" لقد رأيت ألم شعبي المتواجد في بلاد مصر، وسمعت أيضا الصراخ الذي يدل على اضطهادهم، ما دمت على دراية بآلامهم"
ـ الكتاب المقدس ـ
" على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله (...) فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله فاستحق العقاب"
ـ الإنجيل ـ
" الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدرن وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب"
ـ القرآن الكريم ـ
عندما نعود اليوم إلى عديد الدراسات المقامة حولنا نحس بامتعاض كبير جراء النتائج التي تقولها، بغض النظر عن صحة هاته النتائج من خطئها، بيد أنه من الواجب الوقوف برهة حولها، والحال أن واقعنا ينذر بما ألفناه في هاته الدراسات، التي لا يهمنا فيها دواعيها ومدى حيادها، بقدر ما أنها تتفق اتفاقا بليغا حول وضعنا في الذيل، أي احتلالنا لمراتب جد متأخرة في ما يجب أن نكون فيه على قدر كبير من الريادة، في مقابل ذلك نجد أنفسنا في مراتب جد متقدمة في ما يجب تجنبه، ولكي نقترب أكثر من المراد فإنه لا شك أننا نحتل أولى المراتب في ارتفاع نسبة الفساد بشتى أنواعه، والرشوة، والتحرش الجنسي، واضطهاد الأقليات، والعنف ضد المرأة، والتعصب، وحوادث السير، والاكتئاب، والجريمة غير المنظمة... في حين أننا نحتل أذل المراتب عندما نتحدث على البحث العلمي، ونسبة الأمية، والهدر المدرسي، وجودة الخدمات، والصحة، والسكن...
إن أول خطأ نقوم به هو عندما نحصر هاته النتائج داخل الأرشيف إلى أن تنسى، إذ كم حاجة قضيناها بتركها، أما ثاني خطأ نكرسه على الإطلاق، هو عندما نشكك في براءة تلك النتائج، بدعوى أنها تيئيسية أكثر مما هي عملية، أما ثالث الأخطاء المرتكبة بقصد أو بغير قصد هو المتجلي في الخوف من الحديث على فشلنا، صحيح أن لهذا الخوف دواعٍ جمة، بيد أنه من الشجاعة الاعتراف بغية التغيير، وليس تأسيس الواقع على قيمة غير ذي قيمة، من ثمة أمكننا أن نتساءل على سبب هذا الارتكاس إذا ما قارنا أنفسنا بأمم أخرى ربما كنا نشاركها التخلف قبل قرن من اليوم، لكنها استطاعت بعمليتها أن تختصر المسافات تجنبا ودرءا للسقوط في تلك النتائج سالفة الذكر.
والحق أن ما يلفت نظرنا بادئ ذي بدء ونحن نخوض في هاته المعضلة هو ذلك التباعد بين بنيتنا النظرية التي تتاسس على روح الإسلام والسنة، وبين تطبيق النص بمعزل على سوء تأويله وهو الأمر الحاصل اليوم في بلدان عدة من العالم الإسلامي العربي، حيث تم فقد البوصلة بالكامل ومعها بتنا خارج كل تنظيم سديد من شأنه أن يجنبنا هاته الفوضى التي أعادتنا إلى زمن ساحق جدا، حيث كانت تغيب فيه الإنسانية لصالح الوحشية، وعليه فما هي علل ودواعي وأسباب هاته الكوارث التي تصيبنا في كل وحين؟ وهل للخطاب الديني علاقة في ذلك؟ وإلى أي حد وجبت العودة إلى مسألة التجديد والإصلاح الديني على غرار أوربا في عصر النهضة وما بعدها؟
في هذا المقام سنحاول دراسة مجتمعنا بل واقعنا انطلاقا مما هو عليه بمنأى عن تلك المساحيق التي تخفي ما يجب إظهاره، والحال أن عنوان نقد الخطاب الإسلامي هو قول لم يأتي وليد صدفة بقدر ما أن له من الدواعي ما ليس لغيره، والبين على ذلك هو حضور هذا الخطاب في كل حياتنا دون خير يذكر، وهو ما سيجعلنا نسقط في معادلة احتمالية، طرفها الأول هو أنه إما نحن بعيدين تمام البعد على فهم الدين كما يجب، فبتنا بسوء الفهم هذا تعساء جدا، أو أن الواقع استطاع أن يتغلب على النص الديني فأصبحنا معلقين بين السماء والأرض، من ثمة فإنه لا بد في هذا المقام عدم الاقتصار على القراءة النظرية فقط للخطاب الإسلامي، والتي عرفت كتابات جد مهمة للأسف لم تستطع أن تتم أجرأتها على النحو العملي، بقدر ما سنعمل على ربط النص بالممارسة، من خلال ربط حوار مع البنية الحاكمة التي تؤسس لمجموع تصرفاتنا من حيث لا ندري.
تتفق كل الديانات على عديد النقاط من قبيل تحريم القتل، وتجنب الكذب والسرقة والظلم والتعدي على خصوصيات الآخر، في حين أنها تختلف في أشياء أخرى بين ديانات تجريدية وأخرى أمبريقية empirique، بين ديانات عالمها واحد، وأخرى عالمها عالمان الأول دنيوي والثاني ما بعد دنيوي... في مقابل ذلك نجد أن الديانات التجريدية التوحيدية les religions révélées لم تسلم من عديد الاختلافات الجوهرية من قبيل جوهر الإله، ومسألة التجسيد l’incarnation ، وانتصار كل ديانة لشعب بعينه... أما إذا أردنا أن نخصص أكثر وهو بيت قصيدنا في هذا الشأن فإنه في الديانة الواحدة توجد اختلافات جوهرية جدا، والحال أن الإسلام لم يسلم من هذا الأمر، إذ أن إله المعتزلة ليس يمت بصلة إلى إله الأشاعرة، والإله عند الفلاسفة يكاد يتعارض تماما والإله عند الفقهاء أو الصوفية... وهو ما جعل النص القرآني يتعرض لعديد الهزات بسبب التأويل وسوء التأويل، لقد حدث كل هذا وكما نعلم خلال نهاية القرن الأول من الهجرة ليعرف أوجه إبان القرن الثاني، ثم حدث بعدئذ أن انتصر الفقهاء المدعومين من طرف السواد الأعظم من الناس، وبما أننا بصدد نقد الخطاب الإسلامي، فلا شك أن قراءة الفقهاء المتزمتين للإسلام من قبيل الغزالي وابن تيمية وأحمد بن حنبل... جعلتنا نسقط في فخ استحضار الدين في كل شيء دون فهمه.
إن أولى تجليات سوء القراءة هذه، هو غياب ذلك الخيط الرابط بين النظر والممارسة، وبما أن بنيتنا بقيت على هذا الحال، فقد أثرت على باقي المجالات من سياسة، وقانون، واقتصاد، وفكر، فلو سألت أحدهم على موقفه من الكذب والغش سيقول لك بكل سرعة بأن الكذب حرام قطعا، وبأن الغش من الإتكالية، والإتكالية في الإسلام تجني على صاحبها، لكن وفي مقابل ذلك فقد لا يختلف اثنان كون أننا أمة أتقنت الغش لدرجة أنه أصبح مقبولا في مجتمعنا، حيث نغش في تطبيق القانون مثلما نغش في إتقان عملنا على أحسن ما يرام، ونغش في علاقاتنا مع الغير مثلما نغش أحيانا أنفسنا في أبسط الاشياء.
والواقع أن السبب الثاني وهو الذي يتنزل منزلة الحجر من البنيان في هذا الباب، يكمن في ضرورة العودة لقراءة الإسلام كدين من الداخل، وهو الذي أسقطنا في هاته التأويلات حيث يعتقد كل طرف أن تأويله هو الصائب، لكن وبدل أن يجادل فكرته يكذب ويكفر من يختلف معه لدرجة إحلال دمه، والحال أن ما يحدث اليوم في الشرق الوسط خير دليل على هذا الامر وإن اختلطت فيه السياسة بالدين، عندما نعود إلى القرآن من الداخل نجد أنه بقي مبهما في جملة من الأحكام، من قبيل التسيير والتخيير التي كان لها كبير تأثير سلبي على الفكر الإسلامي العربي، فلنعد مرة أخرى إلى القرن الثاني هجري، كي نقف عند طرفين متضادين، الأول يمثله غيلان الدمشقي المعتزلي الذي رسم حدودا للإنسان، باعتباره كائنا مخيرا، وأن كل قول بالتسيير والإيمان بالقدر خيره وشره بإطلاق، لهو ضرب في مسألة العدل عند الله، وبما أن الله عادل مطلقا فإنه خَيَّرَ الإنسان في كل شيء شريطة تحمل المسؤولية طبعا، على النقيض من ذلك ذهب الحسن البصري إلى فكرة كون أن الإنسان مسير بطبعه وإلا فسيصاب الله بالعطالة le désœuvrement عندما سيصبح الإنسان مسؤولا تماما عن أفعاله، في النهاية انتصر الخطاب الثاني والذي أثر ولا زال يؤثر على بنيتنا الثقافية لحد الساعة، حيث اتخذناه مطية لتبرير فشلنا، أما من جهة ثانية فعندما قسم الإسلام العالم إلى عالمين، الأول دنيوي فان، والثاني أخروي خالد، أثر على نظرة المسلم لحياته الدنيا، حيث بات ينظر إليها كقيمة زائدة الغرض منها ضمان تذكرة العبور نحو العالم الآخر تجنبا للعذاب، مما جعلنا لا ننخرط في روح العالم وإن كان ضرورة لا بد منها بطبيعة الحال.
السبب الثالث يمكن أن نجده في فكرة الإمكان le contingent ، إذ عندما نبحث في النص القرآني لا نكاد نعثر ولو على إشارات صغيرة لفكرة الإمكان، النص القرآني خاصة في سوره المدنية مليء بالوعيد، والوعيد لا يحتمل سطوة فكرة الإمكان، بما أن الأول ـ الوعيد ـ منغلق على نفسه بشدة لا يدع مجالا للاجتهاد، عكس الإمكان الذي يؤمن بالنص المنفتح وليس بالنص المنغلق، وبما أن خطاب الفقهاء انتصر على خطاب الفلاسفة، فقد انتصر معه خطاب الانغلاق والإطلاق بدل الخطاب اللامتناهي، بيد أن الفخ الذي سقط فيه الفقهاء هو خصوصية كل عصر على حدة، الإمكان يتكيف مع روح كل عصر للتأسيس لروح أهرى وهكذا دواليك، في حين أن النص المنغلق المنتهي، لا يؤمن بروح العصور فينتج عنه نفاق كبير بين قوة الإيمان بالنص وسطوة العصر، لهذا نجد صورة ذلك في يومنا هذا كون أننا نقول بأشياء دون التمكن من تطبيقها على أرض الواقع، يكفي مثلا أن نتأمل شوارعنا المتسخة، ونفاقنا الاجتماعي، وغشنا في العمل، والنظر للمرأة بتلك الدونية الرعناء... كي نستنتج أن النص يغرد خارج السرب والعصر هو الآخر يبكي على ليلاه.
العلة الرابعة التي لعبت دورها السلبي، ليست تكمن إلا في إدخال الدين في كل المجالات، في السياسة كما في الاقتصاد، وفي الفضاء العمومي كما في علاقتنا مع الآخرين، وبما أنه لكل فرد منا تصوره للدين فإننا نسقط في معضلة صراع الإرادات بلغة ماكس فيبر، التي أدت بنا إلى الجفاء بدل الحوار، وعندما نقول هذا نستحضر عديد المظاهر التي تشوه خصوصية العصر، من قبيل الحديث عن الدولة الدينية المنتصرة لدين واحد، علما أن مفهوم الدولة لغويا يتأسس على التنظيم المعقلن للحياة اليومية، أي أنه يضع حدودا بين ما هو لله وما هو للسياسة، والنتيجة هي ما نراها الآن عندما حكمنا بالدين بدل السياسة المبنية على روح المؤسسات، ومبدأ فصل السلط، والديمقراطية...
إن معضلة الخلط بين النص وروح العصر لم تعد مقتصرة فقط على النص الديني، وإنما استطاعت أن تحشر حضورها في النص القانوني أيضا، حيث القانون في وادٍ بمعزل عن الواقع المعيش، إننا أمة لا يسيرها قانون بقدر ما يسيرها العرف أحيانا، والقوة أحيانا أخرى، والزبونية في أحايين، والمحسوبية في أحايين أخرى، من ثمة فإن العصر يفرض علينا أشياء جديدة لا يمكن الانخراط فيها إلا إذا عملنا على أجرأة الإصلاح الديني، علينا أن نملك الجرأة على تعرية واقعنا بكل شجاعة آنذاك سنكون قد حصلنا على قطع الغيار لتغيير الواقع نحو الأفضل، أما حالنا اليوم فإنه لا محالة لن تنتهي مآسيه إذا لم نستطع الوقوف عند بنيتنا، كما تشريحه بروح عملية ترسم الحدود للإسلام كدين يربط بين الفرد وربه، وللسياسة كتنظيم للعلاقات بين الناس بغض النظر عن انتماءاتهم، وللفكر كحرية تفتت وتفكك كل النصوص المنغلقة، تكريسا لمبدأ القابلية للتكذيب principe de falsifiabilité، آنذاك وآنذاك فقط نستطيع تجنب تلك الإحصائيات سالفة الذكر، والانتهاء من لعنتها التي لا زلنا نتخبط فيها دون التفكير من الحد منها كأنها لا تعنينا بتاتا.