أنفاسالفنان الذي قتله" كاريكاتيره"...الفنان الذي" قتلناه"...الفنان الذي " أكله الذئب"...الفنان الذي قال:" اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي".
اصـعد ؛" فــمـوطنـك السماء..!
ناجي العلي لقد نجوت بقدرة../ مـــن عـارنـا ، وعـلـوت لـلعـلياء../ إصـعد ؛ فــمـوطنـك السماء ؛ وخلنا../ فــي الأرض إن الأرض لـلــجـبناء...!
ألشاعر "أحمد مطر".
تمر الأيام والسنين كأنها دقائق معدودات، حافلة بأحداث كثيرة، تمر علينا كنسيم البحر هادئا لا نشعر أحيانا بمروره، وتحمل في طياتها الحزن إلى قلوبنا. تعج بأحداث كثيرة أثرت وما زالت تؤثر في نفوسنا.
نقف لحظة لنسترجع ونستعرض شريط أحداثنا... أحداث الماضي... نلف هذا الشريط الطويل، ونعود بعجلة الزمن حتى نصل إلى عام 1987 وفي التحديد إلى 22 تموز عام 1987 . انه التاريخ الذي طبع في قلب كل إنسان عربي، وأصبح ذكرى سنوية لفنان فلسطيني عربي يدعى: "ناجي العلي". الفنان الذي تمسك بإبداعاته وإنجازاته... وأصبح علماً يرفرف في السماء من وراء هذه الإنجازات التي أكسبته شهرةً وصيتاً لامعاًُ... الشخص الذي تحدث وما يزال يتحدث عنه الصغير قبل الكبير... كيف لا وذكراه ما زالت عالقة في القلوب والعقول. ولد الشهيد عام 1937 في قرية الشجرة الفلسطينية قرب طبريا التي احتلت بعد معارك عنيفة ودامية سقط فيها اكثر من ألف شهيد معظمهم من جيش الإنقاذ وكان معهم أيضا الشاعر الفلسطيني "عبد الرحيم محمود" صاحب الأبيات الشهيرة:
سأحمل روحي على راحتي*** وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق*** وأما ممات يغيظ العدى..!
على نهج هذه الأبيات ووهجها الحار والمضيء عاش ناجي حياته واختار رسالته وعنوانها الواضح، بعدما نزح مع عائلته إلى لبنان حيث عاش طفولته في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا الساحلية في جنوب لبنان، وعمل في مهن عدة قبل ان يصبح بعد فترة وجيزة أحد أهم الأعمدة الأساسية للصحافة الحرة والمستقلة في الوطن العربي الكبير
فالرسم هو المهنة التي خلقت إبداع ناجي والتقط هو بدوره سر النجاح فيها، فأصبح رسام الكاريكاتور الأول في العالم العربي، والمبدع بلا منازعة في مجال تحديد الهدف وتشخيص الحدث بدقة. ولم يكن الوطن العربي يومها أحسن حالا من يومنا هذا. إذ كان لا يزال يعج بالتخبطات السياسية والسياحة الثورية وانعدام الديموقراطية والمساواة وحكم الشخص والعائلة والأقلية والجنرالات وأولياء العهود وأصدقاء الصهاينة اليهود.

أنفاسكلما قرأنا قصيدة من القصائد الشعرية، يداهمنا سؤال إشكالي تستثيره لدينا جدلية تقريرية اللغة وإيحائيتها:
هل دلالة الشعري تحد بما تدل عليه  دوال هاته القصائد، أم بما تكتمنه وتومئ إليه؟
يبعثنا هذا السؤال على القول: إن دلالة الشعري دلالة متعدية غير لازمة، تتجاوز في سياق تلقياتها  المعنى الحرفي، لتغدو حسب المصطلح النقدي المأثور "معنى المعنى"، فهي تدل بدوالها اللغوية على معان مباشرة، فلا تلبث أن تدل هاته المعاني  أثناء القراءة على ما يتعداها إلى ما سواها من المعاني، في دفق حركي خصيب يستمد شحنته المحفزة على التعدي الدلالي من كفاءة تأويل شفرتها النصية(1).
من ثم فالشاعر في مساق صوغه الكيمياء الشعرية، تستحيل لديه اللغة الشعرية دوالا، تدل على نظام لغوي إبلاغي، يخالف النظام اللغوي التداولي المألوف، فإذا كان هذا النظام ترتهن   لديه الدلالة بما أودع في الدوال  من مداليل تقريرية مباشرة، فإن ذاك ترتهن لديه بما أودع في  المداليل المباشرة من مداليل إيحائية غير مباشرة، تستشف بقدر ما تستثار من اللغة طاقتها التضمينية، هاته الطاقة التي توقع في الرؤية الشعرية حركة السؤال المتوهج ، الذي يوسم بوسم "السؤال الحركي"، المتحرك في ما لا ينفذ من أجوبة التأويلات.
بهذا تصبح دلالة الشعري وقفا على ما تحتمله دوال الكتابة من مداليل، أي وقفا على الاحتمالات الدلالية التي تحتملها في سياق جدلية التلقي دوال الصور الشعرية، التي تعبر بها القصائد عن حركيتها الدلالية ضمن تركيبة لغوية أدبية متظافرة العناصر اللغوية.
إن  هاته الحركية التي تتيحها الكتابة الشعرية، حتى تسترسل في  التلقيات المتواترة تكشف التجربة الشعرية، باعتبارها تجربة ذاتية  لا تلبث أن تتذاوت مع الذوات المتلقية،  من خلال كتابتها التي تتنزل منزلة السؤال المفتوح على أجوبة القراءات، التي تتناسل حولها باحتمالاتها دون أن تحدها بإجابة قطعية أو بصيغة نهائية.
فالتجربة من خلال هاته الكتابة تدل على أن الشعر فضاء مشرع على الحوار الرحب، الذي لا تحده ضفاف، فهو فضاء تتوهج فيه الرغبة في  استكشاف الكتابة المغايرة، التي لا تلبث في صيرورتها أن  تنزاح بالكتابات والقراءات عن طقسية النموذجي.
بهذا المعنى يبدو الشعر كتابة لا تبدأ لتنتهي، ولكنها تنتهي لتبدأ، باعتبارها فعلا خلاقا، دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، أي توقا إلى اللانهائي واللامحدود(2).
إن هذا المعنى المستحصل الذي أضحى الشعر العربي يهجس به في شتى المحافل الشعرية، لما له من مفاعيل وآثار في ما يكتب منه، تتبين ملامحه بجلاء في المساعي التالية:
أولا، تحطيم إطلاقية النص الجاهز، وجعل شعرية القصيدة كامنة في قدرتها على التحاور مع التراث الإنساني، بغية تحيينه في طرائق تعبيرية مغايرة متفاعلة مع الصيرورة المجتمعية.

أنفاس" انني في السفر وحده أجد نفسي متكاملا "
بيتر بروك
لاشيء بعد كل شيء.. سوى كتابة المذكرات , وانتظار الموت ..
لكن يبدو ان المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك ( 1925 -     )  بعد كل هذه الستين عاما من الابداع المسرحي والسيمي حيث بدأ في منجزه الفني منذ عام 1946م , يحاول ان لا ينتظر سوى المزيد من الابداع المسرحي المتواصل برغم شيخوخته القدرية التي تحتضنه الآن ..
ومع هذا نراه يعمد الى كتابة سيرته الابداعية تلك مثلما يعمد العديد من المبدعين في أخريات ايامهم ..لكن مايميز سيرة بروك هذه عن سير الاخرين انها جاءت متجاورة و لصيقة بتنظيراته المسرحية المهمة التي عهدناه له في اكثر من كتاب .. فهو لم يلجأ هنا الى السيرة الشخصية حسب , بل طوعها الى الكشف عن آرائه التنظيرية وتحليلاته المسرحية ازاء كل هذه الخيوط الزمنية المتعاقبة والمتنقلة عبر محطات مكانية وزمانية عديدة .
    في كتابه الجديد والموسوم ( بيتر بروك خيوط الزمن – سيرة شخصية ) الذي قام بترجمته وقدم له ( فاروق عبد القادر) والصادر حديثا عن دار العلوم للنشر والتوزيع- القاهرة- في طبعته الاولى .. يسرد بيتر بروك سيرته الابداعية منذ اهم محطاتها الاولى .. كاشفا عن اهم انبهاراته التي قادته الى عالم الاخراج المسرحي والسيمي على حد سواء .. فعبارة ( ممنوع الدخول ) الذي كان يراها مرفوعة على بعض الابواب والشوارع وغيرها تثيره جدا وتستفز فيه حب الفضول وهو لما يزل طفلا.. فلماذا مُنع الدخول .. فيقول : " وكنت اطور خيالات جامحة حول هذه المداخل مقتنعا بانها لابد تخفي متاهات غامضة تؤدي الى عالم تحت المدينة , وقد تمنيت طويلا ان ارفع مزاليج هذه الابواب الحديدية الممنوعة وانفذ من خلالها ... " كان يوقن ان ثمة عالما اخرا يربض خلف هذه الابواب .. عالم ثان مليء بالدهشة وغني بالاسطورة ويؤدي الى عوالم اخرى جديدة .    والانبهار ذاته حينما  يذهب مع امه - التي يصفها بانها صاحبة ميول فنية -  لمشاهدة مسرحية , فلم يكن لينبهر بالحكاية او بالممثلين بل بالابواب والاجنحة فيقول : " فهي التي تستولي على خيالي ,الى اين تؤدي ؟ ماذا وراءها ؟ ويوما ما ارتفع الستار , ولم تكن الحوائط الثلاثة المعتادة لغرفة المعيشة , بل ظهرت سفينة عابرة محيطات حقيقية ولم يكن مفهوما اين تنتهي هذه السفينة الرائعة في جناحي المسرح . كان علي ان اعرف الى اين تؤدي هذه الممرات بعيدا عن تلك الابواب الحديدية الضخمة , وماذا كان فيما وراء هذه الكوى على جانبيها , اذا لم يكن البحر فهو المجهول . "

أنفاسالجزء الثاني من "باب الحارة" دراما اجتماعية شامية من تأليف كمال مرة واخراج بسام الملا...مسلسل تدور أحداثه في العشرينيات من القرن الماضي ويسلط الضوء على مناخ الحياة الاجتماعية الدمشقية والقيم النبيلة والعادات والتقاليد لهؤلاء الناس و مقاومة الاستعمار الفرنسي. "باب الحارةِ" مسلسل سوري جريء للغاية يمثل التجاذب السياسي في المنطقة ويقدم الميلودراما الاجتماعية المشوقة،التي توثق في تفاصيلها الحياتية واليومية على اثر خلفيات تاريخية ترتبط بأحداث سياسية تمثل واقعا يعيشه شخوص العمل ويتفاعلون معه كجزء لا يتجزأ من مرحلة تاريخية، "باب الحارة" قدم الكثير من الخيوط الدرامية الاجتماعية والشخوص التي تجتمع خيوطها وتفاصيلها في سرد عدة محاور عامة ورئيسية.. يعتبر مسلسل باب الحارة من أميز المسلسلات وأبرزها بل انه تفوق في عدد المشاهدة خلال شهر رمضان المنصرم وذلك في التجدد في الطرح وسرد القضايا الاجتماعية والإنسانية في محور الحارة التي تمثل مدينة كاملة لاسيما وان العمل يجسد عناصر التعاضد والرأفة والرحمة واللحمة الوطنية بين أبناء الحارة والانتماء لكل ماهو أصيل ضمن مجتمع تسوده حضارة متأصلة عريقة عنوانها الفضيلة.
منذ سنوات عديدة لم يتابع المشاهدون بفلسطين باهتمام مسلسلا تلفزيونيا عربيا كما تابعوا خلال شهر رمضان الفضيل "باب الحارة" والملفت للنظر بان شريحة كبيرة تابعت هذا العمل من مختلف الاعمار والاذواق والمستويات الثقافية والاجتماعية لدرجة ان موعده في الثامنة مساءً اصبح موعدا للجلوس امام شاشة التلفزيون منتظرين احداثه. السؤال الذي يطرح نفسه, لماذا حظي هذا العمل بهذه المتابعة والاهتمام واستطاع ان يشغل الشاب قبل الشايب والصبية قبل الختيارة..؟
ان هذا العمل هو جزء ثان لجزء اول ناجح خاصة وان المشاهدين بفلسطين يحبون هذا النوع من المسلسلات السورية التي تتناول حياة الحارة في الشام نظرا لانها قريبة جدا من بيئتنا وقد سبق ان نجحت عدة مسلسلات من هذا النوع مثل ليالي الصالحية وليالي شامية وغيرها لكنها لم تحقق ما حققه "باب الحارة".
المسلسل يركز على العلاقات الانسانية والصراعات المنزلية او العائلية التي تنعكس على شريحة اكبر وهي الحارة وبالتالي فان هذا النوع من الاعمال يصل الى المشاهد بسرعة ومن دون تعقيد خاصة وانه لا يحمل بين طياته اهدافا وتوجهات لجهة معينة لانه يتحدث عن مجتمع محدود في زمن سابق وحتى لو كانت هناك اسقاطات سياسية فانها لا تكون مباشرة وبالتالي لا تكون هناك اوامر وتوجهات تجبر المشاهد على التسليم بها بل على العكس فان المتابع للمسلسل يجد نفسه متعاطفا مع ابطاله من دون التمييز وكأنه يعيش بينهم.

أنفاس الجواهري لا يجد في المرأة إلاّ تلك الشمس التي تشرق، وبدونها تموت الأشياء.هي عصب الحياة، هي روح الزمن، هي الضوء الخافت من بعيد للغارق بالحزن، والفنار لمن يطلب النجاة في البحر، هي( الحنين) للأرض. فهو الذي عاش محن الوطن وخبر مصاعب بلاده، ونادم الملوك والأمراء.  يجاهد من أجل الأفضل ومستقبل واعي ولم يتوان في  خطابه الشعري أيضاً للمرأة ..  ففي قصيدة " حنين" التي نظمت عام  1949 يقول:
((  أحنّ إلى شبح يلمح بعيني أطيافه تمرح       أرى الشمس  تشرق من وجهه وما بين أثوابه تجنح )).
 معلقاً روحه بطرف أمل، وكأنه يتخطى أقاليم الرغبة داخل لحظة لعلها تلد شيء يوقظ الهمس الثائر من حوله، إن هذا الامتداد في الرؤية يؤسس عالم الجواهري ويؤثث إرادته في عزم الأمور حيث يقول:
((   كأنه بهامته منبعاً من النور، أو جمرة تجدح)).
يمارس الهدم على كل أشكال الموانع ويجازف في التجاوز على مفاهيم العلاقات الداخلية، والشعر عنده ادخار وجذور يتعامل معها بسلام. علاقته منحوته بدقة لذا نجده قائلاً:
  (( أحن إليه بليغ الصموت معاينة عن نفسها تفصح
  تفايض منه كموج الخضم أو لحن ساجعة تصدح))
.
لا يكلف مسالك الوحدة واللغة وروحه الشفافة تجاه هذه المخلوقة التي سلبته وأعطته كل ما يمكن أن يكسبه أو يخسره بأضيق المراحل وأعمق التوالد. المرأة عنده بلدهِ الوحيد وأخص خصائصه.
هي نشيد القلب والصاعد من الأنفاس.. قراره في كتابة الشعر لا يفقهه، ولكن علاقته بالمرأة واهتمامه سر يفهم معانيه كما يقول:
((   كأن الدهور بأطماحها إلى خلقه مثله تطمح
                         كأن الأمور بمقياسه تقاس فتؤخذ أو تطرح)).

يعيش فهما حقيقيا في تقويم العلاقات الإنسانية ووجودها عنده ليس عشوائيا لا يسأل نفسه من أي ضلع خلقت لذا يوليها اهتمامه أكثر من باقي الأشياء وبحذر شديد حتى لا يسيء إليها. أنه متعصب في طرح الإطار الذي يحيطها، في نظره المرأة جوهرة لا يمكن أن تترك من دون عناية.
وحدها تعرف كيف تصد ثورات غضبه إذ يقول:
(( يشد جناني بعزماته ودمعي ببسماته يمسح
ويبرد نفسي بأنفاسه إذا لفني عاصف يلفح ))

أنفاس رحل, إذن, عبدالرحمن منيف, لكنه لن يغيب.. سوف يبقى طويلا في ضمير أمته: مناضلا  خاض في العمل السياسي, علنا  وسرا , من أول الشباب كانت فترة عاصفة, حبلى بكل الاحتمالات: بطش وقمع من ناحية, واشتداد حركات المعارضة الراديكالية من الناحية الاخرى, ولم يكن لكل الحالمين بمستقبل أفضل سوى أن يحددوا مواقعهم وينغمسوا في النضال, وهكذا فعل عبدالرحمن منذ قدومه من عمان الى بغداد نهاية الاربعينيات حتى أبعدته حكومة نوري السعيد منتصف الخمسينيات ليتابع النضال من مواقع أخرى. في 1958 سافر لاستكمال دراسته في جامعة بلغراد, وفي 1961 حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية (كان موضوع رسالته «اقتصاديات النفط- الاسعار والأسواق»), ثم عاد ليعمل في صناعة النفط في سوريا, وفي 1973 غادرها الى بيروت للعمل بالصحافة, وفي 1975رجع الى بغداد حيث أصدر مجلة متخصصة هي «النفط والتنمية», وفي 1981 خرج من بغداد ثانية الى باريس حيث تفرغ للكتابة, وفي 1986 رجع الى دمشق التي ق در لها أن تكون منفاه الأخير.
ورغم صعوبة معرفة التفاصيل حول ممارسته العمل السياسي والحزبي حتى منتصف الستينيات على وجه التقريب, حين توقف عنها, فقد قمت بتحقيق صغير مع من يمكن أن يكون لهم قدر من المعرفة بهذه الممارسة, واستطعت أن أصل لبعض ملامح الصورة: كان منيف مثالا «للكادر» الحزبي الملتزم والمنضبط (يرتفع صوته بالجدل والنقاش في الاجتماعات الحزبية ويلتزم الصمت خارجها), وكان ينحاز دائما الى جانب المواقف والأفكار الأكثر جذرية وراديكالية داخل التنظيم وخارجه, كما كان مثالا للتعفف والنأي عن السعي لتحقيق أهداف او مطالب خاصة, ومن ثم لقي الاحترام من المخالفين له والمتفقين معه على السواء, وكان قارئا  نهما  ومثقفا  عارفا  بالتاريخ والتراث. وثمة تفاصيل كثيرة في هذا السياق تتردد فيها أسماء «الجناح اليساري» أو «جماعة الدكاترة» في البعث السوري. والموقف من الانفصال, ومؤتمر حمص في 1963. المهم هنا ان عبدالرحمن أسقطت عنه جنسيته (السعودية) بعد هذا المؤتمر, فعاش حياة المنفى حتى الرمق الأخير.
ليس في حياة عبدالرحمن منيف, إذن, ما يخفض جبينه الشامخ, لم يقف يوما  في ظل حاكم أو نظام, وقد كان الحكام- في اكثر من بلد عربي, وفي ظل أكثر من فترة في هذا الزمان العربي المضطرب- رفاقا  له او مريدين, يتمنى كل  منهم أن يجتذبه لجانبه, لكنه عف  عنهم جميعا , وعاش حياته فقيرا  أو كالفقير, لكنه متشح بالنبل, مزدان بالكبرياء, لهذا قلت  انه سوف يبقى في ضمير أمته مناضلا .
وسوف يبقى في وجدان أمته مبدعا  عظيما  كذلك. قال- أكثر من مرة- انه رأى الاستغراق في العمل السياسي «خدعة كبيرة.

أنفاس بعد هذه الأعوام الطويلة والثقيلة عرفتُ ما يكفي عن طبائع البشر ولكني مع ذلك توقَّفتُ مندهشاً كما توقَّفُ العديدون غيري , بعد رحيل الشاعر العراقي سركون بولص , أمام هذا السيل الهادر من المراثي والمآتم واللطميّات الثقافية !
وصار مألوفاً تماماً هذه الأيام أن تجد كلَّ فاشلٍ من الشعراء والكُتّاب وهو يتأبَّطُ ديواناً لهذا الشاعر متباهياً بهِ.
وأحدُ الكُتّاب فاخَرَ قبلَ أيامٍ بنفاد دواوين سركون بولص من الأسواق !
لقد حوَّلوا هذا الشاعر , وهو أبسط من هذا بكثيرٍ , الى كائنٍ مهرجانيٍّ لا يُشَقُّ لهُ غُبار !
كائنٍ مهرجانيٍّ يتبادلون على جثمانهِ الأنخاب حيث الكلُّ يدَّعي صداقتَهُ , ولكي يثبتَ لك ذلك فإنه ينسى ( حزنَهُ وحِدادَهُ ) على رحيل الشاعر فيُظهِر لك بفرحٍ وزهوٍ صُوَراً فوتوغرافيةً التَقَطَها مع الشاعر الراحل كأعزِّ ما يمكن أن يقدِّمَهُ للتأريخ وللقُرّاء بعد أن عَجَزَ عن كسبِ إعجابِ القُرّاء واعترافهم به من خلال ما يَكتبُ فهنا ليس الفتى مَن قال إني انا , بل الفتى مَن قال إني صديق الراحل !
وهذه الورطة هي بحدِّ ذاتها سورياليةٌ جسَّدوها على أرض الواقع ولم يجسِّدوها , رغم  رخاوتها , في كتاباتهم , فالمكالمات الهاتفية واللقاءات والبرقيات والفاكسات والنواح الإليكتروني , كلُّ هذا لم يترك لك مجالاً لمعرفة شيءٍ من شيء والجميعُ يُعرب عن عميق خسارتهِ مستعيداً بكلِّ أسفٍ ذكرياتهِ الحنون مع الشاعر الراحل , كلُّ هذا والشاعر سركون بولص يحتضرُ ولم يمتْ بعد !!
أمّا وقد مات بالفعل فَعَليَّ أنْ أشيرَ الى أنَّ هناك حقاً أصدقاء لهذا الشاعر قد حزنوا بصدق وتألَّموا في وحدتهم لأنهم كانوا يفهمون هذا المبدع ويقدِّرون إبداعهُ وسموَّ روحهِ إلاَّ أنهم قِلةٌ وعليَّ أن أشير كذلك الى أنَّ الغالبية , وهي هذه الطفيليات التي تعتاش على أوجاع الضحايا الأنقياء , هي ما دعاني الى كتابة هذه السطور وقد ذكرتُ في رسالة إيميل الى الروائي العراقي المبدع حمزة الحسن قائلاً : ( إنَّ مقالك الأخير حول هذه المأساة قد أغناني عن الكتابة كما أغنى الكثيرين ) . إلاّ أني وجدتُ أنَّ هناك أموراً أخرى تضغط باتجاه المزيد من التعبير علماً أن الروائي حمزة الحسن حسب علمي هو الوحيد - لحدِّ الآن - الذي انبرى ليقول ما هو مختلِف , ليكتبَ مُنَدِّداً بسلوكيات هذه الجوقة من الإنتهازيين بشجاعة وألمٍ (*) وذلك في مقالهِ الأخير المنشور في موقع آرام تحت عنوان ( شاعرٌ ميِّتٌ يحمل جنازةَ مُشَيِّعيهِ ) وقد قرأتُهُ بحرصٍ فما كان مني إلاّ أن أرسلتُ إيميلاً الى كاتب المقال عبَّرتُ فيه عن تقديري لمقالهِ فأجاب في رسالةٍ طارحاً فيها سؤالاً محزناً مرتاباً : مَن سيكون الجثةَ القادمة ؟
وممّا جاء في مقالتهِ , بعد أن استثنى أصدقاءَ الشاعر الحقيقيين : ( سركون بولص المنعزل المبدع الخجول , الشاعر الحقيقي يفضح في موتهِ كما في حياتهِ مأدبةَ ذئابٍ تعيش على الجيَف وعلى ألمِ الناس وعلى الشرفات العالية , لأنَّ المزابل تريد الظهور في مأتم الشرفات للتعريف بنفسِها لا بالميت . ) وأمّا عن حزنهِ هو فيقول :

أنفاس مـقـدمـة : تميزت الفترة  الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وما بعد الحرب العالمية الثانية بتراكم كبير في مجال الدراسات اللغوية، واذا كان من الصعب تصنيف هذه الدراسات في خانات معينة ، انطلاقا من معايير محددة ، فانه يمكن أن نميز ، على الأقل ، بين مدرستين فيما يخص المناهج المعتمدة في دراسة وتحليل المواد اللغوية وما يرتبط بها من صيرورات ذهنية وعوامل فيزيولوجية ومؤثرات خارجية.
  في هذا الإطار تندرج محاولة عقد مقارنة بين اتجاهين يعتبران من اكبر الاتجاهات اللسانية الحديثة انتاجا واستهلاكا. ويتعلق الأمر بالمدرستين : البنيوية والتوليدية .
ما هي  اذن الأسس المعرفية والفلسفية لكل منهما ؟ ما هي منطلقاتهما المنهجية ؟ ما هي أساليب تحليلهما للظاهرة اللغوية ؟ وما هي أوجه التشابه والاختلاف بينهما ؟ هذه مجرد أسئلة نحاول الإجابة عنها ونحن نستهدف بالدرجة الأولى المتلقي العادي ،غير المتخصص ، الذي نعتبره في حاجة الى المعرفة اللسانية التمهيدية بطريقة بيداغوجية مبسطة.
1 – تحديدات أولية مفاهيمية
1 -1 : مفهوم المنهج : ان كلمة منهج مستمدة من الكلمة اليونانية (Meta-hodos) ؛ ومعناها الطريق أو النهج الذي يؤدي الى هدف ما. وفي اللغة العربية ،المنهج هو الطريق الواضح. ويبدو أن آرسطو هو أول من استعمل كلمة " منهج "، وأسسه على دعامتين : الأولى منطقية تبدأ بالمسلمات ثم تنتقل الى طبقات الاستنتاج المنطقى الصارم لتنتهي بالنتائج ؛ والثانية دعامة اجرائية تبدأ بالمشاهدة الدقيقة ، ثم تنتقل الى استنباط التعميمات في سلم تتصاعد درجاته حتى تصل الى المبادئ الأولية1 . ويعني هذا التصور الآرسطي أن الباحث يكتشف بالاستقراء ثم يؤسس معرفته في شكل استنتاج. وفي بداية العصر الحديث ظهرت نظريات متعددة في المنهج على يد كل من فرنسيس بيكون وروني ديكارت وبرتراند راسل وميل ستيوارت. يركز بيكون في مؤلفه ( الأورغانون الجديد ) على الاستقراء التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة ثم القيام بمختلف انواع التجارب ، خلافا لصاحب الاورعانون (ارسطو ) ، الذي ينطلق من معطيات نظرية. أما ديكارت فانه يركز على التحليل والتركيب. وحتى لا نغوض في اشكالية التعريف ونتطرق لإشكالية التطبيق في حقل الدراسة اللسانية، نقترح التعريف التالي للمنهج :
" المنهج هو مجموع العمليات العقلية والخطوات العملية التي يقوم بها الباحث يهدف الكشف عن الحقيقة او البرهنة عليها بطريقة واضحة وبديهية تجعل المتلقي يستوعب الخطاب دون أن يضطر الى تبنيه2 ". ويتضمن هذا التعريف الذي نقترحه الجانب العقلي والجانب العملي في الممارسة. وهذه الازدواجية تقودنا الى طرح الحديث عن منهجين هما :

مفضلات الشهر من القصص القصيرة