جلس على كرسيه الجلدي المعتاد ، في ركن بعيد عن شاشة التلفاز المسطحة و المعلقة بين فكي جدار سميك ، تشد إلى ألوانها و حركات صورها ، أبصار الكثير من الرجال المختلفة أعمارهم ، ينتظرون في خضم تفاعل أدخنة السجائر الرخيصة ، بدء مقابلة في كرة القدم ..ربما قد تكون مباراة للفريق الوطني .. لم أكن أدري و لا أهتم بتاتا ، بهذه اللعبة إلا من باب استحضار سحر قواعد اللعب التي يخضع لها عشاق هذه اللعبة المسماة "شعبية" ، لأنها بالفعل صممت لتخاطب الفئة الواسعة من الشعب ، التي كان من المفترض أن تنفض عنها الغبار الكثيف العالق بأبصارهم ، و تكسر قيد خوفهم المٌتقًن من ركوب سفينة نوح ..
شرع في كتابة ما يلي :
( هم ليسوا نحن . لا علاقة تذكر بينهم و بيننا ، سوى علاقة التضليل ، و التفنن في إبداع المزيد من وسائل التزييف و القمع و الإقصاء ، بشتى أنواعه و روائحه ، في عهد جميل ، بالصراخ الحالم ، الذي كان صمتا في الأمس القريب ، و الذي كثيرا ما تغنوا فيه بالكلمات الرنانة ، و أعلنوا على العديد من منصاتهم المتحركة ، في خطبهم الرسمية ، عن ولادة جديدة و نوعية ، لزمن مختلف بحداثته المصنوعة من قصب السكر ..
هم قلة ..، لكنهم أقوياء بصمتنا ، المغسول بسائل أسود يخفي أكثر مما يبوح ..، . أما نحن فكثر كحبات الحصى المحاصرة ، داخل زنزانة غياب مد الموج الهائل ، لا يهمنا أن نرى غير أخطائنا . . و هي بالضرورة أخطاء الآخرين من قبلنا ، تعودنا تسميتهم بالآباء و الأجداد .. و السلف المبتور العين ..أعيانا الركض الخاسر وراءهم .. و الآن لا اتباع بعد اليوم ، سواء كانوا سلفا أو خلفا ..
يقال أنهم أحسنوا التصرف ، و قاموا بما ينبغي القيام به .. لا مجال للشك في معطيات التاريخ ، حسب الرواية الأولى ، رغم أنهم استسلموا في الأخير للحاكم الجديد ، الذي هاجمهم مستعملا جميع الأسلحة ، أسلحة المكر و الدهاء و التجويع ، ثم الضرب بالحديد على الأيدي البصيرة ، و السواعد الحية .. ، إلا أنهم ، كما جاء في الرواية الثانية ، تحسب لهم مزية مهمة ، هي مقاومة الأجنبي ، يدعى بيير ، و الذي جاء مع العديد من أفراد عائلته ، للإقامة في أرض واسعة ادعى مع بعض رموز السلطة ، التي حاولت دعمه و الوقوف إلى جانبه ، أنه ( جاء عندكم لمساعدتنا و التعاون معنا ، لإعادة الحياة إلى هذه الأرض القاحلة ، ليقيم عليها ضيعة و مصنعا للجبن ، و أرضنا هذه ( أشار إلى التراب بيده اليمنى ) ، كما ترون ، ماضية في الموت البطيء و الاحتضار لا محالة . إن هذا الرجل ، يا سادتي ، غيمة حبلى بكل الخير من السماء ، بخبرته و علمه، إن شاء الله ، سيحول يبس هذا التراب المشقوق إلى جنة خضراء .. ما عليكم إلا أن ترحبوا به ، و تكرموه إكرام الضيف ، حتى يتشجع ، لينجح في هذه المهمة الصعبة ، التي أتى من أجلها . )
لم يتمكن العديد من الرجال و الشبان الواقفين ، بلباسهم التقليدي الطويل ، والقبعات على رؤوسهم ، يتابعون كلام " شيخ " قبيلة أيت محند ، من فهم و استيعاب ماذا يقصد هذا "الشيخ" ، الذي بعثه "المخزن" إليهم بقوله أن الرجل الأشقر ، الواقف أمامهم بابتسامته العريضة و المصطنعة ، و الذي ترافقه إمرأة شقراء كذلك ( كانت تراقب مشاهد ما يجري بين سكان المنطقة و الثنائي الشيخ و الرجل الأجنبي "بيير" ، من نافذة سيارة سوداء اللون ، من نوع "كاتكات" ) إنهم لم يفهموا لماذا جاء هذا الأجنبي لمساعدتهم ، و إنقاذ أرضهم من الموت المحقق ..؟؟ ، و لماذا اختار منطقتهم دون غيرها من مناطق الدنيا ..، في حين يمكن للدولة أن تحل مشكلة الجفاف هذه ، و تقوم بإنقاذ منطقتهم من ( الموت) المتحدث عنه .. غير أن الشيخ الوسيط ، و الجسر الرمادي ، الذي أريد له أن تمر عليه أقدام الأجنبي الأشقر ، لم ينه خطبته الطويلة ، و البليغة .. بخبثه و مرارته المكشوفة النوايا ، حتى أمطروه بوابل من الحجارة ، التي تساقطت عليه و على صاحبه من جميع الجهات ، حيث ينتظر و يزمجر جمهور سكان القرية غاضبا .. أما الأجنبي فقد قفز ، كالضبي إلى سيارته الفخمة، إلى جانب المرأة المفزوعة ، التي كانت داخل السيارة ، لتنطلق هذه الأخيرة كالسهم الجائع ..، مخلفة وراءها عاصفة من الغبار الكثيف ، امتدت صاعدة إلى السماء ، في حين أصيب الشيخ الملقى على الأرض ، إصابات خطيرة في رأسه ، حمل في الحين ، من طرف أفراد من عائلته إلى أقرب مستوصف من مكان الواقعة . . ) .
توقف الكاتب عن الكتابة فجأة .على إثر سماعه لقنينة زجاجية انكسرت بالقرب من طاولته . نظر إلى رواد المقهى ، الذين كانوا في حالة انفعال و غضب واضحين . لما دقق نظره و أرهف سمعه أكثر ، أدرك أن سبب غضبة هذه الكائنات المجرورة بتيارهم ..، هو أن هدفا ثمينا قد سجل من طرف الخصم .. في شباك الفريق الوطني ..أنذاك تمنى في داخله لو ..
دفع للنادل ثمن قهوته ثم غادر المكان ، و أخذ وعدا على نفسه أن لا يعود أبدا للكتابة في ( مقهى الأصدقاء ) .. لكنه في صباح جميل بلونه الفضي ، وجد نفسه منقادا و عائدا إليه من جديد ، بعد يومين من حادث المباراة ، و جلس في نفس الركن ، و شرع في إنهاء كتابته على نفس الطاولة . .
محمد بقوح
( المغرب )