تصدم الأنا من سؤالها عن أناها، أولا لأنها لا تتوقع عدم المعرفة بذاتها وهي التي تعيش في ثناياها طول الوقت، وربما في علاقة سرمدية تمتد من الأنتربولوجي العميق إلى المستقبلي الذي لا تستطيع توقع حدوثه إلا من خلال أحلامها وآمالها. وثانيا لأنها لا تتصور التصريح للأخر بمكنوناتها، هذا الآخر الذي ينطبع في هذه الحالة في آناها هي بالذات، أي أنها السؤال والذي يتلقى الجواب في نفس الوقت. وبالتالي للعب داخل هذه الوضعية يجب على الأنا أخذ مسافة من أناها، وهكذا أفعل الآن، على الأقل اعتقادا مني... إذن أنا من أنا؟ .
نصرح مبدئيا بصعوبة الإجابة ليس استسلاما وهروبا، ولكن لأن الهروب بالتقدم أو التأخر نحو... من الوظائف التي تشتغل من خلالها الأنا، وأيضا لأن خلاصة ما اقرته المدارس النفسية في موضوع الأنا والنفس في شموليتها، قد نلخصه في صعوبة معرفة انا الآخر، وادعاء معرفة الشخص لأناه لا تعدو أن تكون معرفة بالملامح التي يرغب أن يكونها أو على الأقل بعضا منها.
بعيدا عن سفسطة الكلمات قد نستطيع مناقشة السؤال من خلال تجارب إجرائية، على الرغم من بساطتها إلا أن تعقيدات فهمها ترقى إلى مستوى النظرية النفسية في بعض الأحيان، وذلك حسب واضع "كارطبوسطال" هذه الأنا، التي تتراوح بين تقزيمها لأداء وظيفة ما من طرف الآخر، أو التماهي بها في مواضع أخرى من طرف صاحب الأنا ليرقى بها إلى ما يرغبه هو أو ما ترغبه أناه.
عموما نقترح مناقشة وضعيات إجرائية تظهر فيها الأنا إما مقزمة أو معبرة عن نفسها أكثر مما ينبغي، وذلك باستعارة بعضا من جوانب الكلام الدارج. وأول ملاحظة ندرجها في هذا الإطار هو سياق كلمتي "فلان أو فلانة" الذي يفترض، لغويا، الحديث عن أنا ذكورية وأخرى أنثوية، كل واحدة تتماهى مع.. وبخصائصها لبناء الأنا المستقلة والمختلفة.
وبتركنا المجال مفتوحا للنقاش حول هذه الوضعية المرتبطة بالنوع والأنا، أنتقل لتحديد وضعين أساسيين يمكن من خلالهما تحديد الأنا أو على الأقل فهم بعضا من حدودها، ليس بالمدلول الأنتربولوجي والسيكولوجي العميق، ولكن اقتصارا على ما قد يعرفنا به الآخر، من خلال بطائق الهوية، وبطاقة التعريف المدرسية، وبطائق الطلبة...إن هذه الأنواع من البطائق وإن صدرت عن مؤسسة عامة موحدة فإنها تفترض نقطة أساسية مرتبطة بالتطور والتقدم الذي يطبع الأنا، وإن كان هذا الاعتراف بالتطور والتقدم يخدم أكثر مصالح الدولة، ولا يحترم خصوصيات الأنا، على الأقل بالإشارة إلى تعقيداتها أو التنبيه إلى أن هذه الأنا صاحبة بطاقة الهوية هاته يحتمل ألا تنضبط لهذه المعلومات الموثقة في الكثير من الأحيان، لكن حال الدولة دائما هو تعريف الأشياء بما تراه صالحا لها ولمصالحها من خلال رؤيتها فقط، لأنها لا تعترف للأنا بكيانها إلا في الحدود التي تلتزم هذه الأنا للدولة بكل ما ترغب منها. في هذه النقطة بالذات تتحول الدولة نفسها إلى أنا أكثر تعقيدا وأنانية من الأنا البنيوية التي نقصدها بالتحليل، ولعدم الانجرار وراء تحليل تعقيدات أنا الدولة، نعود لاستكمال ملاحظاتنا حول "أنانا".
اشرنا إلى تعسف الدولة في شخصها الرمزي في تحديد "الأنات" قسرا، لكون هذه الأخيرة تكون تعقيدات الدولة نفسها. وهنا نشير إلى كيفية تعسف الأنا البنيوية المقصودة في تحديد أناها خصوصا من خلال العوالم الافتراضية في العالم الجديد، الذي من خلاله تتجسد الأنا في "كارطبوسطال" مختار بعناية، وفي الوضعية التي ترغب الأنا وجودها فيها. فالصورة لا توضع بتلقائيتها وإنما تشتغل لتجسيد الدور الذي ترغب في أن تكونه الأنا غالبا، وليس كما هي عليه في حقيقتها، فتشتغل لإظهار قوتها والإفصاح، ربما، وإن بشكل غير مباشر عن ضعفها ومواضع أحلامها من خلال لوحة بعدد الأصدقاء الذين ترغب في التعرف عليهم أو التعرف على أناها من خلالهم عبر ما يشتركونه من "أعجبني" و "أريد" على صفحة الفايسبوك مثلا... أو التعارف معهم، وهذه الكلمة ضمنا تحمل جهلا بدرجة ما بالأنا نفسها التي ترغب في استجداء صورة لها لدى الآخر، الذي تصبحه الأنا نفسها بالنسبة للمقابلين لها أمام جهاز آخر، فتصبح "الأنات" في هذه الوضعية غير معرفة في عمقها ولكن فيما ترغبه من صور وخرائط وتعليقات وروابط... تشاركها للتغاضي عن ملحاحية معرفة الذات أولا ومن خلالها بالضرورة، للمرور إلى معرفة الذات عبر امتطاء ذات الآخر.
هذه إذن وضعية أولى تبحث الأنا، تضليلا، عن مكنونها من خلال الآخر الذي يحددها قسرا (الدولة مثلا)، أو الذي يحددها وتحدده بالتواطؤ (الآخر الافتراضي)، دون الوعي بان الأنا في هذه الحالة إنما تبحث عن صورة لها، لا غير، من خلال آخر يشبهها. وإذا ما انتقلنا إلى الوضعية الثانية التي نقترحها مدخلا للتفكير في الأنا، تبرز الصعوبة اكثر في معرفة الأنا حتى باتخاذها لأناها نقطة انطلاق وعبور ووصول أيضا في التحليل، وذلك بالتركيز على ثلاثة مداخل أساسية:
الأول تنشغل الأنا خلاله بعوالم الطفولة الصوفية والتي تكون الأنا خلالها هي الوجود، والوجود هو الطفولة وهذان غير قابلان للإفتراق، فأناي هي صورتي كما أحسها وأرغبها .
والمدخل الثاني يتحول معه التفكير في الأنا ، أو تتحول أنا من أنا؟ إلى جزئين أكثر ابتعادا عن بعضهما، يظهران عبر الصراع مع العالم، وهذا موجود مسبقا، ثم الصراع مع الأنا نفسها الراغبة في تحطيم الصنمية التي تنظر بها إلى أناها عبر إعادة النظر في حدودها ومتطلباتها.
في بحث الأنا عن أناها، أو بتأرجحها بين معارج السالكين ومدارج الهالكين بتعبير أكثر صوفية، نعتقد بأن الأنا، ربما، هي خلاصة ما قد يقدمه ملكان إن كنا نعتقد بوجود عالم آخر تتحدد من خلاله ماهيتها وأناها الزئبقية في مدى وجودها، وإن كانت هذه الأنا لا تعتقد بوجود هذا العالم الآخر الذي تتحدد فيه "الأنا" من خلال آخر مفارق لها عبر أعمالها، بما في ذلك تفكيرها في أناها السابق، فإننا نستمر في عملية البحث عن أنا من أنا؟ إما بإغراق الأنا نفسها في النسيان، أو باختراع بدائل كعالم آخر لمعرفة هذه الأنا، لكننا لن نخسر شيئا بتعبير "باسكال" إذا ما اعتقدنا بوجود عالم آخر، قد نحسم فيه معرفتنا بالأنا.