أنفاس الجواهري لا يجد في المرأة إلاّ تلك الشمس التي تشرق، وبدونها تموت الأشياء.هي عصب الحياة، هي روح الزمن، هي الضوء الخافت من بعيد للغارق بالحزن، والفنار لمن يطلب النجاة في البحر، هي( الحنين) للأرض. فهو الذي عاش محن الوطن وخبر مصاعب بلاده، ونادم الملوك والأمراء.  يجاهد من أجل الأفضل ومستقبل واعي ولم يتوان في  خطابه الشعري أيضاً للمرأة ..  ففي قصيدة " حنين" التي نظمت عام  1949 يقول:
((  أحنّ إلى شبح يلمح بعيني أطيافه تمرح       أرى الشمس  تشرق من وجهه وما بين أثوابه تجنح )).
 معلقاً روحه بطرف أمل، وكأنه يتخطى أقاليم الرغبة داخل لحظة لعلها تلد شيء يوقظ الهمس الثائر من حوله، إن هذا الامتداد في الرؤية يؤسس عالم الجواهري ويؤثث إرادته في عزم الأمور حيث يقول:
((   كأنه بهامته منبعاً من النور، أو جمرة تجدح)).
يمارس الهدم على كل أشكال الموانع ويجازف في التجاوز على مفاهيم العلاقات الداخلية، والشعر عنده ادخار وجذور يتعامل معها بسلام. علاقته منحوته بدقة لذا نجده قائلاً:
  (( أحن إليه بليغ الصموت معاينة عن نفسها تفصح
  تفايض منه كموج الخضم أو لحن ساجعة تصدح))
.
لا يكلف مسالك الوحدة واللغة وروحه الشفافة تجاه هذه المخلوقة التي سلبته وأعطته كل ما يمكن أن يكسبه أو يخسره بأضيق المراحل وأعمق التوالد. المرأة عنده بلدهِ الوحيد وأخص خصائصه.
هي نشيد القلب والصاعد من الأنفاس.. قراره في كتابة الشعر لا يفقهه، ولكن علاقته بالمرأة واهتمامه سر يفهم معانيه كما يقول:
((   كأن الدهور بأطماحها إلى خلقه مثله تطمح
                         كأن الأمور بمقياسه تقاس فتؤخذ أو تطرح)).

يعيش فهما حقيقيا في تقويم العلاقات الإنسانية ووجودها عنده ليس عشوائيا لا يسأل نفسه من أي ضلع خلقت لذا يوليها اهتمامه أكثر من باقي الأشياء وبحذر شديد حتى لا يسيء إليها. أنه متعصب في طرح الإطار الذي يحيطها، في نظره المرأة جوهرة لا يمكن أن تترك من دون عناية.
وحدها تعرف كيف تصد ثورات غضبه إذ يقول:
(( يشد جناني بعزماته ودمعي ببسماته يمسح
ويبرد نفسي بأنفاسه إذا لفني عاصف يلفح ))

أنفاس رحل, إذن, عبدالرحمن منيف, لكنه لن يغيب.. سوف يبقى طويلا في ضمير أمته: مناضلا  خاض في العمل السياسي, علنا  وسرا , من أول الشباب كانت فترة عاصفة, حبلى بكل الاحتمالات: بطش وقمع من ناحية, واشتداد حركات المعارضة الراديكالية من الناحية الاخرى, ولم يكن لكل الحالمين بمستقبل أفضل سوى أن يحددوا مواقعهم وينغمسوا في النضال, وهكذا فعل عبدالرحمن منذ قدومه من عمان الى بغداد نهاية الاربعينيات حتى أبعدته حكومة نوري السعيد منتصف الخمسينيات ليتابع النضال من مواقع أخرى. في 1958 سافر لاستكمال دراسته في جامعة بلغراد, وفي 1961 حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية (كان موضوع رسالته «اقتصاديات النفط- الاسعار والأسواق»), ثم عاد ليعمل في صناعة النفط في سوريا, وفي 1973 غادرها الى بيروت للعمل بالصحافة, وفي 1975رجع الى بغداد حيث أصدر مجلة متخصصة هي «النفط والتنمية», وفي 1981 خرج من بغداد ثانية الى باريس حيث تفرغ للكتابة, وفي 1986 رجع الى دمشق التي ق در لها أن تكون منفاه الأخير.
ورغم صعوبة معرفة التفاصيل حول ممارسته العمل السياسي والحزبي حتى منتصف الستينيات على وجه التقريب, حين توقف عنها, فقد قمت بتحقيق صغير مع من يمكن أن يكون لهم قدر من المعرفة بهذه الممارسة, واستطعت أن أصل لبعض ملامح الصورة: كان منيف مثالا «للكادر» الحزبي الملتزم والمنضبط (يرتفع صوته بالجدل والنقاش في الاجتماعات الحزبية ويلتزم الصمت خارجها), وكان ينحاز دائما الى جانب المواقف والأفكار الأكثر جذرية وراديكالية داخل التنظيم وخارجه, كما كان مثالا للتعفف والنأي عن السعي لتحقيق أهداف او مطالب خاصة, ومن ثم لقي الاحترام من المخالفين له والمتفقين معه على السواء, وكان قارئا  نهما  ومثقفا  عارفا  بالتاريخ والتراث. وثمة تفاصيل كثيرة في هذا السياق تتردد فيها أسماء «الجناح اليساري» أو «جماعة الدكاترة» في البعث السوري. والموقف من الانفصال, ومؤتمر حمص في 1963. المهم هنا ان عبدالرحمن أسقطت عنه جنسيته (السعودية) بعد هذا المؤتمر, فعاش حياة المنفى حتى الرمق الأخير.
ليس في حياة عبدالرحمن منيف, إذن, ما يخفض جبينه الشامخ, لم يقف يوما  في ظل حاكم أو نظام, وقد كان الحكام- في اكثر من بلد عربي, وفي ظل أكثر من فترة في هذا الزمان العربي المضطرب- رفاقا  له او مريدين, يتمنى كل  منهم أن يجتذبه لجانبه, لكنه عف  عنهم جميعا , وعاش حياته فقيرا  أو كالفقير, لكنه متشح بالنبل, مزدان بالكبرياء, لهذا قلت  انه سوف يبقى في ضمير أمته مناضلا .
وسوف يبقى في وجدان أمته مبدعا  عظيما  كذلك. قال- أكثر من مرة- انه رأى الاستغراق في العمل السياسي «خدعة كبيرة.

أنفاس بعد هذه الأعوام الطويلة والثقيلة عرفتُ ما يكفي عن طبائع البشر ولكني مع ذلك توقَّفتُ مندهشاً كما توقَّفُ العديدون غيري , بعد رحيل الشاعر العراقي سركون بولص , أمام هذا السيل الهادر من المراثي والمآتم واللطميّات الثقافية !
وصار مألوفاً تماماً هذه الأيام أن تجد كلَّ فاشلٍ من الشعراء والكُتّاب وهو يتأبَّطُ ديواناً لهذا الشاعر متباهياً بهِ.
وأحدُ الكُتّاب فاخَرَ قبلَ أيامٍ بنفاد دواوين سركون بولص من الأسواق !
لقد حوَّلوا هذا الشاعر , وهو أبسط من هذا بكثيرٍ , الى كائنٍ مهرجانيٍّ لا يُشَقُّ لهُ غُبار !
كائنٍ مهرجانيٍّ يتبادلون على جثمانهِ الأنخاب حيث الكلُّ يدَّعي صداقتَهُ , ولكي يثبتَ لك ذلك فإنه ينسى ( حزنَهُ وحِدادَهُ ) على رحيل الشاعر فيُظهِر لك بفرحٍ وزهوٍ صُوَراً فوتوغرافيةً التَقَطَها مع الشاعر الراحل كأعزِّ ما يمكن أن يقدِّمَهُ للتأريخ وللقُرّاء بعد أن عَجَزَ عن كسبِ إعجابِ القُرّاء واعترافهم به من خلال ما يَكتبُ فهنا ليس الفتى مَن قال إني انا , بل الفتى مَن قال إني صديق الراحل !
وهذه الورطة هي بحدِّ ذاتها سورياليةٌ جسَّدوها على أرض الواقع ولم يجسِّدوها , رغم  رخاوتها , في كتاباتهم , فالمكالمات الهاتفية واللقاءات والبرقيات والفاكسات والنواح الإليكتروني , كلُّ هذا لم يترك لك مجالاً لمعرفة شيءٍ من شيء والجميعُ يُعرب عن عميق خسارتهِ مستعيداً بكلِّ أسفٍ ذكرياتهِ الحنون مع الشاعر الراحل , كلُّ هذا والشاعر سركون بولص يحتضرُ ولم يمتْ بعد !!
أمّا وقد مات بالفعل فَعَليَّ أنْ أشيرَ الى أنَّ هناك حقاً أصدقاء لهذا الشاعر قد حزنوا بصدق وتألَّموا في وحدتهم لأنهم كانوا يفهمون هذا المبدع ويقدِّرون إبداعهُ وسموَّ روحهِ إلاَّ أنهم قِلةٌ وعليَّ أن أشير كذلك الى أنَّ الغالبية , وهي هذه الطفيليات التي تعتاش على أوجاع الضحايا الأنقياء , هي ما دعاني الى كتابة هذه السطور وقد ذكرتُ في رسالة إيميل الى الروائي العراقي المبدع حمزة الحسن قائلاً : ( إنَّ مقالك الأخير حول هذه المأساة قد أغناني عن الكتابة كما أغنى الكثيرين ) . إلاّ أني وجدتُ أنَّ هناك أموراً أخرى تضغط باتجاه المزيد من التعبير علماً أن الروائي حمزة الحسن حسب علمي هو الوحيد - لحدِّ الآن - الذي انبرى ليقول ما هو مختلِف , ليكتبَ مُنَدِّداً بسلوكيات هذه الجوقة من الإنتهازيين بشجاعة وألمٍ (*) وذلك في مقالهِ الأخير المنشور في موقع آرام تحت عنوان ( شاعرٌ ميِّتٌ يحمل جنازةَ مُشَيِّعيهِ ) وقد قرأتُهُ بحرصٍ فما كان مني إلاّ أن أرسلتُ إيميلاً الى كاتب المقال عبَّرتُ فيه عن تقديري لمقالهِ فأجاب في رسالةٍ طارحاً فيها سؤالاً محزناً مرتاباً : مَن سيكون الجثةَ القادمة ؟
وممّا جاء في مقالتهِ , بعد أن استثنى أصدقاءَ الشاعر الحقيقيين : ( سركون بولص المنعزل المبدع الخجول , الشاعر الحقيقي يفضح في موتهِ كما في حياتهِ مأدبةَ ذئابٍ تعيش على الجيَف وعلى ألمِ الناس وعلى الشرفات العالية , لأنَّ المزابل تريد الظهور في مأتم الشرفات للتعريف بنفسِها لا بالميت . ) وأمّا عن حزنهِ هو فيقول :

أنفاس مـقـدمـة : تميزت الفترة  الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وما بعد الحرب العالمية الثانية بتراكم كبير في مجال الدراسات اللغوية، واذا كان من الصعب تصنيف هذه الدراسات في خانات معينة ، انطلاقا من معايير محددة ، فانه يمكن أن نميز ، على الأقل ، بين مدرستين فيما يخص المناهج المعتمدة في دراسة وتحليل المواد اللغوية وما يرتبط بها من صيرورات ذهنية وعوامل فيزيولوجية ومؤثرات خارجية.
  في هذا الإطار تندرج محاولة عقد مقارنة بين اتجاهين يعتبران من اكبر الاتجاهات اللسانية الحديثة انتاجا واستهلاكا. ويتعلق الأمر بالمدرستين : البنيوية والتوليدية .
ما هي  اذن الأسس المعرفية والفلسفية لكل منهما ؟ ما هي منطلقاتهما المنهجية ؟ ما هي أساليب تحليلهما للظاهرة اللغوية ؟ وما هي أوجه التشابه والاختلاف بينهما ؟ هذه مجرد أسئلة نحاول الإجابة عنها ونحن نستهدف بالدرجة الأولى المتلقي العادي ،غير المتخصص ، الذي نعتبره في حاجة الى المعرفة اللسانية التمهيدية بطريقة بيداغوجية مبسطة.
1 – تحديدات أولية مفاهيمية
1 -1 : مفهوم المنهج : ان كلمة منهج مستمدة من الكلمة اليونانية (Meta-hodos) ؛ ومعناها الطريق أو النهج الذي يؤدي الى هدف ما. وفي اللغة العربية ،المنهج هو الطريق الواضح. ويبدو أن آرسطو هو أول من استعمل كلمة " منهج "، وأسسه على دعامتين : الأولى منطقية تبدأ بالمسلمات ثم تنتقل الى طبقات الاستنتاج المنطقى الصارم لتنتهي بالنتائج ؛ والثانية دعامة اجرائية تبدأ بالمشاهدة الدقيقة ، ثم تنتقل الى استنباط التعميمات في سلم تتصاعد درجاته حتى تصل الى المبادئ الأولية1 . ويعني هذا التصور الآرسطي أن الباحث يكتشف بالاستقراء ثم يؤسس معرفته في شكل استنتاج. وفي بداية العصر الحديث ظهرت نظريات متعددة في المنهج على يد كل من فرنسيس بيكون وروني ديكارت وبرتراند راسل وميل ستيوارت. يركز بيكون في مؤلفه ( الأورغانون الجديد ) على الاستقراء التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة ثم القيام بمختلف انواع التجارب ، خلافا لصاحب الاورعانون (ارسطو ) ، الذي ينطلق من معطيات نظرية. أما ديكارت فانه يركز على التحليل والتركيب. وحتى لا نغوض في اشكالية التعريف ونتطرق لإشكالية التطبيق في حقل الدراسة اللسانية، نقترح التعريف التالي للمنهج :
" المنهج هو مجموع العمليات العقلية والخطوات العملية التي يقوم بها الباحث يهدف الكشف عن الحقيقة او البرهنة عليها بطريقة واضحة وبديهية تجعل المتلقي يستوعب الخطاب دون أن يضطر الى تبنيه2 ". ويتضمن هذا التعريف الذي نقترحه الجانب العقلي والجانب العملي في الممارسة. وهذه الازدواجية تقودنا الى طرح الحديث عن منهجين هما :

أنفاس 1- تعريف الجنون:
يتميز الجنون كمفهوم عام ، بكونه يعبر عن وظيفة دلالية مركبة، بشكل يجعلها تحيل على مرجعيات مختلفة و متعددة ،ترتبط بطبيعة البيئة الاجتماعية و الثقافية التي ظهرت  فيها . و يتم العامل مع ظاهرة الجنون ، حسب مستوى الوعي الذي وصل إليه كل مجتمع .
1-1الدلالة الدينية
تكتسي هذه الدلالة طابعا دينيا واضحا ، نظرا لتركيزها القوي على التصور الغيبي لمعنى الجنون . فمفرده جني ، و يدل في القرآن الكريم ، على كائن لامرئي ذي طبيعة نارية ، يقول تعالى : (و خلق الجان من مارج من نار )1،لهذا فالجن هو (نوع من العالم ، سموا بذلك لاجتنابهم عن الإبصار )2، أي لاختفائهم عنها .
و يشير لسان العرب في موضع آخر ، إلى دلالة الاختفاء هذه المرتبطة بلفظة الجنون، فيقول : (جن الشيء يجنه جنا : ستره ، و جن عليه الليل : ستره ، و جن الليل و جنونه وجنانه : شدة ظلامه )3.
إن مفهوم الجنون ، من الناحية اللغوية، لا يخرج إذن عن إطار دلالة الغيب و الاختفاء و التستر المطلق بصفة عامة .هذه الدلالة الدينية التي تفرض علينا أن نقول ، في نفس السياق و بتعبير مختلف ، أن المجنون ، و هو الشخص المصاب بالجنون ، في عرف الفهم العربي و الإسلامي ، الذي هو في عمقه و شكله ، فهم تراثي و تقليدي يعكس مستوى الوعي العام الذي يسود في مجتمعه، بحيث يعتبره ذلك الشخص الغائب و المختفي و الدائم التستر ، في واقع مادي محسوس و طبيعي .لكن بأي معنى نفهم دلالة الغياب و الاختفاء المرتبطتين بظاهرة الجنون؟

-2-1الدلالة النفسية

تركز المعاجم اللغوية ، و بعض الكتابات العلمية و التحليلات النفسية الحديثة، في تفسيرها لظاهرة الجنون ،على التصور الذاتي و المرضي ، بحيث تنطلق في كل ذلك من معطيات تجريبية و آليات علمية صرفة، تعتبر الظاهرة حالة نفسية يمكن تفسيرها ، و بالتالي معرفة العلاج العلمي المناسب لها .

فجاء في المعجم العربي (جن جنا و جنونا ، زال عقله ، أو فسد ، فهو مجنون ، ج مجانين )4.أما المعجم الفرنسي فيشير إلى أن المجنون le fou هو ذلك الشخص المصاب بالاضطرابات النفسية و الاختلاط الذهني 5 ، أما الكاتب الفرنسي فولتير فيعرف ظاهرة الجنون بكونها من الأمراض التي تصيب أعضاء الذهن البشري 6.

أنفاسمن دون شك بأن بطل رواية (العطر) البديعة لـ(باتريك زوسكيند) هي شخصية متخيلة، مخترعة، ولا يمكن أن تكون حقيقية، بالرغم من أنها عاشت بيننا، وما كساها مؤلفها إلا لحماً ودماً وموقفا، فصرنا لن ننسها أبداً، لأنها شخصية فاعلة، وخارقة قد أسبغ عليها المؤلف أوصافا لا يمكن أن تنطبق على إنسان، (وإذا كان اسمه اليوم قد طواه النسيان، على نقيض أسماء نوابغ أوغاد آخرين، مثل دوساد، سانت جوست، فوشيه، أو بونابرت[1])، لأجل أن تبقى تعيش بيننا تتحدى النسيان، وتتحول إلى كائن قد عاش على هذه الأرض وترك أرثا عظيماً، بأفعاله، كما أي شخص حقيقي قد ولد ومن بعد حياة حافلة قد مات. (أنا الوحيد الذي أدرك مدى جماله الحقيقي، لأنني أنا من أبدعه- الرواية[2]) شخصية بقيت تثير الإعجاب، وت مضي بقارئها كأنها تأخذه مسحورا، وبقيت كشخصية روائية بقيت مكتسية بثقافة المؤلّف الذي ولد عام 1949م، حيث بدأ موسيقيا فاشلا، وأصبح فيما بعد صحافيا ناجحا، درس التاريخ في جامعة ميونخ 1968-1974م، كتب مسرحية (عازف الكونترباس) مونودراما في فصل واحد في عام 1981م اصدر رواية العطر عام 1985م، وفاز عام 1987م بجائزة غوتنبرغ، (يعيش حاليا في باريس متفرغا لكتابة السيناريوهات السينمية)، و (العطر) رواية مشوقة لا يمكن لقارئ ما تركها، أو نسيانها، واغلب أحداثها تحلل الطبيعة البشرية بكل تفصيل، كونها حوت خصائص سردية مثيرة، والمؤلف عاد بها إلى تاريخ 17-7 -1738م، يوم مولد بطلها صاحب الأنف الأسطوري بتحسسه للروائح (جان بالتيست غرنوي) في مزبلة نتنه، من أزقة باريس الخلفية، (في أكثر أماكن المملكة بأسرها زخماً بالروائح- الرواية- ص 7)، وُلد من أم عاملة (صبية في منتصف العشرينيات من عمرها، والتي مازال جمالها باديا- الرواية[3])، وقد تركت أخوته (كما فعلت في الحالات الأربع السابقات[4]) دون رجعة تحت طاولة تنظيف السمك، امرأة في فقر مدقع، بائسة، تعمل في شارع قذر، حيث تعمل على تنظيف فضلات السمك، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع الفضلات كي يموت، ويُلقى في النهر مع النفايات. أدى ذلك إلى افتضاح أمرها، ساقها إلى المحكمة، فالإعدام تحت المقصلة. أما الطفل المسخ (كان قبيحا، ولكن ليس إلى درجة أن يرتعد الإنسان من بشاعته- الرواية[5])، تنقل بين المرضعات اللواتي كنّ يتركن دون أسف عليه لما يبثه فيهن من شعور بالتقزز لجشعه المفرط في ر ضع الحليب، فلم تقبل به إلا مرضعة بائسة، كانت لا تشم، ولا تشعر بما حولها، قبلت به انتحارا، وكل ذلك لا يضفي على الشخصية بأنها حقيقية، شخصية اجترحت بذكاء بالغ، شحّ نظيرها في الروايات العالمية، حيثُ أمضت الرواية في انف قارئها فعلا قرائيا، وليس عبر عينيه، فإطار الرواية التاريخية هو القرن الثامن عشر، ومساحتها الرئيسية هي الروائح بشكل عام والعطور بشكل خاص، معتمداً المؤلف على مرجعية علمية متخصصة بصناعة العطور في ذلك الزمن، وتراكيبها، والمواد الأولية لها ومقادير الخلطات، وسارت الحكاية تجول في الطبيعة مقارنة بما يشمه الأنف من مزارع الزهور، وسردت درساً لجغرافية باريس البراقة، ومختلف المناطق الفرنسية التي سارت عليها أحداث روايته.

  1- عرف الفكر الأدبي العربي منذ بدايات الثمانينات تحولا كبيرا سواء على مستوى مرجعياته أو طرائق تعامله مع النص الأدبي، أو تفكيره في مجمل القضايا المتعلقة بالابداع. وبرز ذلك بصورة جلية على صعيد لغته وما صارت تزخر به من حمولات تختلف عن اللغات السابقة. نجد أهم ملامح هذه التحولات الطارئة على صعيد اللغة من خلال:
أ - توظيف مصطلحات ومفاهيم عديدة وجديدة سواء من حيث بنيتها أو تركيبها أو دلالتها.
ب - إدراج الأشكال والتخطيطات والجداول ضمن التحليل.
ولا يمكن للقاريء، أيا كان نوعه، إلا أن يجد في أغلب الدراسات التي ظهرت منذ هذا الوقت ميلا واضحا نحو توظيف أكبر عدد من المسطحات، وقدرا لا بأس به من الأشكال والتخطيطات. ونجم عن هذا التحول الذي يتجلى للوهلة الأول على صعيد اللغة ببعديها الاصطلاحي ( اللفظي) والتخطيطي ( الصوري) أن وقع التسليم بصعوبة هذا المنحى النقدي الجديد لدى البعض، أو التأكيد على لا جدواه عند البعض الآخر. وتوالت ردود الفعل المتهمة لهذا التوجه، أو لقدرته على تحويل رؤية فكرنا الأدبي أو تجديد مساره.
2- بدأت تتواتر الدراسات والترجمات، رغم الصعوبات والعراقيل التي يصطدم بها أي جديد عادة، وكثر المشتغلون في نطاق هذا التوجه النقدي الجديد. وهنا بدأت تتراكم المشاكل وتتفاقم الاشكالات، إذ لم تبق الخلافات مقتصرة على الطرفين التقليديين: أنصار الحركة الجديدة وخصوصها، ولكنه امتد الى الانصار أنفسهم، وبدأنا نعاين التناقضات تتعدى الاختلاف الى الخلاف، وظهرت الكتابات المختلفة لتجسيد ذلك والتعبير عنه. وغدت امكانية ملامسة هذا الخلاف في العدد الواحد من المجلة: فالمفاهيم والمصطلحات الموظفة ذات مرجعية واحدة، لكن الأختلاف بين في استعمالها، والخلاف صار متعددا بتعدد هؤلاء المشتغلين بها، وصار الجميع يستشعر فداحة الأمر، وضرورة تجاوزه، وإن ظلت السجالات حول هذه المصطلحات ترمي الى تغليب بعضها أو الانتصار لها على البعض الآخر، بناء على دواع ذاتية، أكثر مما هي مؤسسة على مقتضيات منهجية أو علمية حتى وان كانت المبررات المقدمة تصدر الدعوى العلمية والمنهجية.
3- إننا فعلا أمام ضرورة ملحة وعاجلة للبحث في المصطلح الأدبي العربي الجديد، لقد ذهب "لافوازييه" وهو يتحدث عن المصطلحية الكيميائية الى حد اعتبار أنه "لا يمكن تطوير اللغة بدون تطوير العلم، وكذلك لا يمكن تطوير العلم  بدون تطوير اللغة "(1). وهو لا يقصد باللغة هنا غير المصطلحات الموظفة في العلوم. وتأتي هذه الضرورة من كوننا "نصطلح " على الاختلاف، أكثر مما نتفق على "الاصطلاح".

أنفاس مقدمة:
اشتهر عبد الله العروي بكتاباته عن أزمة المثقف العربي . رآها انعكاسا لأزمة المجتمع , ولكنه اعترف بوجود « أزمة ذاتية تهمه هو ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه » ، وهي أزمة تجعل أزمة المجتمع أعمق وأخطر , خصص لها مقالة في المؤلف المشار إليه أسفله، تناول فيها بالدراسة والتحليل أسبابها التي حصرها في عاملين أساسيين وهما . ازدواجية التكوين وضعف استيعاب العلوم الاجتماعية, واستخلص منها سمات المثقف العربي ، وجعل في مقدمتها البؤس الذي « يقود كثيرا من المثقفين إلى اليأس من إصلاح شؤون المجتمع » ( ) ، . نجد في « أوراق » معلومات دقيقة حول سمات شخصية المثقف المغربي والعوامل المؤثرة فيها , المعطيات التي تزخر بها « أوراق " يمكن استغلالها في دراسة الحالة"  .
صرح المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية ( ) بأن الأمر يتعلق بوصف شخصية إدريس حيث قال : « من وراء التساؤلات حول الموضوع والأسلوب … توجد شخصية إدريس » ودعا القارئ إلى الكشف عنها , قالها بنوع من التحدي كمن يدعوك إلى حل لغز من الألغاز المستعصية , قدم لنا شخصية ملفوفة محجوبة ، تتوارا خلف تقنيات السرد الروائي وأشكاله التعبيرية التي يمتزج فيها الصدق بالتمويه , واعتبر محك الفهم هو القدرة على خرق الحجاب للوقوف على عناصر الشخصية وإعادة بنائها , ولا يستقيم البناء إلا بالاعتماد على الخيال لاستنباط الحلقات المفقودة التي تعمد المؤلف انتزاعها من السلسلة , ذلك ما عبر عنه بقوله: « أوراق إدريس هي حياته ، لكن حياته ليست كلها في أوراقه , يبقى مجال واسع يرتع فيه خيال القارئ ، خاصة الشاب، يتصور ما كان وما لم يكن ، وما كان يمكن أن يكون » ( ص8), وصرح المؤلف أيضا بأن الهدف من كتابة سيرة إدريس الذهنية هو وصف الجو الثقافي الذي عاش فيه رعيل المثقفين من ذوي الثقافة المزدوجة الذين اشتهروا في مرحلة ما بعد الاستقلال, لذلك يمكن أن نعتبر سيرة إدريس الذهنية حالة نموذجية تمكننا من إدراك القواسم المشتركة الموجودة بينهم بخصوص اختياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والمعتقدية والعوامل المأثرة فيها , هذا هو الهدف المعلن , ونحن نفترض وجود أهداف ضمنية يسعى الكاتب إلى تحقيقها عن وعي أو عن غير وعي , ما هي هذه الأهداف ؟ ما هو الدور الذي أراد الكاتب لرواية السيرة الذاتية أن تلعبه ؟ ما وظيفة تعليق الراوي عليها وتعليق شعيب ؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها , سنركز التحليل على نقطتين أساسيتين وهما: أولا ، مسيرة تكوين إدريس الفكري , وسيكون الهدف هنا هو بيان تأثير الفكر الغربي في شخصيته وما ترتب عن ذلك التأثير من تمزق في الذات , ثانيا ، محاولة بناء الشخصية من خلال جمع شظاياها المبعثرة في مختلف الفقرات , وهو ما سيمكننا من تشكيل فكرة عامة حول صاحب السيرة والكشف عن الأهداف المضمرة التي تساءلنا عنها.