهو الشاب المثقف المتخرج قديما من كبرى جامعات البلاد ، دون أن يشفع له ذلك في الظفر بوظيفة تحقق له أدنى التطلعات .
خطا إدريس خطوتين أمام الباب ، ثم جلس على كرسي من القش ، أجال بصره في المكان ، أثارته زقزقة عصافير ملحاحة تحوم حول بعض الكروم ونباتات الصبار المحيطة بالكوخ.
لم ينبس ببنت شفة ، ظل واجما ، وقد استولى عليه إحساس بالقلق والرهبة عندما فكر في الأربعين عاما التي مرت عليه وهو يثقل هذه الأرض المعطاء بلا جدواه ، دون أن يحس لحظة واحدة بأنه رجل مفيد .
تيقنت الآن ..نعم هذا أكيد ... إن قلبي يراوغني ألم يمنني ويخدعني بالأوهام والأحلام طيلة هذه السنوات العجاف ؟
يا لبؤس الحياة .....لابد أن أسافر ...أن أهاجر..أن أرحل..أن أموت حتى .
قال هذه الكلمات ويداه ترتجفان من التأثر ، أو من القلق...لا أدري أي إحساس انتابه في تلك اللحظة ، بعدها اغرورقت عيناه بدمعتين رقراقتين نفضتا الرماد عن جذوة ذكريات أليمة ظلت محبوسة في الأعماق .
لم يكن إدريس بحاجة لأن يدرك أن سنوات كده وتحصيله ذهبت هباء ، وابن قريته هشام – الذي أكمل بالكاد تعليمه الابتدائي – كان أوفر منه حظا ، فقد هداه بعد نظره إلى مغادرة صفوف الدراسة مبكرا ، ليستقل أول مركب متوجه سرا إلى ايطاليا ، وبعد سنتين مرتا كالبرق ، عاد بسيارة فارهة أثارت النقع بالقرية ، لتزيل في الأذهان صورة هشام الكسول .
من لحظة الرفض هذه ، بدأ زمن إدريس الزاهي والدموي يلوح في الآفاق ، فقد قرر تنفيذ مخططه القديم الجديد،
أو ليس الحالمون بالفردوس أكثر من أن تتسع لهم بطون الحيتان وأعماق المحيط ؟
كان إدريس متأكدا من أن نجاحه في العبور ، لا يعني النعيم البتة ، ولكن إيمانه بأن زمنه في بلده قد ضاع ، ولابد أن يفتح بابا لزمن جديد في مكان جديد ، لابد أن يسافر في مجرى الزمن المتدفق .
لم يقنع إدريس بمهادنة أبيه المستكينة ، بل ظل يردد ..لا.. لا.. ليس أقل من الانتصار أو الهزيمة بشرف .
تقدم بخطوات متسارعة إلى الداخل ، وتوجه إلى ركن قصي من أركان غرفته الكئيبة ،أخذ أغراضه البسيطة التي كانت مستعدة للإقلاع منذ شهور .
رمق القرية بنظرة حزينة ، ودعها في صمت كأنه أحس أنه ماش في طريق اللاعودة ، واصل المسير قبل أن يلحظ الفضوليون مغادرته ، لم يكن ثمة عرض أفضل مما ينوي القيام به .
ولأن وقت التراجع قد فات ، فقد ازدادت إرادة إدريس رسوخا ، خاصة وأنه اختصر تصوره لهدفه في الحياة في شيء واحد دون سواه ...المال...ذلك المحرك الكوني لزمننا المعاصر ، وليس هذا الاختصار وليد قصر فهم ولكنه إدراك يقيني بأن تحقيق الأهداف المثالية من أشق الأمور .
سرى خبر رحيل إدريس بين الناس سريان النار في الهشيم ، وبدأ الأهالي يحيطونه منذ الآن بالتبجيل الذي يصل أحيانا مرتبة القداسة .
إن هشاما آخر سيحل بين ظهرانينا بعد سنتين ، محملا بخيرات الغرب ونعم بلاد العجم .
مضى شهران عن رحيل إدريس كأنهما يومان ، وذات صباح طرق شيخ البلد باب الحاج علي ، حاملا إليه خبر ابتلاع اليم لجثة ابنه إدريس، مع ثلة من الحالمين الواهمين بالنعيم المفقود .
صمت الأب قليلا ، ثم رفع يديه إلى السماء طالبا المغفرة لابنه ، أغلق باب كوخه ولسان حاله يقول : نم يا عزيزي في رقدتك الأبدية...صحيح أنك لم تنتصر ولكنك انهزمت بشرف .
أحمد السبكي الدشيرة المغرب
تيقنت الآن ..نعم هذا أكيد ... إن قلبي يراوغني ألم يمنني ويخدعني بالأوهام والأحلام طيلة هذه السنوات العجاف ؟
يا لبؤس الحياة .....لابد أن أسافر ...أن أهاجر..أن أرحل..أن أموت حتى .
قال هذه الكلمات ويداه ترتجفان من التأثر ، أو من القلق...لا أدري أي إحساس انتابه في تلك اللحظة ، بعدها اغرورقت عيناه بدمعتين رقراقتين نفضتا الرماد عن جذوة ذكريات أليمة ظلت محبوسة في الأعماق .
لم يكن إدريس بحاجة لأن يدرك أن سنوات كده وتحصيله ذهبت هباء ، وابن قريته هشام – الذي أكمل بالكاد تعليمه الابتدائي – كان أوفر منه حظا ، فقد هداه بعد نظره إلى مغادرة صفوف الدراسة مبكرا ، ليستقل أول مركب متوجه سرا إلى ايطاليا ، وبعد سنتين مرتا كالبرق ، عاد بسيارة فارهة أثارت النقع بالقرية ، لتزيل في الأذهان صورة هشام الكسول .
من لحظة الرفض هذه ، بدأ زمن إدريس الزاهي والدموي يلوح في الآفاق ، فقد قرر تنفيذ مخططه القديم الجديد،
أو ليس الحالمون بالفردوس أكثر من أن تتسع لهم بطون الحيتان وأعماق المحيط ؟
كان إدريس متأكدا من أن نجاحه في العبور ، لا يعني النعيم البتة ، ولكن إيمانه بأن زمنه في بلده قد ضاع ، ولابد أن يفتح بابا لزمن جديد في مكان جديد ، لابد أن يسافر في مجرى الزمن المتدفق .
لم يقنع إدريس بمهادنة أبيه المستكينة ، بل ظل يردد ..لا.. لا.. ليس أقل من الانتصار أو الهزيمة بشرف .
تقدم بخطوات متسارعة إلى الداخل ، وتوجه إلى ركن قصي من أركان غرفته الكئيبة ،أخذ أغراضه البسيطة التي كانت مستعدة للإقلاع منذ شهور .
رمق القرية بنظرة حزينة ، ودعها في صمت كأنه أحس أنه ماش في طريق اللاعودة ، واصل المسير قبل أن يلحظ الفضوليون مغادرته ، لم يكن ثمة عرض أفضل مما ينوي القيام به .
ولأن وقت التراجع قد فات ، فقد ازدادت إرادة إدريس رسوخا ، خاصة وأنه اختصر تصوره لهدفه في الحياة في شيء واحد دون سواه ...المال...ذلك المحرك الكوني لزمننا المعاصر ، وليس هذا الاختصار وليد قصر فهم ولكنه إدراك يقيني بأن تحقيق الأهداف المثالية من أشق الأمور .
سرى خبر رحيل إدريس بين الناس سريان النار في الهشيم ، وبدأ الأهالي يحيطونه منذ الآن بالتبجيل الذي يصل أحيانا مرتبة القداسة .
إن هشاما آخر سيحل بين ظهرانينا بعد سنتين ، محملا بخيرات الغرب ونعم بلاد العجم .
مضى شهران عن رحيل إدريس كأنهما يومان ، وذات صباح طرق شيخ البلد باب الحاج علي ، حاملا إليه خبر ابتلاع اليم لجثة ابنه إدريس، مع ثلة من الحالمين الواهمين بالنعيم المفقود .
صمت الأب قليلا ، ثم رفع يديه إلى السماء طالبا المغفرة لابنه ، أغلق باب كوخه ولسان حاله يقول : نم يا عزيزي في رقدتك الأبدية...صحيح أنك لم تنتصر ولكنك انهزمت بشرف .
أحمد السبكي الدشيرة المغرب