نمت وأنا أتمنى لو أنهض فأجد نفسي في عالم آخر ، لا يوجد فيه أي صوت إلا الأصوات التي أودعها الله في مخلوقاته عند خلقها ، حفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، وصفير الرياح تحمل الأتربة وتنثر الغبار ، وصوت البراح يتجول في الأسواق بصوته ذي البحة ، يبشر بالمواليد وينعى انطفاء الأعمار ، يرد عليه مغني السوق يروي قصة الإنسان أيام كان إنسانا ،يسكب روحه خالصة في مقطوعات، تتعانق فيها الأجيال تسمى أشعار تتراقص مواويلا تبكيها الأوتار.
ونمت، يا حافظ يا ستار ؛ نمت وأنا أدعو: اللهم استرنا من الخافيات و المخفيات ،ومن المنافقين والمنافقات، و من البارزين من تحت الأرض والبارزات، ومن النازلين من السماء والنازلات ، واسترنا من القياد وأتباع القياد و عبدة السادة والأسياد ، وممن شابههم من أبناء الحرام وأراذل العباد.
نمت وما نمت ، وإذا بالباب يدفع ، ويدخل منه القايد ببرنوسه الأحمر على حصانه الأشقر ؛ تتبعه محلته ذليلة مهرولة، أخذت تصطف وتلتف حولي حتى أحاطت بي من جميع الجهات وأغلقت الحلقة،وقدمت لي القايد بصوت واحد متجانس متناسق: أيها الأبله هذا الزعيم ،الشهم الكريم ،سيد بالأمس سيد اليوم ، بهذا شهدت الأمة وأقر القوم ، وأنت تتعوذ منه دوما قبل أن تخلد للنوم ، وتتناسى أن تلهج باسمه .
قال الزعيم: ماذا ترى؟
قال انظر ما أفعل : وشرع يخطب أنا الزعيم ،الشهم الكريم ،سيدكم بالأمس سيدكم اليوم ، بهذا شهدت الأمة وأقر القوم...
وبقدر قادر تحول الجند إلى جزر أحمر.
قال الزعيم: ماذا ترى؟
قلت: أرى جزرا أحمر متناثرا، لكنه كان قبل قليل بشرا.
قال : اهتف باسمي ، بسلطاني ، بعزتي أيها المسكين.
قلت : لم أبع بعد نفسي لأي لعين.
فتوجه نحوي وأمرني : قم.
ولما قمت و استويت واقفا أمامه، وقف جميع الجزر كل جزرة في مكانها محنية رأسها إجلالا للزعيم تسبح : يا سيدنا ، يا ولي نعمتنا ،من والاك نجا ، ومن عداك هلك، لك فينا ما لصاحب الملك فيما ملك.
- ألا ترى أن الحدث غريب والمنظر عجيب ، أيها المسكين.
قلت : لم أبع بعد نفسي لأي لعين.
قال : ستتحول إلي جزرة الآن، وبدأ يخطب خطبة عنوانها " خطاب للأمة بمناسبة عيد استقلالها" فقال:
- "إيماني ومبدئي هو عش جبانا تمت سليم الجسد، محفوظ الأهل وافي العدد، عش منافقا تمت غنيا ثريا محبوبا مرغوبا فيك ، ، سمني النذل ، سمني كما أبدو لك العدل، لا شيء أو الكل ؛ سمني مفرق أو جامع الشمل ، الصعب ،أو السهل ، فثورتك البادية في سخطك– أيها المسكين-اعتراض القبرة طريق الفيل وواصل:
-أنا لا أموت، أصنع التاريخ ، قد أتحول،قد أتجول تجدني هنا ، تجدني هناك، أغير اسمي ، صفتي لكني أنا هو أنا. وها أنت ترى ما أعطتني الخيانة، والجبن، والنفاق: السلطة والجاه،المال والتحكم في رقاب العتاة من الحمر و الجزر والبقر."
ورحت أتحول تحت إلى جزرة ، حتى صرت كبقية الجزر المتناثر ألذي يملأ القاعة.
أشار إلي الزعيم بإصبعه : قم
وقفت، أمسكني، وغطسني في إناء به ماء ، غسلني، القاني عاريا في القاعة، ثم حملني ووضعني فوق خشبة التقطيع و قال :
لا بد أن أطلع على كل ما بداخلك ، وأن أعرف سر اللهب فيك؛ فقطعني بسرعة وبراعة الحاذق بفن التقطيع والترقيع إلى دوائر وحلقات، وبحركة بارعة نثرني في القاعة.
انفجر الجزر المتناثر ضاحكا متشفيا، ابتسم الزعيم مزهوا ببراعته في تقطيع الأوصال وبعد برهة غابت الابتسامة وصرخ: قم ، فتنادت أجزائي ، واجتمعت دوائري وحلقاتي المقطوعة المبعثرة بسرعة وعاد كل جزء مني إلى مكانه حتى صرت جزرة كاملة كما كنت تماما ، وابتسم الزعيم مزهوا ببراعته في تفريق و جمع الأوصال وصفق.
تحركت جموع الجزر، تلولبت حول نفسها ؛وانتصبت على مؤخراتها ، وراحت ترقص في جنون،تهتف بحياة الزعيم، وبإشارة منه تحولت إلى خناجر ، وسكاكين تقف على مقابضها ، وانخرطت في الرقص بحماس وحمية أكبر، والزعيم وسطها يمارس طقوسه وسلطانه ، وقد لبس حذاء جلديا ينبئك مظهره أنه مقاتل شرس، يحمي التاريخ، و يدافع عن الوطن والشرف ،له مواقف يعكس صلابتها الحذاء .
صفق الزعيم ؛ توقف كل شيء ، فابتسم مزهوا ببراعته في تفريق الأوصال وجمعها .
أقبل نحوي - وقد صار أكثر حنقا- يقطعني دوائر وحلقات بسرعة وبراعة؛ لأني كنت الجزرة الوحيدة التي أبت أن ترقص، يرميني، ينثرني في عرض القاعة وطولها، يبتسم مزهوا بسطوته، يأمرني قم فتجتمع أجزائي.
صرت الآن أكثر وعيا بمأساتي، أمرني: قم .
أفقت ، نهضت، أمتطيت جنون وعي وحيدا في جوف الظلام القاتم؛ صرخت بأعلى صوتي:
أيها الزعيم، أيها المبجل اللئيم، أيها اللعين، ما أنت إلا حلم لا سلطان لك إلا على النائمين، أيها اللئيم ، لا أنا جزرة ؛ ولا أنا سكين ، ،نعم أنا إنسان ، مهمش ؛ ضعيف ، مسكين، لكنني صلب عنيد، خلق كريم ثمين، لا يصدأ ، لا ينثني ولا يلين ..
وهداني سنا الشرق نحو النافذة فمددت يدي وفتحتها ، فتسلل النور و أضاء الغرفة ،
و تأكدت أني وحيد .
الضيف حمراوي