شاءت عوادي الزمن الموبوء إلا أن تقتلع هامة من هامات شعرائنا الشرفاء، إنه محمد عمران الشاعر السوري الكبير الذي "حرنت خيله وسقط الشرق في ثيابه دنانيرا، وصلى لحضرة المطر ومضي بين الليل والفجر صخرا لا تحركه المدام ولا الأغاريد".
إن السمة التي لازمت محمد عمران، هي سمة الحزن، الحزن الشفيف لا الحزن السوداوي، يقول في معرض حديثه عن هذا الحزن في إحدى الندوات التي خصصت لدراسة تجربته الشعرية.
"إذا كنتم تنطلقون من الحزن مفتاحا لتجربتي الشعرية فأنا معكم... ذلك أن الحزن الذي عنه نتكلم، هو حزن من يحمل هم تغيير الأشياء، وهو إعادة ترتيب العالم وهذا الحزن في ما أذكر هو الذي رافق كل الحالمين بالتغيير منذ البداية... بهذا المعنى إن مفتاح تجربتي الشعرية ينطلق من هذا الهم بدءا من الهم القومي الذي هو في الأصل مشروعي الشعري وصولا إلى الهم البشري، هم الإنسان في مسيرته على هذا الكوكب وفي معاناته، في نضاله من أجل حياة أكثر دفئا وأمنا وسلاما. "من مداخلة الشاعر بمناسبة تكريمه في مهرجان السنديان الشعري الأول في الملاجة (مسقط رأس الشاعر).
لقد خاض الشاعر المبدع محمد عمران على امتداد أربعة عقود من الزمن ونيف تجربة إبداعية مرموقة، كان حريصا فيها على الهمين: القومي والوطني، وامتزجت هذه التجربة في نضجها بالأرض والطبيعة، وعانقت في عمقها أسئلة الوجود مرفوعة إلى أفق غنائي يفيض إنسانية وعذوبة، كما أنه حمل القصيدة هم التجريب ونزعة تجاوز الناجز حتى لو كان من إنجازه هو نفسه.
نشأ محمد عمران في بيئة ريفية (قرية الملاجة)، وهي قرية متخلفة ونزح إلى دمشق؛ المدينة الصاخبة باحثا عن توازنه المفقود في القرية ولكن دون جدوى؛ لقد صدمته المدينة وأدهشته وأشعرته بالنقص لأنها لم تعترف به ولم تستجب لرغباته، ففي قصيدة: "ثلاث وجوه للريح" يقول:
"باحثا في مدائن الجسد الزرقاء
عن رايتي وأخباري
عن خيول أغزو بها شهرزادي
لم أجد أرضها القصية
أرضها البكر
مات سيفي، ونامت جمراتي
وما اهتديت إليها "أغان على جدار جليدي" ص136.
وهذا الإخفاق في البحث عن المرأة، سيتكرر عند الشاعر في بحثه عن علاقة صحية مع الوطن، ولذلك فهو يرى الأرض عقيمة:
"باحثا في ممالك الوطن الطالع كالضوء
عن مسافة وجهي
(.....)
رأيت وجهي يدمي، يستبي رجعت
أرضي إلى عمقها
مزقت أغنيتي
وعدت أحمل تاريخي الذي ذبحا"، من ديوانه "أغان على جدار جليدي" ص 138.
هكذا قرر الشاعر العودة إلى قريته لعله يعيد توازنه الذي فقده في المدينة، إلا أنه يكتشف أن القرية قد تشوهت وأصبحت أكثر تخلفا وإيلاما، يقول في قصيدة "العودة":
"حينما عدت لم أجد بيت جدي
"خربة" صار، مهجعا للدجاج
توتة الدار حيث كان مقيلي
يبست، صارت الحواكير "أرعاشا"
ولم يبق مطرحا للورود" نفس المصدر ص 139.
هكذا تبدو قرية الشاعر مشوهة وأكثر تخلفا وإيلاما، ومن ثم بدأ الإحباط يخيم على الشاعر ويسلمه إلى الحزن الممتزج بالمحبة، فهو البلسم وهو العلقم في نفس الوقت. وعن هذا الحزن يقول في قصيدة" العودة":
"أعرف أن المحبة خبز المساكين مثلي ومثلك
أن المحبة زوادة الفقراء
وأعرف أن المحبة ميراثنا المتبقى
حينما صارت العربات مصارف
والراكبون صيارفة".
ويمر قطار العمر بين الحزن والألم والقهر وهو يناديه:
" يا أيها القطار لا تقف
يا أيها القطار
رحلتنا طويلة
وليلنا بلا قرار
هذا دفتر الركاب."
ويستعرض دفتر الركاب في ديوانه "مرفأ الذاكرة الجديدة" بمرارة وخشية فلا يجد العزاء ولا بعضه إلا في الأغاني:
"لولا الأغاني تفتح زرق المواني
كنا اغتربنا
لولا الأغاني سفائن إنقاذنا لغرقنا
لولا الأغاني بهار..."
لقد آلى محمد عمران على نفسه أن يقاوم السلب والضعف كي يعزز الإيجاب والقوة، وأن يكافح الموت كي تنتصر الحياة، فجاء ديوانه: "أغان على جدار جليدي" باكورة أشعار تتعشق الحركة والحياة، تتوق للتقدم والانطلاق. أشعار تكره الجمود والسبات، وتلعن القيود والأغلال. لقد غنى للجليد وكله أمل في أن يذوب، لينبت العشب وتنفتح البراعم، وتكتسي الأرض سندسا من خضرة:
" لمن الوسادة من أكاليل الجبل؟
لمن السرير مزنرا بالعشب؟
ولمن تحل صدورهن الأمهات؟
طفل كما لو أن أثداء البنات
طفحت لترضعه العسل..."
إنه ابن الطبيعة البار يعشقها عشقا صوفيا، غنى لزهورها وورودها، أعشابها وأشجارها، بحورها ووديانها، جبالها وبطاحها بلغة نضرة فتية، وتحول بين أحضانها إلى طفل يرضع أثداء النبات، تلك الأثداء التي تطفح سخاءا لترضعه عسلا:
"أقول لكم
زهرة الغصن سوداء
أدعو إلى وردة الروح
خضراء
إني رسول الربيع".
والمتأمل في المتن الشعري لمحمد عمران، يستنتج أن رؤاه الشعرية تتمحور عنده حول مقومات أساسية، ومن أبرزها:
الحزن الوجودي: كتعبير عن توحد صوفي بمظاهر الكون الطبيعية.
المرأة والحب: كرمزين للأرض والوطن
ومن أجل التعبير عن هذه المقومات الأساسية في شعره، حمل الشاعر حقائب حزنه، وطاف بها أرجاء العالم، بين درسدن ودمشق وبنغازي، بين آسيا والهند إلى طرطوس ثم الملاجة.
الحزن الوجودي كتعبير عن توحد صوفي بمظاهر الكون الطبيعية:
تبدو علاقة الشاعر بمظاهر الكون الطبيعية وكأنها عبارة عن ارتباط قدري لا يستطيع الشاعر أن ينفلت منها، ولذلك نجده كثير الارتداد إلى عالم الطبيعة إذ نجدها حاضرة في متنه الشعري بشكل لافت للنظر.
ففي ديوانه "الأحمر والأزرق" يحضر البحر باعتباره رمزا لدلالات عميقة، طعم من خلاله محمد عمران بوحه الشعري، وجعله قادرا على امتصاص الحزن الشفاف والحزن الوجودي الذي كاد أن يفقده توازنه.
وينم تعامل الشاعر مع رمز البحر عن ثراء تصويري مدهش، وطاقة تأويلية استطاع بواسطتها أن يمنح قصائده الألق والعمق في آن معا. فالبحر عنده غني بدلالات الغموض ـ الخصب ـ العشق ـ الغربة... إلخ.
وقد ارتبط البحر كرمز وظفه محمد عمران بالمكان ذي المدلول الشعوري الخاص، ذلك أن هناك مظهرا بلاغيا وأسلوبيا حديثا وظفه شعراء الستينيات في سورية يعبر عن خصوصية في مواقف الشعراء من واقعهم، وهو نوع من "الذوبان الكوني" وهو عبارة عن تعاطف رمزي مع الأشياء والأمكنة ـ كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين، قد يصل بالشاعر إلى درجة الاتحاد الذي يفرض علاقات متبادلة" و"مراسلات" صميمية وسرية بين الشاعر والشيء المحسوس يفضي به إلى أن يتخذه رمزا لوجدانه وأفكاره.
يقول الشاعر في قصيدة: "بنغازي"
"أنا والبحر عاشقان عتيقان
كبرنا في غربة الحزن
ضيعنا مفاتيح حبنا
فتشردنا
نمنا على عراء الليالي
أنا والبحر غربتان
له منفى بأعماقه
ولي قاع منفاي
لنا شرفة على بنغازي." من ديوانه "الأحمر والأزرق" ص 13-14.
إن مجموع الصور في هذين المقطعين الشعريين تعاطفية، يتم فيها التعبير عن العلاقات الحميمية مع مظهر الطبيعة (البحر).
ففي المقطع الأول، يعتبر محمد عمران أنه يشترك مع البحر في القدرة على العشق، لكنه ليس العشق المخصب الذي ينعم فيه العاشق بنعمة الحب، بل إنه العشق الذي أفضى به إلى التشرد والتيه والحزن، فنام على عراء الليالي مثله في ذلك مثل البحر الذي أسقط عليه حالته النفسية بغية التوحد به والذوبان فيه.
وهذا ما يتضح بجلاء في المقطع الثاني؛ الذي استطاع فيه الشاعر وبمهارة فائقة أن يسقط الغربة التي يستشعرها في داخله على البحر المغترب هو الآخر والمنفي في أعماقه، وفي قصيدة "الوريث" يسبغ الشاعر على البحر دلالة أخرى؛ معتبرا إياه رمزا للخصب والعطاء والحب، له أشجار تثمر حبا على شاكلة طفل: جسده الساحل ووجهه الريح وعيناه زهرة البرتقال. ثم يمضي الشاعر في تشكيل صور رائعة تنم عن مدى افتتانه بعالم البحر، وكأن دورة الحياة والإخصاب تبدأ بالبحر وتنتهي إليه.
"هللو ليا
هو الحب يطلع من شجر البحر طفلا
له جسد ساحلي
وعيناه من زهر البرتقال ووجهه من الريح
من خفق أجنحة العشب.
في شفتيه بساتين ماء
ومملكة من لغات المطر."من ديوانه: "الأزرق والأحمر" ص 71.
إن محمد عمران المفتون بالنضارة والجمال، أحد أنجح شعراء سورية في تحقيق نوع من الاتحاد مع أعياد الطبيعة كـ (الشجر ـ الحصى ـ الريح ـ الحقول....) خصوصا إذا كانت هذه العناصر ممثلة لمسقط رأسه "الملاجة"، فلنلاحظ كيف يتوحد بمظاهر طبيعة هذه القرية الريفية التي تقع في بادية طرطوس حيث يقول:
"منسكب جسدي ملء
هذه الأعياد الصامتة
على شجر يسيل
يتغلغل في الحصى
ويدخل نوافذ الريح
اغتسلي أيتها الحقول
بجسدي
قبل أن يغيض الحب..."
أو كما يقول:
" أنا الكائن القمري
الطالع في
كآبة البحر..."
أو حينما يقول:
" بجوار نومك الطفل
أتنفس أعشاب
جسدك...."
من ملحق الثورة الثقافية عدد 10 تشرين الثاني 1977: "مدخل للصيف في الملاجة".
هكذا ينسكب الجسد في هذه العناصر الطبيعية، ليحقق ذوبانا كونيا تاما، فهو يسيل على الشجر، ويتغلغل في الحصى ويدخل نوافذ الريح، ويغتسل بالحقول.
لقد آمن الشاعر بأن محاولاته هاته الهادفة إلى الذوبان في مظاهر الطبيعة قد تساعده على التخلص من غشاوة الحزن والكآبة، إلا أنها ـ على العكس من ذلك ـ لا تسلمه إلا إلى تكريس هذا الحزن الشفيف الطاغي على معظم ما كتب من شعر، يقول في "مرثية القصب":
"يا ابن الريح والندى
نهارا صرتك
انثقب فمي مفاتيح
العشب امتد أصابع
انسكبت على عتبه
من قمح وأقمار
والحقول كانت سواقي لي
والوديان
ثم هبط الحزن
يا ابن الريح والندى
انكسرت فخرجت منك
وفي الأفق المائل
تعلق صوتي." من ديوانه" أنا الذي رأيت" ص 110.
لقد استطاع الشاعر أن يقيم أمشاج علاقات ومراسلات مع مظاهر الكون الطبيعية كما هو الشأن هنا مع "القصب" رمز الرسالة الشعرية إلى الناس لكنه بعد أن فرح وغنى، هبط الحزن، فانكسر وتعلق صوته في الأفق المائل.
المرأة والحب: كرمزين للأرض والوطن:
لقد أخلص محمد عمران لمقولة الحب، واعتبره بوصلة تعينه على إيجاد التوازن اللازم في مسار تجربته الإبداعية حتى كاد أن يصبح تيمة مهيمنة على معظم دواوينه الشعرية.
يقول في القصيدة الأولى من ديوانه: "الدخول في شعب بوان":
"الحب ربابي، الحب كتابي، الحب سحابي
الحب طريقي، الحب رفيقي، الحب حريقي
الحب طقوس صلاتي، ناري ورمادي
آه،
لو أن الحب معي". من قصيدة: الدخول الأول: "بوان" ص 28.
ويقول في مقطع لاحق من هذه القصيدة:
" أنا خبز الحب والملح حبيبتي
حين ناداني حبيبي
جئت من أطراف أيامي القديمة" ص 58.
بهذه الطريقة يعلن الشاعر ظمأه للحب، بل إنه يتخذ منه قنديلا يضيء فتيله للتغلب على الجوانب المظلمة في طريقه:
"وكان الحب قنديلا
أضأت فتيله، استمهلت فوق سلالم
الظلمات، اهبطها سراديبا، سراديبا. "نفس المصدر ص 43.
غير أنه سرعان ما سيكتشف أن طريقه لهذا الحب مليء بالمتاريس، وربما سيكون غير قابل للتحقق في عالمه الذي يسوده اللهيب الحارق:
"حبيبتي عيناك خاتمي..."
(خذيني إلى جزيرة الضياع، نجني، يا رمادا....
إلى بلاد الواقواق....) نفس المصدر ص 55.
وهنا يتضح أن الحب الذي يطمح إليه الشاعر، ليس بالضرورة تعبيرا عن تعطشه للمحبوبة (المرأة) ككائن بشري، بل يكتسي الحب عنده قيمة رمزية تحيل إلى الأرض (الوطن، المدينة).
وتنبع علاقة محمد عمران بالوطن-شأنه في ذلك شأن شعراء جيله في سورية- من إيمانه الراسخ بالأرض. والأرض ليست مجرد مظاهر طبيعية ذات بعد مادي فقط، بل هي ذاكرة الشعب؛ هي تاريخ دم وأمجاد.
والملاحظة التي تسترعي الانتباه في علاقة الشاعر بالمدينة/ الأرض/ الوطن، أنها علاقة تغمرها المحبة والقبول تارة، والكره والرفض تارة أخرى، لأنه نزح إلى المدينة من الريف الذي ظل حيا في ضميره. إلا أن محمد عمران أقل تعبير ـ بالمقارنة مع رعيله ـ عن الجانب الثاني الساخط على المدينة، ولذلك فهو يخاطبها بعشق يفوح منه مدى ارتباطه الوجداني بها لدرجة تتلاشى فيها حدود العلاقة بين المدينة والمرأة المعشوقة. إن الشاعر يتحدث عن المدينة من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، ليروي قصة عشقه لها، وهيامه بها، وارتمائه في أحضانها.
"حبك يا حبيبتي
محارة مسكونة بالبحر والرياح والأمطار
مخبوءة في ضفة النهار. "من قصيدة الدخول الثالث" الحب ص 61.
إلا أن المدينة/الوطن/ الأرض، أصبحت امرأة فقدت كل مقومات وجودها بعدما مست كرامتها، وانتهكت حرمتها، وفظت بكارتها، وهذا ما يؤلب عليه الحزن الداخلي، فيرتد إلى ذاته مسترسلا في التعبير عن يأسه وقهره وضياعه وعذابه الذي لا تكاد تلوح فيه بأرقة أمل. وفي ذلك يقول:
"مزقتني اليبوسة في موسم الماء،
صرت فتاتا على مائدة الرياح العواهر
صرت نفايات وجه بغي، أعدني
أعد لون صوتي، طعمي، ورائحتي،
صرت في موسم الماء ماء إناء،
تعفنت، ضاعت شواطئ عريي
امحيت، تغرقت، رملي قتيل.
أعد لي بكارة رملي
أنا الوشم، ازرق، في فخد هذي السنين العجاف". من قصيدة: الدخول الأول "بوان" ص 35.
لقد تحول الشاعر إلى إنسان حقير ممزق بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولذلك فهو يحس باليباس والضياع والهزيمة في دوامة الزمن اللاهب الذي غير من حال المحبوبة/المدينة/ الوطن، لتصبح معادلا للشيخوخة بعد أن سرقوا منها مواسم فرحها. وهذا ما يفجر غربته وعذابه الذي لا يكاد يفارقه إلا ليسلمه لهذا الشعور القاتل، لأن الحب تحول إلى متهم يجلد خلف الستائر الحمراء، وأصبح يسيل في مجاري المدائن، ويسري على الشرفات:
"غريبا كنت، يا بوان عن أرضي،
وعن مملكتي
مضغت المن والسلوى
سكنت مدائن الجوع
.......
رأيتهم جميعا، يجلدون الحب خلف ستائر
حمراء،
كأن دما يسيل على الستائر
كان ساق خطيئة يمشي.
على الشرفات، يسقط". من قصيدة الدخول الثاني "المجيء من الماء" ص 41-42.
ومن ثم يقرر الشاعر أن يتعرى من ثيابه، ويهجر المدينة، لينسكب من الماء ويذوب في التربة، متخذا من نفسه حروفا من الغيم سوداء، وسطورا من الريح لا تقرأ.
" لم تعد تلزم الثياب
إنني الآن أعرى
.....
لم تعد تلزم الثياب
كل شيء تعرى. "من قصيدة الدخول الأول "بوان" ص 23-24.
"أنا يا كتاب البراري
حروف من الغيم سوداء
سطر من الريح لا يقرأ. "من قصيدة الدخول الثاني" المجيء من الماء" ص 34.
لقد اتخذ الشاعر محمد عمران من هذه اللمسات المفعمة بالذوبان الكوني سواء في الطبيعة أو في الحب، روافد ساعدته كثيرا على استمرار بوحه الشعري في التدفق فظل بين الليل والفجر ماءا زلالا لا تكدر صفوه الأعاصير ولا العواصف، ونهرا رقراقا لا يحجمه اليباس في لهيب الزمن الحارق، إلى أن "حرنت خيله، وسقط الشرق في ثيابه دنانيرا، وصلى لحضرة المطر" عله يجود فيحيى أوصال إنساننا العربي اليائس من عوادي هذي السنين العجاف.
د. امحمد برغوت، أستاذ باحث في الأدب الحديث ـ المغرب
وما اهتديت إليها "أغان على جدار جليدي" ص136.
وهذا الإخفاق في البحث عن المرأة، سيتكرر عند الشاعر في بحثه عن علاقة صحية مع الوطن، ولذلك فهو يرى الأرض عقيمة:
"باحثا في ممالك الوطن الطالع كالضوء
عن مسافة وجهي
(.....)
رأيت وجهي يدمي، يستبي رجعت
أرضي إلى عمقها
مزقت أغنيتي
وعدت أحمل تاريخي الذي ذبحا"، من ديوانه "أغان على جدار جليدي" ص 138.
هكذا قرر الشاعر العودة إلى قريته لعله يعيد توازنه الذي فقده في المدينة، إلا أنه يكتشف أن القرية قد تشوهت وأصبحت أكثر تخلفا وإيلاما، يقول في قصيدة "العودة":
"حينما عدت لم أجد بيت جدي
"خربة" صار، مهجعا للدجاج
توتة الدار حيث كان مقيلي
يبست، صارت الحواكير "أرعاشا"
ولم يبق مطرحا للورود" نفس المصدر ص 139.
هكذا تبدو قرية الشاعر مشوهة وأكثر تخلفا وإيلاما، ومن ثم بدأ الإحباط يخيم على الشاعر ويسلمه إلى الحزن الممتزج بالمحبة، فهو البلسم وهو العلقم في نفس الوقت. وعن هذا الحزن يقول في قصيدة" العودة":
"أعرف أن المحبة خبز المساكين مثلي ومثلك
أن المحبة زوادة الفقراء
وأعرف أن المحبة ميراثنا المتبقى
حينما صارت العربات مصارف
والراكبون صيارفة".
ويمر قطار العمر بين الحزن والألم والقهر وهو يناديه:
" يا أيها القطار لا تقف
يا أيها القطار
رحلتنا طويلة
وليلنا بلا قرار
هذا دفتر الركاب."
ويستعرض دفتر الركاب في ديوانه "مرفأ الذاكرة الجديدة" بمرارة وخشية فلا يجد العزاء ولا بعضه إلا في الأغاني:
"لولا الأغاني تفتح زرق المواني
كنا اغتربنا
لولا الأغاني سفائن إنقاذنا لغرقنا
لولا الأغاني بهار..."
لقد آلى محمد عمران على نفسه أن يقاوم السلب والضعف كي يعزز الإيجاب والقوة، وأن يكافح الموت كي تنتصر الحياة، فجاء ديوانه: "أغان على جدار جليدي" باكورة أشعار تتعشق الحركة والحياة، تتوق للتقدم والانطلاق. أشعار تكره الجمود والسبات، وتلعن القيود والأغلال. لقد غنى للجليد وكله أمل في أن يذوب، لينبت العشب وتنفتح البراعم، وتكتسي الأرض سندسا من خضرة:
" لمن الوسادة من أكاليل الجبل؟
لمن السرير مزنرا بالعشب؟
ولمن تحل صدورهن الأمهات؟
طفل كما لو أن أثداء البنات
طفحت لترضعه العسل..."
إنه ابن الطبيعة البار يعشقها عشقا صوفيا، غنى لزهورها وورودها، أعشابها وأشجارها، بحورها ووديانها، جبالها وبطاحها بلغة نضرة فتية، وتحول بين أحضانها إلى طفل يرضع أثداء النبات، تلك الأثداء التي تطفح سخاءا لترضعه عسلا:
"أقول لكم
زهرة الغصن سوداء
أدعو إلى وردة الروح
خضراء
إني رسول الربيع".
والمتأمل في المتن الشعري لمحمد عمران، يستنتج أن رؤاه الشعرية تتمحور عنده حول مقومات أساسية، ومن أبرزها:
الحزن الوجودي: كتعبير عن توحد صوفي بمظاهر الكون الطبيعية.
المرأة والحب: كرمزين للأرض والوطن
ومن أجل التعبير عن هذه المقومات الأساسية في شعره، حمل الشاعر حقائب حزنه، وطاف بها أرجاء العالم، بين درسدن ودمشق وبنغازي، بين آسيا والهند إلى طرطوس ثم الملاجة.
الحزن الوجودي كتعبير عن توحد صوفي بمظاهر الكون الطبيعية:
تبدو علاقة الشاعر بمظاهر الكون الطبيعية وكأنها عبارة عن ارتباط قدري لا يستطيع الشاعر أن ينفلت منها، ولذلك نجده كثير الارتداد إلى عالم الطبيعة إذ نجدها حاضرة في متنه الشعري بشكل لافت للنظر.
ففي ديوانه "الأحمر والأزرق" يحضر البحر باعتباره رمزا لدلالات عميقة، طعم من خلاله محمد عمران بوحه الشعري، وجعله قادرا على امتصاص الحزن الشفاف والحزن الوجودي الذي كاد أن يفقده توازنه.
وينم تعامل الشاعر مع رمز البحر عن ثراء تصويري مدهش، وطاقة تأويلية استطاع بواسطتها أن يمنح قصائده الألق والعمق في آن معا. فالبحر عنده غني بدلالات الغموض ـ الخصب ـ العشق ـ الغربة... إلخ.
وقد ارتبط البحر كرمز وظفه محمد عمران بالمكان ذي المدلول الشعوري الخاص، ذلك أن هناك مظهرا بلاغيا وأسلوبيا حديثا وظفه شعراء الستينيات في سورية يعبر عن خصوصية في مواقف الشعراء من واقعهم، وهو نوع من "الذوبان الكوني" وهو عبارة عن تعاطف رمزي مع الأشياء والأمكنة ـ كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين، قد يصل بالشاعر إلى درجة الاتحاد الذي يفرض علاقات متبادلة" و"مراسلات" صميمية وسرية بين الشاعر والشيء المحسوس يفضي به إلى أن يتخذه رمزا لوجدانه وأفكاره.
يقول الشاعر في قصيدة: "بنغازي"
"أنا والبحر عاشقان عتيقان
كبرنا في غربة الحزن
ضيعنا مفاتيح حبنا
فتشردنا
نمنا على عراء الليالي
أنا والبحر غربتان
له منفى بأعماقه
ولي قاع منفاي
لنا شرفة على بنغازي." من ديوانه "الأحمر والأزرق" ص 13-14.
إن مجموع الصور في هذين المقطعين الشعريين تعاطفية، يتم فيها التعبير عن العلاقات الحميمية مع مظهر الطبيعة (البحر).
ففي المقطع الأول، يعتبر محمد عمران أنه يشترك مع البحر في القدرة على العشق، لكنه ليس العشق المخصب الذي ينعم فيه العاشق بنعمة الحب، بل إنه العشق الذي أفضى به إلى التشرد والتيه والحزن، فنام على عراء الليالي مثله في ذلك مثل البحر الذي أسقط عليه حالته النفسية بغية التوحد به والذوبان فيه.
وهذا ما يتضح بجلاء في المقطع الثاني؛ الذي استطاع فيه الشاعر وبمهارة فائقة أن يسقط الغربة التي يستشعرها في داخله على البحر المغترب هو الآخر والمنفي في أعماقه، وفي قصيدة "الوريث" يسبغ الشاعر على البحر دلالة أخرى؛ معتبرا إياه رمزا للخصب والعطاء والحب، له أشجار تثمر حبا على شاكلة طفل: جسده الساحل ووجهه الريح وعيناه زهرة البرتقال. ثم يمضي الشاعر في تشكيل صور رائعة تنم عن مدى افتتانه بعالم البحر، وكأن دورة الحياة والإخصاب تبدأ بالبحر وتنتهي إليه.
"هللو ليا
هو الحب يطلع من شجر البحر طفلا
له جسد ساحلي
وعيناه من زهر البرتقال ووجهه من الريح
من خفق أجنحة العشب.
في شفتيه بساتين ماء
ومملكة من لغات المطر."من ديوانه: "الأزرق والأحمر" ص 71.
إن محمد عمران المفتون بالنضارة والجمال، أحد أنجح شعراء سورية في تحقيق نوع من الاتحاد مع أعياد الطبيعة كـ (الشجر ـ الحصى ـ الريح ـ الحقول....) خصوصا إذا كانت هذه العناصر ممثلة لمسقط رأسه "الملاجة"، فلنلاحظ كيف يتوحد بمظاهر طبيعة هذه القرية الريفية التي تقع في بادية طرطوس حيث يقول:
"منسكب جسدي ملء
هذه الأعياد الصامتة
على شجر يسيل
يتغلغل في الحصى
ويدخل نوافذ الريح
اغتسلي أيتها الحقول
بجسدي
قبل أن يغيض الحب..."
أو كما يقول:
" أنا الكائن القمري
الطالع في
كآبة البحر..."
أو حينما يقول:
" بجوار نومك الطفل
أتنفس أعشاب
جسدك...."
من ملحق الثورة الثقافية عدد 10 تشرين الثاني 1977: "مدخل للصيف في الملاجة".
هكذا ينسكب الجسد في هذه العناصر الطبيعية، ليحقق ذوبانا كونيا تاما، فهو يسيل على الشجر، ويتغلغل في الحصى ويدخل نوافذ الريح، ويغتسل بالحقول.
لقد آمن الشاعر بأن محاولاته هاته الهادفة إلى الذوبان في مظاهر الطبيعة قد تساعده على التخلص من غشاوة الحزن والكآبة، إلا أنها ـ على العكس من ذلك ـ لا تسلمه إلا إلى تكريس هذا الحزن الشفيف الطاغي على معظم ما كتب من شعر، يقول في "مرثية القصب":
"يا ابن الريح والندى
نهارا صرتك
انثقب فمي مفاتيح
العشب امتد أصابع
انسكبت على عتبه
من قمح وأقمار
والحقول كانت سواقي لي
والوديان
ثم هبط الحزن
يا ابن الريح والندى
انكسرت فخرجت منك
وفي الأفق المائل
تعلق صوتي." من ديوانه" أنا الذي رأيت" ص 110.
لقد استطاع الشاعر أن يقيم أمشاج علاقات ومراسلات مع مظاهر الكون الطبيعية كما هو الشأن هنا مع "القصب" رمز الرسالة الشعرية إلى الناس لكنه بعد أن فرح وغنى، هبط الحزن، فانكسر وتعلق صوته في الأفق المائل.
المرأة والحب: كرمزين للأرض والوطن:
لقد أخلص محمد عمران لمقولة الحب، واعتبره بوصلة تعينه على إيجاد التوازن اللازم في مسار تجربته الإبداعية حتى كاد أن يصبح تيمة مهيمنة على معظم دواوينه الشعرية.
يقول في القصيدة الأولى من ديوانه: "الدخول في شعب بوان":
"الحب ربابي، الحب كتابي، الحب سحابي
الحب طريقي، الحب رفيقي، الحب حريقي
الحب طقوس صلاتي، ناري ورمادي
آه،
لو أن الحب معي". من قصيدة: الدخول الأول: "بوان" ص 28.
ويقول في مقطع لاحق من هذه القصيدة:
" أنا خبز الحب والملح حبيبتي
حين ناداني حبيبي
جئت من أطراف أيامي القديمة" ص 58.
بهذه الطريقة يعلن الشاعر ظمأه للحب، بل إنه يتخذ منه قنديلا يضيء فتيله للتغلب على الجوانب المظلمة في طريقه:
"وكان الحب قنديلا
أضأت فتيله، استمهلت فوق سلالم
الظلمات، اهبطها سراديبا، سراديبا. "نفس المصدر ص 43.
غير أنه سرعان ما سيكتشف أن طريقه لهذا الحب مليء بالمتاريس، وربما سيكون غير قابل للتحقق في عالمه الذي يسوده اللهيب الحارق:
"حبيبتي عيناك خاتمي..."
(خذيني إلى جزيرة الضياع، نجني، يا رمادا....
إلى بلاد الواقواق....) نفس المصدر ص 55.
وهنا يتضح أن الحب الذي يطمح إليه الشاعر، ليس بالضرورة تعبيرا عن تعطشه للمحبوبة (المرأة) ككائن بشري، بل يكتسي الحب عنده قيمة رمزية تحيل إلى الأرض (الوطن، المدينة).
وتنبع علاقة محمد عمران بالوطن-شأنه في ذلك شأن شعراء جيله في سورية- من إيمانه الراسخ بالأرض. والأرض ليست مجرد مظاهر طبيعية ذات بعد مادي فقط، بل هي ذاكرة الشعب؛ هي تاريخ دم وأمجاد.
والملاحظة التي تسترعي الانتباه في علاقة الشاعر بالمدينة/ الأرض/ الوطن، أنها علاقة تغمرها المحبة والقبول تارة، والكره والرفض تارة أخرى، لأنه نزح إلى المدينة من الريف الذي ظل حيا في ضميره. إلا أن محمد عمران أقل تعبير ـ بالمقارنة مع رعيله ـ عن الجانب الثاني الساخط على المدينة، ولذلك فهو يخاطبها بعشق يفوح منه مدى ارتباطه الوجداني بها لدرجة تتلاشى فيها حدود العلاقة بين المدينة والمرأة المعشوقة. إن الشاعر يتحدث عن المدينة من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، ليروي قصة عشقه لها، وهيامه بها، وارتمائه في أحضانها.
"حبك يا حبيبتي
محارة مسكونة بالبحر والرياح والأمطار
مخبوءة في ضفة النهار. "من قصيدة الدخول الثالث" الحب ص 61.
إلا أن المدينة/الوطن/ الأرض، أصبحت امرأة فقدت كل مقومات وجودها بعدما مست كرامتها، وانتهكت حرمتها، وفظت بكارتها، وهذا ما يؤلب عليه الحزن الداخلي، فيرتد إلى ذاته مسترسلا في التعبير عن يأسه وقهره وضياعه وعذابه الذي لا تكاد تلوح فيه بأرقة أمل. وفي ذلك يقول:
"مزقتني اليبوسة في موسم الماء،
صرت فتاتا على مائدة الرياح العواهر
صرت نفايات وجه بغي، أعدني
أعد لون صوتي، طعمي، ورائحتي،
صرت في موسم الماء ماء إناء،
تعفنت، ضاعت شواطئ عريي
امحيت، تغرقت، رملي قتيل.
أعد لي بكارة رملي
أنا الوشم، ازرق، في فخد هذي السنين العجاف". من قصيدة: الدخول الأول "بوان" ص 35.
لقد تحول الشاعر إلى إنسان حقير ممزق بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولذلك فهو يحس باليباس والضياع والهزيمة في دوامة الزمن اللاهب الذي غير من حال المحبوبة/المدينة/ الوطن، لتصبح معادلا للشيخوخة بعد أن سرقوا منها مواسم فرحها. وهذا ما يفجر غربته وعذابه الذي لا يكاد يفارقه إلا ليسلمه لهذا الشعور القاتل، لأن الحب تحول إلى متهم يجلد خلف الستائر الحمراء، وأصبح يسيل في مجاري المدائن، ويسري على الشرفات:
"غريبا كنت، يا بوان عن أرضي،
وعن مملكتي
مضغت المن والسلوى
سكنت مدائن الجوع
.......
رأيتهم جميعا، يجلدون الحب خلف ستائر
حمراء،
كأن دما يسيل على الستائر
كان ساق خطيئة يمشي.
على الشرفات، يسقط". من قصيدة الدخول الثاني "المجيء من الماء" ص 41-42.
ومن ثم يقرر الشاعر أن يتعرى من ثيابه، ويهجر المدينة، لينسكب من الماء ويذوب في التربة، متخذا من نفسه حروفا من الغيم سوداء، وسطورا من الريح لا تقرأ.
" لم تعد تلزم الثياب
إنني الآن أعرى
.....
لم تعد تلزم الثياب
كل شيء تعرى. "من قصيدة الدخول الأول "بوان" ص 23-24.
"أنا يا كتاب البراري
حروف من الغيم سوداء
سطر من الريح لا يقرأ. "من قصيدة الدخول الثاني" المجيء من الماء" ص 34.
لقد اتخذ الشاعر محمد عمران من هذه اللمسات المفعمة بالذوبان الكوني سواء في الطبيعة أو في الحب، روافد ساعدته كثيرا على استمرار بوحه الشعري في التدفق فظل بين الليل والفجر ماءا زلالا لا تكدر صفوه الأعاصير ولا العواصف، ونهرا رقراقا لا يحجمه اليباس في لهيب الزمن الحارق، إلى أن "حرنت خيله، وسقط الشرق في ثيابه دنانيرا، وصلى لحضرة المطر" عله يجود فيحيى أوصال إنساننا العربي اليائس من عوادي هذي السنين العجاف.
د. امحمد برغوت، أستاذ باحث في الأدب الحديث ـ المغرب