محمد عثمان الخشت مفكر وفيلسوف مصر الكبير حاول – ولا زال – أن ينتقل بالفلسفة إلى رحاب أوسع من تلك التي سار فيها الفكر العربي والإسلامي قرونًا طوالاً ، إن شخصية الخشت شخصية علمية من الدرجة الأولى آمنت بالعقل ودوره المحوري في إقامة صرح حضاري لأمة ترنو إلى تبوأ معقدها الملائم لها بين الأمم ، فبالعقل حلل وبالعقل نقد وبالعقل قارن ، ولذا كان من الصعب الفصل بين عقله وفكره بالقدر ذاته الذي يصعب فيه الفصل بين عقله ودينه ، أو دينه وفكره . فقد حدد الخشت الموضوعات التي وجب عليه معالجتها ، وهي تلك الموضوعات التي وجبت معالجتها تحت تأثيرات حضارية وعقدية تتطلع إلى أن يكون الفكر الإسلامي مشاركًا في صناعة العالم من حولنا ، لا الوقوف عند حدود التلقي والمحاكاة التي أوحت إلى العالم من حولنا أننا مجرد شراح لفكر دارس ، وجب الانفكاك من أسره ونفض غباره عن كواهلنا تحقيقًا لصحوة تنويرية تنتشل الأمة من واقعها المرير .
ولما كان لدى الفلاسفة في المدارس المختلفة أفكارهم التي يحكمون من خلالها على الشيء ويجيبون عن الأسئلة المثارة حوله من خلال دروب النظر والتأمل الممكنة ، فقد كان الدكتور الخشت يهدف إلى هذا ، غير أنه كان لا يبعد كثيرًا كما فعل كثيرون ممن شطحوا بعقلهم وحاولوا ولوج مناطق ما أبعدهم عن أن ينالوا منها شيئًا ذا قيمة . وإن كانت الفلسفة بتحديها الدائم وشكوكها الجاهزة تقريبًا، قد ألقت عليه بظلالها القوية فراح يشكك في آراء كثير من الفلاسفة السابقين عليه ناقدًا حينًا ومحللاً حينًا آخر ، كما راح يشكك في صحة الكثير من الآراء التي اعتنقوها عندما وجد أنها لا تتوافق مع منهجه العام ، كما فعل مع رينان وهيجل وكانط وغيرهم ممن تناولهم بالدراسة والنقد .
الهوية و الاختلاف عند مارتن هيدغر ـ مصطفى قشوح
مُقدّمة
يعتبر مفهوم الهوية من بين المفاهيم المُبهمة ، فقد ندّعي في بعض الأحيان أننا نحيط بهذا المفهوم، لكن سُرعان ما نكتشف أننا لا نعرف أي شيء عنه ( ! ) ، فمفهوم الهوية مفهوم ترحالي ، فقد نجده في عدة مشارب معرفية متعددة ؛ مثلا في المنطق والميتافيزيقا الانتروبولوجيا، والعلوم الحقة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا.
فلسفياً، يرجع استعمال مفهوم الهوية إلى فلاسفة ( ما قبل " سقراط " ) ، و خصوصا مع " بارمنيدس " و" هيراقليطس " ؛ الأول عندما اعتبر الهوية وحدة الوجود و الفكر ، أما الثاني فاعتبار جوهر الهوية في وحدة الأضداد أو اللوغوس ، وهنا لا ينبغي أن ننسى مقولة هيراقليطس " إنك لا تستحم في النهر مرتين " [1] ، فالوجود واحد لكن داخل الوحدة يوجد التغير و الاختلاف .
غالباً ما يُعرَف مبدأ الهوية من خلال المتساوية الشهيرة [ ( أ ) = ( أ ) ] . تفصح هذه المتساوية عن وجود علاقة تساوي بين طرفين ؛ أي بين ( أ ) و ( أ ) آخر ، و هذه العلاقة هي علاقة منطقية و ضرورية، ولكن هل- فعلاً- هذا هو المبدأ الذي يوجد وراء هذه المعادلة ؟ ، ألا يوجد شيء غامض وراء هذه الصيغة ؟ ألا يمكن القول أن المبدأ الذي يقول أن [ ( أ ) = ( أ ) ] هو مُجرّد تكرار أو عبارة تحليلية - توتولوجية - كما عَبّرَت عن ذلك الوضعية المنطقية ؟ ثم ألا يبدوا من السذاجة أن نعرف الشيء بنفسه ؟ عندما نعرف الماء بالماء ؛ ألا يبدوا أن حديثنا يتضمن الكثير من الحشو ؟ إذن ما هي الهوية ؟ وهل يمكن الحديث داخل الهوية عن التغير و التعدد و الاختلاف؟ أم أن مبدأ الهوية لا يسمح بهذه الأمور ؟
الإنسان والطبيعة ـ هادي معزوز
يقف الإنسان دوما مشدوها أمام الطبيعة التي لا يمكن إلا أن تكون دوما فيه وبمحاذاته، في كل الأمكنة وفي كل الأزمنة، في الخيال كما في الأحلام، وفي الحضور كما في الغياب، والحال أن هذا الأمر يطرح أمامنا جملة من الأسئلة التي سنعرضها على القراء، ليس من باب الإجابة عليها وما أمكن ذلك، وإنما بغية إعادة قراءة العلاقة بين الإنسان والطبيعة وما أعسره من أمر، وبين الاثنين نقف أمام سيرورة وتاريخ طويل مشروط بقوانين هاته الطبيعة، وعليه فهل نُقِرُّ حقا أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، أم نعتبره جسما خارجها لا يخضع لضروراتها خاصة البيولوجية منها؟ ما الذي يريده الإنسان من الطبيعة ومن العالم على حد سواء؟ ماهو هدفه وما هي غايته؟ وهل استطعنا فهم الطبيعة كما ينبغي أن يكون عليه الأمر أم أنه كلما اعْتَدَدْنا بما نعتقده إنجازات منا، كلما توسعت الهوة بيننا وبين الطبيعة؟
الفلسفة والتربية : الإبهام المزدوج ـ تفروت لحسن
إن استحضار الزوج ( فلسفة، تربية) متحاورين في مقام تخاطبي موحد، يوحي في الذهن إلى افتراض وجود علاقة. هذه العلاقة أو العلاقات المقدرة يستعصي تقريبها بمقتضى المقدمتين التاليتين :
ـــ إن الحديث عن مسألة ازدواج الفلسفة والتربية بلسان المطلقات لا يتولد عنه إلا الغموض، ذلك أن الزعم بحضور الفلسفة في التربية والإدعاء بأن شكل هذا الحضور يتمثل في إنتاج خطاب فلسفي عن التربية أو ما شابه ذلك من مثل هذه الأساليب، يوجهنا من المشكل إلى ما هو أشكل. ذلك أننا ننطلق من مشكل البث في طبيعة العلاقة بين طرفين ( الفلسفة والتربية) إلى طرح مسائل جديدة أكثر التباسا من حد العلاقة ذاتها. والحق أننا نجد اليوم كثيرا من الدراسات والتناولات، التي عوض أن تحد طرفي العلاقة وطبيعة ازدواج طرفيها، تقر دفعة واحدة، بلغة مطلقة، بأن العلاقة هي خطاب فلسفي، أو تصور فلسفي أو تفلسف حول التربية. علما أن محاولات رد العلاقة إلى هذه الإمكانيات الدلالية يقود إلى تساؤلات تنتج فقط الدور والتسلل لحد اللانهاية.
تشهد الفلسفة، بنصوصها وتاريخها، على نفسها بلبس في الدلالة وغموض في التعريف. بل تقدم نفسها إلينا في صورة الاختلاف والمغايرة، بدءا من مدلولها إلى مبادئ الفلسفة ذاتها ؛ فنحن لا نستطيع أن نرسم للمفاهيم الفلسفية حدودا صارمة أو وظائف إجرائية مطردة، فهي نوعا ما مفاهيم غامضة، مع العلم أنه لا ينبغي أن نفهم من هذا اللفظ دلالته القدحية، فغموض المفاهيم الفلسفية ليس عيبا يجب إلصاقه بها، بل هو دليل على غناها.
يورغن هابرماس ومراجعة الغرب صورته عن ذاته ـ د.زهير الخويلدي
"يدفع الإرهاب الشامل إلى الحد الأقصى بعدين اثنين هما غياب الأهداف الواقعية والقدرة على استخلاص فائدته من عطوبية الأنساق المعقدة"[1]
ماهو دور الفلسفة النقدية في تشريح العلاقة بين الإرهاب والعولمة والتمفصل بين الأديان والعنف المدمر؟
ذلك هو السؤال الذي حاول يورغن هابرماس أن يجيب عليه بالاعتراف منذ البداية بالطابع المزلزل للحدث التاريخي واتصاف التساؤل الفلسفي عن الخبر بدراسة الصاعقة التي تخلف البطش والرعب. ولهذا حاول إعادة التفكير في دلالات الهجومات الإرهابية ومدى انتمائها إلى الأحداث الفارقة في الأزمنة التاريخية ومدى تورط العولمة والوسائل الحديثة للاتصال في صناعة الإرهاب وانتشارها بشكل سريع.
لقد حصل إجماع على أن الإرهاب علامة مرض بالنسبة للحضارة الكونية ودليل على أزمة بنيوية في الديمقراطية التمثيلية وفشل الفصل العنيف بين السرديات التأسيسية والقوانين الوضعية ويمثل خطرا داهما على الحياة السياسية التشاركية وعلى النظام التشريعي الضامن لها ويسبب الشلل البطيء للآليات الدفاعية والميكانزمات المقاومة حينما تتعرض الجماعة السياسية لهجوم خارجي وتتحسس ضعفا هيكليا داخلها.
إذا كان جاك دريدا يفسر هذه التصرفات بكونها ردود أفعال دفاعية ناتجة عن الحداثة نفسها والتنوير الذي شرعن الاستعمار وضاعف أشكال اللاّمساواة بسبب التحديث القسري والسريع والإرادة السياسية الغازية ويري أن "العولمة" هي عبارة منمقة تعد الإنسانية بالرخاء والوفرة ولكنها تخفي البؤس والعنف والظلم ويأمل أن تشفى الإنسانية من هذا الوباء الرقمي بأن يتم إخماد النيران والحروب وفض النزاعات التدميرية والتقليل منها ومراقبتها والانتصار عليها بالتدرج وعبر مراحل وبطريقة بطيئة ومدروسة فإن هابرماس يفسر وجود التطرف والإرهاب بالعنف الذي أفرزته العصرنة المسقطة على أنماط الحياة التقليدية وفشل الحداثة في الانتشار على الصعيد الكوني ووجود مقاومات هووية ويشير إلى أن العقل الإنساني مثلما يسمح بالتواصل الشفاف والتنظيم الإداري والتقدم التكنولوجي يفرز أيضا الانفصال والاغتراب والعنف.
جاك دريدا ومواجهة فلسفية مع عولمة الإرهاب ـ د.زهير الخويلدي
" إذا كانت ثمة من صدمة قد أحدثها الحادي عشر من أيلول ... فإنها لا تقوم على الأثر الجارح الناجم عما جرى فعليا وعما جرى حاليا وقد يتكرر مرة أخرى بل من تصور يقيني لخطر أسوأ مقبل"1[1]
لقد ضرب الإرهاب مجددا في عاصمة الأنوار والحرية وخلف القتل والرعب والحيرة على وجوه الناس وارتبط بالالتباس والألغاز والغموض وحالت عدة صعوبات وعراقيل وتحفظات دون فهم هذه الظاهرة ولعل هذه العملية المدانة قد عرفت من جهة التنفيذ والضحايا ولكنها تظل مجهولة من جهة المخطط والمستهدف، ولذلك استنجد المتابعون بالصحافة والإعلام وعلماء السياسية والاجتماع والنفس والأنثربولوجيا الثقافية والأديان للمساعدة والتعمق في التحليل والتوضيح، ولكن للفلاسفة رأي سديد ومنهج فريد ولقد سبق لجاك دريدا أن حاول تشخيص هذه المعضلة إبان أحداث 11 سبتمبر 2001 وقدم نظرة تفكيكية عن هذا المرض المزمن وتوقع قبل غيره الانتشار العالمي لهذه الظاهرة واستفحالها.
في هذا الصدد تتوقف الفلسفة كثيرا أمام الأحداث الحاسمة في التاريخ التي تولد الدهشة والذهول وتمارس فن التفكير بحذر شديد ولكنها تقدم جوابا يضع هذا الحدث الهائل موضع مساءلة جذرية وتنقيب مستمر وتقليب من جميع جوانب وجوده ولا تتسرع إلى تعويم المسألة وتلخيص الأسباب والدوافع وتحديد الأدوات والأساليب ولا تنتهي بسرعة إلى توقع النتائج والتداعيات ولا تبادر بعجالة بتقديم وصفات علاجية مفترضة. بطبيعة الحال مع جاك دريدا هذا الحدث الإرهابي لا يوقظ الفلسفة من سباتها الدوغمائي فحسب بل يدفعها إلى التفكير في نفسها، كما لا يمكنها التفكير فيه بالمسلمات المفهومية المنقوشة في الخطاب المعتاد والمكرر وإنما تنحت تفكير فلسفي جديد تساءل فيه موروث الفلسفة السياسية وعدم التعويل على الخطاب الذي يتم تداوله من قبل الميديا والخطابة الرسمية الذي يستسهل تعريف مفاهيم دقيقة وشائكة مثل الحرب والإرهاب[2].
في مفهوم النُّخبة – مقاربة بنائية ـ أ.د. علي أسعد وطفة
مقدمة :
يشكل مفهوم النُّخبة منطلقا منهجيا في كل فهم حصيف لحركة التاريخ الإنساني وما يعتمل فيه من صيرورات وأحداث، ويعوّل عليه كثير من المفكرين في مقاربة التكوينات السوسيولوجية للمجتمع، والخوض في عمق الظواهر الأيديولوجية للحياة السياسية الطبقية في سياق تفاعلها وتكاملها. فالتاريخ الإنساني بما ينطوي عليه من تعقيدات، وما يكتنفه من صيرورات لا يمكنه أن يُرصد ويحلل ويفهم دون الخوض المعمق في دور النخب التي تحرك المجتمع الإنساني وتتحرك فيه في الآن الواحد لتشكل بفعاليتها ملمحا جوهريا من ملامح الحركة التاريخية في المجتمعات الإنسانية. وضمن هذا التصور فإن اي محاولة لفهم ديناميات الواقع الاجتماعي، وصيرورة الحركة التاريخية، لن تفلح ما لم تنطلق من فهم عميق للدور التاريخي الهائل الذي تمارسه النُّخب في توجيه الحياة الاجتماعية في مختلف تعيناتها وفي شتى تجلياتها. فالنُّخب - كما يراهن كثير من المفكرين والمنظرين - تصنع التاريخ الإنساني، تحركه وتحدد صيرورته، وترسم ملامح التغير الاجتماعي، وتمارس دورها الفعال في توجيه الحياة الاجتماعية في مختلف تجلياتها.
محاكمة الأفكار ـ هادي معزوز
هل يمكن الاعتقاد بأفكار صائبة لا يمسها الخطأ، ولا تسقط طريحة المعاودة وإعادة الترتيب؟ وهل بإمكان الإنسان تحقيق التطور والسمو بنفسه وبالعالم وهو الراكن إلى أفكار يظن أنها ليست من التغير بشيء؟ هل تعتبر الأفكار بريئة بحق، أم أنها أفكار مجردة عن كل حكم أخلاقي محض؟
عندما نعود لتاريخ الإنسان ومعه تاريخ العالم بصفة عامة سنلاحظ أنه تاريخ تَخَبُّطٍ وَتَيْهٍ، تاريخ البحث على الحقيقة ليس لفحصها وإنما لامتلاكها، الإنسان كائن فضولي بطبعه لا تستوي لديه إرادة الحياة إلا بالبحث عن الحقائق، وبما أننا فقدنا الأمل في هذا البحث الأجوف ومنه قد تنهار المنظومة الإنسانية عن بكرة أبيها، فقد تمكنت الميتافيزيقا من إيجاد شيء ينتفي وطابع التغير والذي ليس إلا الهوية، أي تلك الفكرة التي تحتضن مبدأً ما كي يصبح قاعدة لا تؤمن بسيرورة الزمن ولا بصيرورته، والحال أن الميتافيزيقا وبفضل جنوحها للطمأنينة ساهمت في ظهور الأفكار الثابتة المبنية أساسا على الهوية وطرد الاختلاف.
آراء سياسية من الفلسفة العربية ـ د زهير الخويلدي
" استعمال تعبير "فلسفة عربية" يمتلك سبق التأكيد على أهمية المرور الى العربية بينما صياغة "فلسفة إسلامية" تسجل انتماء ثقافيا أكثر منه دينيا "[1]
من المعلوم أن القراءات السائدة تقلل من قيمة التناول الفلسفي العربي للقضايا السياسية وتعطي الأولوية للميتافيزيقا والمنطق واللغة والأخلاق وبدرجة أقل المجتمع والتاريخ والاقتصاد ، وتدرج شؤون الحكم ومسألة الحقوق في خانة الأمور المسكوت عنها إلى جانب الدين والجنس وأشياء محرمة ينصح بتركها. لكن هذا الحكم المسبق يمكن مراجعته وإعادة التفكير في حضور المسألة السياسية في الفلسفة العربية وإثارة مواقف حكماء العرب من الإشكاليات المطروحة على الحكام في زمنهم وطرق تعاطيهم معها. لعل استذكار بعض النظريات الفلسفية الماضية والتركيز على جملة من المفاهيم الاجرائية والمقاربات الجدية واستدعاء آراء ومناهج مفكري حضارة اقرأ وعلماء لغة الضاد يخرجهم من سراديب التقاليد وقبو التراث ويلقي بهم في معارك العصر وحركة التاريخ ويصلح ما أفسده الدهر من ناحية أولى، وربما يمثل هذا الاستنجاد دليلا ساطعا على استمرار نفس المزالق العملية والتشويشات النظرية التي ظل الوعي الإسلامي يعاني منها وتعيقه عن تشخيص العلل وفتح طرق الخروج من الأزمات من ناحية ثانية.
الفكر العربي و بناء منهج النفي و الإثبات ـ د. محمد الصفاح
استقراء لشخصية الفكر العربي يتبين أن حياته الفكرية قد خضعت لحقبتين زمنيتين اثنتين:
1- حقبة التلقي ،و الإقبال ،و القبول ،و الاستيعاب و التمثل: و خلالها كانت العلاقة بين الفكر و الأنشطة المعرفية، علاقة تقبليه، تميزت بالانفتاح على العلوم و المعارف. فكان بذلك فكرا طوافا، جوالا غازيا، سائحا ،شديد الحماسة للعلم، و تعقبه أنى وجده، يتوخى تحصيل الزاد المعرفي الروحي، الكفيل بصناعة الشخصية المعرفية الفكرية القادرة على صياغة رؤية للعالم، وفق منظور علمي فكري، يمتلك القدرة على بناء المواقف، و تدبير الوضعيات على الوجه المطلوب.
على هذا النهج القويم الرشيد إذن سار الفكر العربي حقبة من الزمن، تحركه الرغبة الأكيدة لامتلاك ناصية العلم من مواطن العلم، و تشده غريزة الوفاء للفكر. و لعلها القيمة الثمينة الكامنة وراء ميلاد و إنجاب الشخصية الفكرية الاعتبارية العابرة بصدق و مصداقية نحو:
2- حقبة التساؤل و النقد و التأصيل و الإبداع: إنه طور أبان فيه الفكر العربي و بحق عن نضجه و قوته وعلو شأوه، إذ برز على مسرح الحياة الفكرية، فكرا رشيدا، راشدا يمتلك ناصية التفكير القوي، بعدما تزود بكفايات و مهارات و آليات مستقاة من علوم شتى اطلع عليها و خبر فلسفتها و مضامينها لاسيما الفلسفة و المنطق. فتجلت بذلك حركته الفكرية القائمة على أساليب
"هل يمكن اعتبار سؤال "ما الفلسفة؟" مدخلا إلى الفلسفة ؟" ـ محمد غمـري
يحيل هذا السؤال على مفارقة إشكالياتية تمكن قراءتها على وجهين : يتمثل الأول في حروف السؤال المكونة له (هل، و ما) باعتبارها تحيل إلى البدايات الأولى للفلسفة مع سقراط على وجه الخصوص، ويتمثل الوجه الثاني في كونه ينصب على "المدخل الفلسفة"، ومعنى ذلك أن سؤال "ما الفلسفة" قــد يشكل مدخلا للفلسفة، لكن ماذا نقصد بالمدخل إلى الفلسفة؟ هل يعني ذلك الطواف حولها دون الولوج إلى عمقها؟ هل يعني تكوين تصور عام حول أفكارها، تاريخها، ومشاكلها دون امتلاك القدرة على ممارستها؟ أليس طرح السؤال وفق الصياغة التالية: "هل يمكن اعتبار سؤال "ما الفلسفة؟" مدخلا إلى التفلسف؟" أكثر تعبيرا عن روح الفلسفة، باعتبار أنه لا يمكن أن ندخل إلى عوالم الفلسفة دون ممارسة فن التفلسف؟...
إن هذه المحاولة سوف تعمل أساسا على تجاوز هذا السؤال، وذلك من منطلق أساسي يجب التصريح به منذ البداية، وهو أن سؤال "ما الفلسفة؟" لا يمكن اعتباره مدخلا إلى الفلسفة، بل إن محاولة الإجابة عنه تقذف بنا مباشرة في عالم التفلسف، باعتباره ممارسة للفلسفة، وليس مدخلا إليها، ففي الفلسفة لا توجد هناك مداخل، كل ما هنالك هو ممارسات للتفلسف، ولبناء الحجة على هذا القول سوف يتم الاستناد على طرحين أساسيين، يتعلق الأول بتصور الفارابي لحروف السؤال الفلسفي، التي تشكل الآليات الأولية لممارسة التفلسف، ويتعلق الثاني بمفارقة "مينونMénon " التي تضعنا وجها لوجه أمام أحد أهم المكونات البنيوية لتاريخ الفلسفة، والشاهد على ذلك، تلك القراءة التي قام بها ميشل مايير لتاريخ الفلسفة باعتباره تاريخا إشكالاتيا، أي تاريخا يعمل على تجاوز هذه المفارقة في شتى محطات تاريخ الفلسفة : "أن تاريخ الفلسفة منذ سقراط هو تاريخ مفارقة مينون ؟" تلك المفارقة التي تتضمن إشكالية "أيهما أسبق من الآخر : الوجود أو المعرفة؟ الأنطولوجيا أم الابستمولوجيا؟"... ربما قد يلف بعض الغموض هذه الفقرة، لكن غموض سوف ينبلج شيئا فشيئا، كلما تقدمنا خطوة نحو معالجة هذا الموضوع...