تقديم :
تحاول هذه الدراسة أن تحدد من جهة أهم العلاقات الاختلافية والاتفاقية بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية عامة، وكتابة الرواية التاريخية خاصة؛ ومن جهة ثانية، أن تقترح نمذجة عامة تهدف إلى تأطير جميع الروايات التاريخية انطلاقاً من أشكال تمثل كتابها للسؤال الراهن المحفز للذهاب إلى مرحلة تاريخية بعينها، أو إلى شخصية تاريخية دون غيرها. ويؤشر هذا الاختيار على تمثل مخصوص للواقع الراهن من قبل الكاتب. وقد حاولنا وضع تلك النمذجة انطلاقاً من سيميائيات بورس التداولية(1)، التي تقسم الأدلة بحسب انتمائها إلى إحدى المقولات الظاهراتية الثلاث، وهي أولاً مقولة الممكن، وتضم الأدلة التي تكون موضعاتها الدينامية أيقونات، أي أن موضوعاتها تتجسد في أدلة أخرى تربطها بها علاقات نوعية قائمة على المشابهة كما هو الحال في الاستعارة وما شاكلها، وتتسم هذه الموضوعات الدينامية بأنها محتملة وممكنة وحسب. وثانياً مقولة الوجود، وتضم الأدلة التي تكون موضوعاتها الدينامية مؤشرات وجودية ترتبط بالدليل عن طريق المجاورة. ويميز داخل هذه المقولة بين الأدلة الإشارية التي لا تقوم إلا بالتأشير على رمزها المجرد، وبين المؤشرات التي تجسد المعنى الحقيقي للمجاورة التي تضم الأشكال البلاغية الكلاسية المعروفة مثل المجاز بأنواعه والكناية وما شاكلهما. وثالثاً مقولة الضرورة، وهي مقولة مجردة مسؤولة عن الوساطة بين الأدلة ومؤولاتها المجردة التي لا تحين وجودياً إلا في شكل نسخ، فتغدو تبعاً لطبيعة التمثيل، أيقونات أو إشارات أو مؤشرات. وبناء على هذه الخلفية النظرية أمكننا إدراج جميع نصوص الروايات التاريخية في الخانات الثلاث المنطقية، تبعاً لشكل تمثل الكاتب للواقع وشكل تمثله للتاريخ الذي يقتطع منه ما يناسب التعبير عن سؤاله، وتبعاً للفرضية القائلة إن العودة إلى التاريخ هي منطقياً عودة لتقديم إجابة عن سؤال راهن.
تتلاءم هذه الخانات المنطقية أولاً مع الطاقة الإنتاجية الأيقونية، التي تتحقق إما عن طريق كون الأحداث التاريخية المشكلة لمادة الرواية مشابهة ـ من حيث النوعيات ـ للراهن المحفز لسؤال الكتابة،وإما نتيجة كون الإجابة التي تتضمنها تلك المرحلة مشابهة للإجابة التي يوجهها الكاتب للسؤال الراهن المحايث لفعل الكتابة. ومثالها روايات نجيب محفوظ التاريخية والعائش في الحقيقة والزيني بركات لجمال الغيطاني وما شاكلها.. وتتلاءم ثانياً مع الطاقة الإنتاجية التأشيرية التي تتحقق حين تكون العلاقة بين المضمون الحدثي للرواية التاريخية ومرجعه التاريخي الفعلي متطابقة تقريباً، ويكون السؤال الراهن في علاقته مع المادة التاريخية انفعالياً وحسب، يتصل بالتمجيد أو التنقيص أو الاستحضار... ومثاله روايات جورجي زيدان وما شاكلها.. وتتلاءم ثالثاً مع الطاقة الإنتاجية المؤشرية، وهي التي تهم استحضار شخصية تاريخية من أجل الدلالة على قضية معقولة، لا تهم بالتحديد وضعاً محدداً، بل وضعاً إنسانياً عاماً ومثالها روايات أمين معلوف وما شاكلها..
وسيلاحظ أننا سنكتفي في القسم الثاني من هذه الدراسة بتحليل نماذج من النمط الأول (روايات محفوظ) مع الاكتفاء بتحليل البنية الأولية للدلالة (أي الحكاية المقلصة) للروايات، دون الاهتمام بالمستويات الأخرى الهامة مثل البنية السردية والإظهار اللغوي (أو الخطاب كما يسميه الشكلانيون). وذلك لكي يتم التركيز على المستوى الأكثر ارتباطاً بموضوع (التاريخ)، وأيضاً لكي لا يتجاوز الحيز الزمني الرمزي لهذه الدراسة حصته بين مواد الدراسات المقدمة في المؤتمر.
1ــ تقديم عن الرواية والتاريخ:
إذا كانت الكتابة التاريخية نشاطاً معرفياً أصيلاً تعرَّفه الإنسان ومارسه مع بداية اكتشافه الكتابة حيث حاول من خلاله تدوين الحياة البشرية، وما يحكمها من عوامل، في امتدادها الزمني على الأرض(2)، وكانت الرواية جنساً تعبيرياً تخييلياً لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر(3)، فإنهما، وإن كانتا تختلفان من حيث البعد الأنطولوجي، تتعالقان وتتقاطعان في مستويات إبيستيمولوجية عدة: ويتحقق هذه التعالق ليس فقط في طبيعة أساس بناء خطابهما الماثل في سرد أحداث وقعت لذوات متحالفة أو متصارعة في الزمان والمكان، أو في كون موضوعهما المشترك ــ إذا استثنينا رواية الخيال العلمي ــ هو الماضي، بل في المتعاليات المتحكمة في إعطاء الشكل للأنواع الصغرى للكتابتين التاريخية والروائية. حيث تبدو البنيات الذهنية المتحكمة في إظهار سيروراتها هي نفسها تقريباً. ولا يبدو التميز إلا من خلال خصوصيات الخطاب، حيث يقبل الخطاب التاريخي الخضوع للتقييم الحقائقي بينما يقبل الخطاب الروائي التقييم الأيديولوجي، وذلك بسبب خضوع الأول لثنائية البث الحقائقي (الصدق والكذب) قياساً إلى ما يفترض أنه واقعي، وعدم خضوع الثاني لهذه الثنائية.
من أجل إظهار هذه التعالقات سنكتفي بوصف التشابهات القائمة بين أنواع الكتابة التاريخية التي حددها هيكل في كتابه "العقل في التاريخ" وبين أنواع الكتابة الروائية السائدة، على أن ننظر في أهم العلاقات الاختلافية عندما نتطرق للرواية التاريخية وعلاقتها بالتاريخ والواقع.
لقد مفصل هيكل التاريخ في كتابه المذكور(4) إلى ثلاثة أنواع كبرى، هي التاريخ الأصلي ويقصد به التاريخ الذي يكتبه المؤرخ وهو يعيش "أصل" الأحداث ومنبعها..(5) ويماثل هذا النوع الرواية الواقعية والرواية الطبيعية اللتين تتسمان بمحاولة وصف الجدل المعتمل بين القوى الفاعلة داخل الواقع المدرك والتي تتصارع بهدف تغييره أو تثبيته. وإذا كان هيكل قد أشار إلى أن هؤلاء المؤرخين وهم يدونون ما حولهم، إنما ينقلون ما يتبدى لهم إلى عالم التمثل العقلي(6) فإن الروائيين الواقعيين أيضاً وهم يحاولون نقل الواقع إنما ينقلون المتبدى (أي الشكل الذي يستطيع المدرك إدراكه من الدليل الحاضر في الوعي، في حدود معرفته به وحدود وضوحه في وعيه)(7).
ثم ثانياً التاريخ النظري، ويقصد به التاريخ الذي يكتبه مؤرخ، لا ينتمي إلى الحقبة المؤرخ لها. حيث لا تكون المشاهدة أو الحضور آليتين لإدراك الموضوع التاريخي، بل تعوضهما الوثائق المختلفة والتي ليست دائماً أمينة أو واقعية. وقد قسم هيكل هذا النوع إلى أربعة أنماط فرعية تحدد الهدف والخلفية. ومن الواضح أيضاً أن التاريخ النظري يشاكل إلى أبعد الحدود الرواية التاريخية التي هي الأخرى عودة إلى التاريخ الأصلي وفق استراتيجية معينة. والخطابان معاً يمارسان التمثل المضاعف للوقائع المختفية أصلاً خلف اللغة.
أما النوع الثالث: التاريخ الفلسفي، الذي يعني بشكل أو بآخر دراسة التاريخ من خلال الفكر، فيماثل الروايات التي تحول الشخصية التاريخية أو الحدث التاريخي إلى مولد وحسب، لتشيد من خلاله عوالم معقولة تحاول رسم الجوهري والعميق الخاص بتلك الشخصية أو ذاك الحدث...
وبما أن موضوع دراستنا الحالية هو الرواية التاريخية وكيفية تمثلها للواقع، فسنركز، قبل التطرق لعلاقتها بالواقع المزامن لإنتاجها، على أهم العلاقات الاتفاقية أو الاختلافية بينها وبين التاريخ الذي يعتبر مرجعاً لها، ومعياراً لرؤية دلالاتها ومعناها. وسنعالجها انطلاقاً من العلاقة اللغوية ثم أسلوب الكتابة ثم خصوصية المرجعية:
1ــ 2ــ العلاقة اللغوية (من الرواية الشفهية إلى الرواية):
إن التفكير الجدي في الحقيقة الثانوية خلف انتشار الدليل /رواية/ وقهر لمنافسيه في الدلالة على الجنس السردي الغربي الحادث في الثقافة العربية، يدعونا إلى الاستنجاد بمفهوم النسق السيميائي الذي يحدد لنا بدقة آليات قبول وإدماج الأدلة الجديدة في الأنساق. ويساعدنا من ثمة على معرفة الأسس التي بني عليها ذلك الاختيار. وهي أسس أيقونية تنبني، في المقام الأول، على علاقات التشابه بين المكونات النوعية للرواية الشفهية والرواية الأدبية، وفي المقام الثاني، بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية:
ولكي ندرك ذلك بشكل ملموس لنتأمل، في البداية، دلالات الرواية الشفهية التي يستند إليها المؤرخ ثم نقارنها بخصوصيات الرواية الأدبية.
إن الرواية في معناها اللغوي تعني النقل عن مصدر غيري. ولا تشير أبداً إلى الإنتاج بل إلى إعادة الإنتاج، لأن الفعل أو القول المروي ينتمي إلى ذات غيرية بالنسبة للرواية نفسها، ولذلك فإن فعل الرواية مشروط دائماً بالحفظ الذي هو نشاط الذاكرة، وبهذا المعنى تسمح الرواية للمؤرخ، عن طريق الذات الناقلة لمضمون الرواية، بأن يضع مسافة بينه وبين الحدث الفعلي. إنها بذلك تخفف من مسؤولية المؤرخ وتضعها على عاتق الراوية في حالة الآحاد، وعلى عاتق الرواة في حالة التواتر. وبغض النظر عن المعايير التي اعتمدت في انتقاء الروايات والأخذ بها، والتي وضح ابن خلدون أنواعها(8)، فإن تواجد المؤرخ في نهاية سلسلة الرواة، يضعه في موضع الحياد. الشيء الذي يوهم المتلقي بالموضوعية. بيد أن الرغبة في التواري خلف الآخر لا تخفي التورط بسبب الانحياز إلى رواية دون أخرى إذا وجدت، أو لجوء للرواية تارة والتغاضي عنها تارة أخرى، وهكذا..
إن لجوء المؤرخ إلى الرواية الشفوية اختيارياً أو اضطرارياً، هو إقرار بنسبية الحقيقة، بفضل ارتهان صدقها بصدق الآخر الذي لا يمكن ضمان مقدار مطابقة روايته للواقع الفعلي. وارتهانها إلى أخلاقية اللغة (بالمعنى البارطي للكلمة)(9)، التي وحتى وإن صدقت، فإنها وهي تنقل المرئي إلى مكتوب، تشيد عالماً لغوياً ممكناً منضدا على عالم الرواية المروي، فاتحة بذلك فجوات لتمرير سجلات الذات الراوية ومواقع نظرها وميولاتها السياسية وقد أطرت بقدراتها الإدراكية والتحليلية..
وهكذا نخلص إلى القول إن الرواية بمعناها اللغوي والثقافي، هي توصيف لخطاب حقيقي مصدره غيري. لكن بما أنه خطاب، فهو نتاج فعل تذاوتي(10) يشكل تضافر متزامن بين الوعي بالعالم وبالشيء المدرك الذي يتجسد أولاً بشكل ملموس في أفكار قبل أن يعطى للإدراك الغيري في شكل لغوي ما. وهذه السلسلة من العمليات التي تتم في الذهن، هي التي تخلق سياجاً سميكاً يفصل بين الشيء المروي في حقيقته وواقعيته المحضة، وشكل ظهوره في كتابة المؤرخ الذي يكون، بفضل كل هذا، قد وضع مسافة بينه وبين الحدث المروي. مؤكداً أن الواقعية الحقيقية، لما يرويه، هي واقعية الخطاب نفسه.
وبما أن أصل كل رواية، شهادة مرئية أو مسموعة، فإن دخول الفعل التذاوتي يجعل المصدر الأصلي منقولاً بأشكال مختلفة باختلاف الروايات سواء كانت آحاداً أو بالتواتر. وبناء على كل ما سبق يمكن أن نقول إن الرواية الشفهية من المنظور الدلائلي، هي نقل عن آخر أو عن سلسلة من الآخرين لحدث وقع أو لأفكار سادت ولم يشهدها فعلياً المؤرخ. وليس له معيار موضوعي للتحقق منها، لأنها تغدو حالة أشياء، أي تتموضع بين الواقع الذي لا سبيل إلى الإمساك به مباشرة، وبين الإظهار اللغوي المحكوم بإرغامات عدة(11) إنها إذن ليست واقعاً خارجياً ما، مادام الواقع الخارجي موسط وغير قابل لأن يدرك في ماديته الخالصة، بل هي فقط، نتيجة إدراك الواقع انطلاقاً من سيرورة تصورية تساهم فيها الفعالية اللغوية والمرجعية. وبسبب كل ذلك تفقد المقولة الحقائقية معناها. وهكذا يتضح أن الخصوصيات النوعية للرواية الشفهية سواء على المستوى المرجعي أو التداولي أو الإظهار اللغوي بدت في مرحلة تسمية الجنس السردي الحادث في الثقافة العربية مشاكلة ومناظرة لنوعيات مكوناته. وبذلك استعير الدليل (رواية) من المجال التاريخي للدلالة اصطلاحاً على الجنس الأدبي الذي ألفنا الآن دعوته رواية.
1ــ 2ــ أسلوب الكتابة في التاريخ وفي الرواية التاريخية:
تفيد الدراسات الفلسفية حول التاريخ أنه كتب تحت تأثير التصورات التي هيمنت في مراحل التدوين، وأن كل إعادة لكتابته هي خاضعة بالضرورة للتصور المزامن للحظة الكتابة. وذلك ما يعني أن التاريخ النظري الذي يهمنا في هذه الدراسة، وهو يعود إلى حقب ماضية ومنتهية، يعود مؤطراً بتصور ما عن هذا الماضي. وبذلك تكون المسافة مضاعفة، حيث يجد المؤرخ نفسه أمام خطابات وليس أمام وقائع، الشيء الذي يعني أنه يتحول إلى مؤول للخطاب ثم مؤول لموضوع الخطاب. لذلك يسود أسلوب التحقيق والتمحيص، فيصبح، من ثمة، الحجاج مهيمناً على أسلوب الكتابة التاريخية للعمل على إقناع المختص قبل القارئ العادي بمصداقية المستندات ومصداقية التحليل. وكل ذلك بهدف تضييق الهوة بين الواقعي والمحتمل. كما أنه لا يهتم بالتفاصيل الصغرى ومقصديات الذوات إلا إذا كانت حجة داعمة لتوجهات التحليل. أما آليات الإيجاز والحذف والاختزال التي يلجأ إليها المؤرخ أحياناً، وهو يقرأ نصوص الماضي، فإنها لا تؤثر سلباً على الكتابة التاريخية، بل قد تبدو ضرورية من أجل التملص من الزوائد غير المفيدة.
أما الرواية التاريخية فعلى العكس من كل ذلك، لا تحفل كثيراً بإبعاد شبهة المزج بين الواقعي والتخييلي، ولا تحفل بالتزام الأمانة، لأن طبيعتها تفرض المراوحة بين الواقعي والمحتمل. كما أنها لا تهتم بالضرورة بالكلي والعام، بل تتغيا إعادة بناء المعرفة بالتاريخ من خلال الخاص، لأنها غالباً ما تعمد إلى اختيار شخصية أو أسرة من خلالها يجري تقديم تاريخ المرحلة المختارة. ويفرض هذا الاختيار الاهتمام بالمقصديات التي تدمج بالضرورة العوالم الداخلية للشخصيات ومن ثمة تفرض على الكاتب، من أجل الإقناع الجمالي، تشريحها. مثلما تفرض الاهتمام بالفضاءات والأزمنة وتأثيثها بما يتصور ملائماً للحقبة.. وإذن يمكن القول إن الرواية التاريخية والتاريخ النظري، وإن كانا يتشاكلان في شكل تشييد عالمهما الممكن المنضد على العالم المعطي في الموسوعة التاريخية، فإنهما يختلفان جذرياً في أسلوب البناء، ومن بين الاختلافات الجلية اهتمام التاريخ بتوالي الأحداث وتغييب وجهة نظر مخصوصة توجه الخطاب.. في مقابل اهتمام الرواية بالشخصيات، واعتمادها وجهة نظر موجهة للسرد التاريخي في الرواية. وبإيجاز شديد، إذا كان المؤرخ يعتمد المنهج التجريبي المستند على الاستقراء، فإن الرواية التاريخية تستند إلى الاستنباط والافتراض، ومن ثمة تدمج داخل عالمها عوالم صغرى ممكنة تقوم بوظيفة التوجيه الدلالي الذي يميزها عن النص التاريخي المشخص لنفس الحقبة..
1ــ 3ــ خصوصية مرجعي التاريخ والرواية التاريخية:
إن مادة التاريخ الأولية التي يمكن دعوتها مرجعاً، هي بالنسبة للتاريخ الأصلي، الوقائع المحسوسة المدركة مباشرة من قبل المؤرخ، أو المسجلة في الموسوعة المزامنة له عن طريق التحقيقات والشهادات، وغيرها. وهي بالنسبة للتاريخ النظري مجموع الوثائق التاريخية المختلفة للحقبة المؤرخ لها، والتي كانت في زمن كتابتها تاريخاً أصلياً. وبغض النظر عن الإظهار اللغوي الذي سبق أن وضحنا كيف يحول الواقعية إلى واقعية الخطاب، والاهتمام فقط بالمادة التاريخية، كما لو كانت تدرك بشكل مباشر وملموس. فإننا نستطيع أن نميز الفرق بين مادة مرجع التاريخ ومادة مرجع الرواية التاريخية:
إن المؤرخ مهما كانت الحقبة التي يحاول التأريخ لها، يفرض عليه الاستناد إلى الأحداث الواقعية، بيد أن هذا لا يعني مصادرة حقه في مواكبة الأحداث بالتعليق الذي يرضي توجهاته الفكرية والسياسية، أو إدماج تأويلاته.. لأن المحاكمة الحقيقية التي يتعرض لها المؤرخ تستند إلى معيار صدق أو كذب الوقائع التي يسردها قياساً إلى ما وقع بالفعل وفق الشواهد والوثائق الموجودة.. أما التعليق والتحليل فلا يعتبر تزييفاً للتاريخ بل قراءة سياسية ممكنة ما. أما الرواية التاريخية فتشاكل التاريخ الفلسفي وفق تحديد هيكل، لأن مادتها المرجعية ليست الواقع كما هو بل المادة التاريخية كما بنيت من قبل المؤرخين الأصليين. ولذلك فالروائي لا يبحث عن حقيقة جديدة للتاريخ بل ينطلق مما انتهى إليه المؤرخ، لكي يصوغ الدلالة التي يود تشكيلها. وبفضل الاختلاف في خصوصيات المرجعين، تستطيع الرواية التاريخية أن تضيف إلى الأحداث ما تشاء وأن تحذف ما تشاء أيضاً لأن السؤال الذي يطرح على الرواية التاريخية، لا يتعلق بمقدار الوفاء للتاريخ ولكن بالفكرة الإيديولوجية التي من أجل التعبير عنها كانت العودة إلى هذه الحقبة التاريخية. وذلك لأنها وإن كانت تاريخية لا يمكنا أبداً أن تكون مصدراً لكتابة التاريخ، على خلاف الرواية الواقعية التي تدخل ضمن مصادر الكتابة التاريخية البعدية.
ومن الواضح أن اختلاف طبيعة المادة المرجعية يسمح بوضع فوارق بين الخطابين، فخطاب التاريخ النظري إذا كان يتغيا ليس البحث عن الحقيقة بل تشكيل وعي جديد بمكونات الهوية من أجل تغير الحاضر والمستقبل، فإن مادته تدحض بسهولة وتكشف نواياه. أما الروائي المؤرخ فينفلت من صرامة المحاكمة، ويستطيع من ثمة تمرير مشروعه عن طريق الأدلة التي يصوغ بها المادة التاريخية. ومن هنا خطورة الرواية التاريخية، وقدرتها على التأثير في تغير الوعي بالذات وبالعالم. ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلت ديدرو على سبيل المثال يعتبرها جنساً هجيناً يقزز المتخصص في التاريخ، ويخدع غير المتخصص.
2ــ علاقة الرواية التاريخية بالسؤال المحايث للكتابة:
لابد، قبل تحليل روايات نجيب محفوظ التاريخية الشهيرة، من التذكير بالقضايا التي طرحت في مقدمة هذه الدراسة،وذلك من أجل توضيح حدود ومرامي وأبعاد هذا التحليل.
لقد تمت الإشارة في هذه المقدمة إلى ثلاث قضايا أساسية وهي:
أــ إن النمذجة التي نقترحها تستند إلى خلفية ابستيمولوجية تتمثل في النظرية العامة التي صاغها بورس لتحديد أنواع وأقسام الأدلة، ولما كان من الصعب بسط هذه النظرية، فقد تم الاكتفاء بتقديم الأنماط التي تنمذج أنواع الروايات التاريخية في ضوئها، وهي الرواية المنتجة تحت مفعول الطاقة الأيقونية والرواية المنتجة تحت مفعول الطاقة التأشيرية ثم أخيراً الرواية المنتجة وفق الطاقة الإنتاجية المؤشرية.
ب ــ أن التحليل سيقتصر، تحت إرغامات الزمن الرمزي لهذه الدراسة، على النمط الأول وسيمثل له بروايات نجيب محفوظ التاريخية الأولى (عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة). وقد انحزنا إلى التمثيل بها دون غيرها لأنها الأكثر مقروئية وشعبية لدى عموم قراء الرواية العربية.
ج ــ اكتفاء هذه الدراسة بتحليل البنيات الأولية لدلالة الروايات، رغم أن تحليل النص الروائي تحليلاً حقيقياً يقتضي الاهتمام بمستوياته الأساسية، وأهمها الإظهار اللغوي الذي يعتبر المسؤول الحقيقي عن أدبية النص الروائي وجماليته، لأنه من جهة يشكل المعطى المادي الوحيد الذي يتعامل معه القارئ، ومن جهة ثانية هو الذي يجسد في نفس الوقت البنية الأولية للدلالة (الحكاية المقلصة) والبرامج السردية (الحبكة). إن الاقتصار على تحليل البنيات الأولية للروايات الثلاث، يعود بالدرجة الأولى إلى ملاءمتها لموضوع المؤتمر (الرواية والتاريخ)، حيث المشترك الفعلي هو المادة الحدثية وليس بالضرورة شكل بنائها وإظهارها.. كما أن التأويل الذي ستفرضه طبيعة القراءة لا ينسجم إلا مع مستوى البنية الأولية للدلالة ومع الحقبة المزامنة لإنتاج وتلقي تلك الروايات.
2ــ 1 روايات محفوظ التاريخية الأولى وطاقة الإنتاج الأيقونية
لقد كتب محفوظ رواياته الأولى أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ولم تكن هذه المرحلة متميزة عن المراحل السابقة عليها، والتي تبدأ تأثيراتها على محفوظ بدءاً من ثورة 1919.
إن ما يميز هذه الفترة سياسياً، هو خضوع مصر للاحتلال البريطاني، وللنظام الملكي الذي كان ينظر إليه بوصفه متحالفاً مع القوى الإقطاعية المستغلة والمعادية للتحرر والديموقراطية. وقد دأبت هذه القوى المتحالفة (الاحتلال والقصر)، على القمع العملي والمعنوي للقوى الوطنية الهادفة إلى التحرر(1).
إن شكل الواقع المظهر من قبل الدراسات المختصة في هذه الحقب، يساعدنا على استنتاج الفكرة المتحكمة في إنتاج تلك الروايات. فمن خلال، استقرائها، يتبين أن السياق الخارجي الذي تمثله محفوظ قاده إلى تصور أن الخلل العام، الذي يعوق ازدهار وتطور مجتمعه، يكمن في عدم امتلاك المصريين لزمام أمرهم. ومن ثمة، كان سؤال مدار الروايات الجوهري هو (كيف نتحرر؟). وقد فرض ذلك السؤال إجابات مرتبطة بأساليب التحرر الممكنة. وبالفعل، فإن روايات تلك المرحلة، قدمت إجابات متقاربة ولكنها مختلفة، من حيث الوعي بأساليب التغيير الممكنة. تلك الأساليب التي فضل محفوظ أن تستعار من الماضي المصري من أجل التحفيز على محاكاتها في الحاضر. وتشكل هذه الاستعارة، تجسيداً لإيديولوجية محايثة ومزامنة لفعل الإدراك والإنتاج. وتمثلت في فكرة الروح المصرية، التي ـ قبل أن تتراجع بعد أن تبين أنها مجرد نزوع رومانسي(12) ــ كانت متبناة من قبل بعض المفكرين(2).
تستلهم الرواية الأولى (عبث الأقدار)، حكاية الفرعون خوفو، الذي تتجسد حكايته بشكل يجعلها تمثل الحقيقة القدرية، التي تتجاوز الإرادة والتخطيط البشريين.
لكنها وإن كانت مؤسسة على فكرة تلغي الإنسان وإرادته، وتسند الفعل للقوى الغيبية فإنها، مع ذلك تجعل الذوات المساعدة على تحقيق ذلك الفعل القدري متشبعة بالروح الدينية والإنسانية، حيث تبدو متفانية في الاستجابة لقيمها، ومستعدة للتضحية بالنفس في سبيلهما. وبذلك ترتبط هذه الفكرة ضمنياً ــ ولو بنسبة قليلة ــ بحتمية العدالة الإلهية.
بيد أن أهمية الرواية، تكمن في تجسيد حكايتها لانتقال السلطة من فرعون إلى أحد أبناء الشعب الجنوبيين، ومن سلالة دينية إلى أخرى أقرب إلى روح الشعب.
وتشكل كل تلك المؤشرات إجابة مزدوجة عن سؤال التغيير: مزدوجة، لأنها في نفس الوقت الذي تشير إلى حتمية التغيير، وتحرض على الوفاء له؛ تسند تنفيذه إلى القدر. إن الرواية إذن، هي إجابة غيبية ذات لبوس رومانسية، عن سؤل واقعي.
إلا أن اختيار نجيب محفوظ لعنوان (عبث الأقدار)، يؤشر، في الواقع، على سخرية مضاعفة، تشكل في العمق إيديولوجيته الخاصة، الرافضة لشكل ظهور الواقع، ولكل متعالياته..
لقد أصدر محفوظ هذه الرواية أثناء بداية الحرب العالمية الثانية، أي مباشرة بعد أن تقلد حزب الوفد الحكم للمرة الرابعة في تاريخه، وهي المرة الأطول زمنيا (1936 ـ 1937) في الحكم. والواقع أن تلك العودة، لم تكن في الحقيقة نتيجة فعل إرادي نابع من إرغامات الواقع السياسي المصري ومن كفاح الحزب والمتعاطفين معه، بل نتيجة إرادة المستعمر والقصر، اللذين تعودا اللجوء كلما تعاظمت القلاقل الداخلية، أو تعاظم التهديد الخارجي، إلى حزب الوفد من أجل تهدئة الوضع، ثم حالما يتحقق لهما ذلك، يقومان بإقالة حكومته، والتنكر للامتيازات التي يكون قد حققها للجماهير (مثل معاهدة 1936 المبرمة بين النحاس باشا والإنجليز، والتي تقضي بإنهاء الاحتلال العسكري البريطاني لمصر(14). فقد أثبت الواقع أن المحتل يكون وراء تنصيب حكومة وفدية لقمع الشعب وإسكاته..
لقد أدرك نجيب محفوظ، دون شك أن تنصيب الحكومات الوفدية أو ذات الأغلبية الوفدية (1924 و1927 و1930 ثم 1936 ـ 1937)، بمثابة هبة قدرية، أقرب ما تكون إلى العبث.. ولذلك فقد انتقى حكاية تجعل التغيير صوريا، لأنها تشرطه بعلاقة القرابة، التي تبقي أواصر الوصاية قائمة؛ إضافة إلى طبيعة القرابة ذاتها، حيث الزواج مهدد دائماً بالطلاق...
إن المدار النصي للرواية، بفضل التحليل المؤسس (الأيقونية)، أي القائم على التشاكلات النوعية بين عالم الرواية وعالم الواقع المزامن للكتابة، ليوضح أشكال تجسيد فكرة العبث، التي تبدو ماثلة في شكل تحول مسارات الحكاية، ذلك أن ابن الشعب الأصيل (الوفد)، سيصل إلى السلطة، بفضل ظروف نابعة ليس من الرغبة الداخلية، ولكن من مسارات خارجية ومتعالية عن إرادته ومشيئته (الحرب العالمية الثانية). وقد أشرت الحكاية على ذلك، بفضل علاقة المصاهرة، بين ابن الشعب والحاكم. وبما أن هذا الأخير أب للزوجة، فإنه سيفرض عليه وصايته عن طريق ابنته(3) وبذلك تؤشر الرواية، بفضل العلاقة الأيقونية، بالواقع المحفز لسؤالها، على أن الوفد قد فقد قوته الذاتية والمحايدة، واصبح أداة مدعمة لاستمرارية السلطة التي كان من المفروض أن يواجهها.. ومن هنا، يمكن فهم العنوان بوصفه، تأشيراً على موقف محفوظ، من صعود الوفد إلى الحكم آنذاك، حيث يبدو أنه اعتبره صعوداً عبثياً، من جهة لأنه نابع من دوافع خارجية، ومن جهة لأنه مشروط بالرقابة التي تفرض الخضوع.. ومن ثمة، لم يكن صعوده إلا وهماً مرحلياً لاستعادة المصري لروحه.
والواقع أن هذا الموقع الذي عبرت عنه الأيدلوجية الخفية المحايثة للفكرة، هو نفسه الذي سيعبر عنه الوعي الشعبي بعد ذلك بقليل، خلال تقلد الوفد الحكم أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي ــ كما توضح التقارير السياسية المؤرخة للمرحلة، والتي سوف يستلهمها محفوظ، في رواية (خان الخليلي) لاحقاً ــ حيث كانت غالبية الشعب، لا تنظر إلى حكومة الوفد بوصفها رمزاً للتغيير أو ترهينا للديموقراطية، بل كانت تراها جزءاً من النظام العام الذي تمقته،ويتجلى ذلك بوضوح في عدم مشاطرة أغلبية الشعب لموقف الوفد من طرفي الصراع. ففي الوقت الذي كان الوفد يدعو إلى الحياد الكامل، كان الشعب يتمنى من الأعماق انتصار الألمان، على اعتبار أن ذلك سيكون مساعداً على التحرر من الإنجليز..
وهكذا، يمكننا القول، إن رواية (عبث الأقدار)، وهي تعبر عن جبرية التغيير، وتشجع على التفاني في مساعدة الفاعل الذي ينتدبه القدر للتغيير الإيجابي، ثم وهي تعمل على ترسيخ الروح المصرية في الذوات، فإنها تنتقد المتبدي وترفض شكله العبثي، داعية إلى شكل آخر للفعل، شكل يكون "واقعياً" وصادراً عن إرادة ذاتية. وهذا بالضبط ما سيعمل محفوظ على تجسيده من خلال إجابتيه المقدمتين في الروايتين اللاحقتين (رادوبيس وكفاح طيبة):
صدرت رواية (رادوبيس) سنة 1943، بعد أربع سنوات من صدور (عبث الأقدار). ومعنى ذلك أن نجيب محفوظ قد خلد إلى الصمت، خلال الحرب، ولا بد أن هذه المدة القصيرة قد ساهمت في تعديل وعيه بالواقع المتبدي. ذلك التعديل الذي سنلمسه في شكل تغيير الإجابة عن نفس السؤال المؤسس للروايات الثلاث (كيف نتحرر؟)، عن طريق التخلي عن فكرة القدرية، التي تجعل الفعل خاضعاً لقوى خارجية غيبية أو فعليه، والبحث عن مدار نصي، يجسد نقداً اجتماعياً عاماً للأفعال والسلوكيات، ويحفز على الفعل الإرادي: تقوم الحكاية المشكلة لمدار الرواية النصي، على وصف العلاقات القائمة بين ثلاثة أقطاب هي:
ــ رادوبيس، التي صورت بوصفها فاتنة دخيلة، ومستبدة، تسيطر على باقي الأقطاب، وتحظى بالاستفادة من كل الخيرات والامتيازات والإمكانات الإبداعية.. الشيء الذي جعلها تؤشر أيقونيا، على المحتل الإنجليزي حين جعل الملك وحاشيته وسيطاً لاستغلال إمكانات الوطن..
ــ فرعون (مرنرع الثاني)، الذي صور مستبداً ومهملاً لواجباته تجاه الملكة والرعية، نتيجة خضوعه لرادوبيس ورغباتها؛ ومن ثمة، بدا متحدياً لمشاعر رعيته القومية والدينية...
ــ أما القطب الثالث، فتمثله الملكة وباقي الرعية..
وقد انتهى هذا الصراع ب "انتفاضة" شعبية، قادتها النخبة، بعد أن فشلت الملكة سياسياً في إقناع الملك بالتراجع عن أعماله.. وقد نتج عنها أن وجه أحد أفراد الشعب سهماً قاتلاً لفرعون..
والواقع أن الفكرة المولدة لهذه الرواية، قد تجسدت في المدار النصي، استناداً على مبدأ الأيقونية البسيطة، حيث عمل محفوظ على مماثلة الواقع الراهن، بالواقع الذي يتصور أن الموسوعة المزامنة لفترة حكم مر نرع الثاني قد أفرزته. ولقد كان أهم مؤشر على ذلك، هو اشتراك الملك الراهن (فاروق) مع فرعون (مر نرع) في لقب (الملك العابث)، الذي نعتا به معاً من قبل رعاياهما.. الشيء الذي أشر إلى أنها تدعو ــ بشكل صريح ــ الفئات الحية في البلاد، من المثقفين والسياسيين، إلى تعبئة الجماهير وتحريضهم ضد المحتل عن طريق تصفية رأس النظام.. مثلما تدعو الحركات المتطرفة والسرية، إلى تعديل استراتيجيتها في المقاومة..
ولعل هذا الوعي بالواقع ناتج، دون شك، عن الإحساس الشعبي بفشل الأحزاب الوطنية، التي رغم تبنيها لمختلف أشكال النضال الذي خاضه الشعب، لم تفرز نتائج سياسية مقنعة. ومن ثمة، كان لابد من اقتراح إجابة أخرى لنفس السؤال (كيف نتحرر؟).
غير أن هذه الرواية، وإن كانت تحت إرغام الواقع المؤطر لإنتاجها، قد حاولت توجيه شكل نضال الحركات السرية؛ فإنها، مع ذلك، لم تنظر إلى ذلك الأسلوب بوصفه وسيلة للتحرر، أو للتغيير حتى.. وذلك واضح من خلال الأدلة الأيقونية المستنتجة من صمت الرواية عن مصير النظام والكهنة والرعية، وأيضاً من خلال تصوير الرواية للاحتفاء بجثمان فرعون، حيث يرتبط الموضوع الدينامي لذلك الاحتفاء، بعدم كفاية التصفية الجسدية لرمز النظام، وكذا بعدم كفاية العمل السري..
والواقع أن صدور هذه الرواية، قد زامن تعاظم السخط الاجتماعي على النظام وعلى التجربة النيابية المزيفة ــ والتي ساهم الوفد نفسه فيها ــ حيث تعاظم عمل المجموعات العاملة تحت الأرض (بتعبير هيكل)، وبصفة خاصة جماعة "الإخوان" التي خلقت جناحاً مسلحاً عرف باسم "النظام الخاص" تحددت مهمته في تنفيذ عدة عمليات استهدف العديد منها أماكن عامة للترفيه.. وقد بدا واضحاً أن المنظمات السرية لا تمتلك، القوة اللازمة لفرض التغيير، سواء على المستوى السياسي أو العملي..
ولا شك أن هذا الوعي، الذي هيمن بعد الحرب، هو الذي جعل نجيب محفوظ يدرك أن إزالة الخلل الكامن وراء ديمومة الاحتلال، ليس كامناً في اغتيال فرد اعتباري، أو إخافة الناس من ارتياد مواطن الترفيه.. بل بعمل منظم ــ مؤسس على استراتيجية مدروسة ــ يستهدف كل أركان النظام، وذلك بالفعل ما ستقوم الرواية الأخيرة بالتعبير عنه انطلاقاً من توظيف واضح لإيديولوجية الروح المصرية (كفاح طيبة):
ترتبط فكرة رواية (كفاح طيبة)، بدعوة صريحة للبحث عن الهوية المفتقدة، وذلك عن طريق الحث على اجتثاث الموانع القائمة دون انطلاقها الحر. وتتمثل تلك الموانع في الاحتلال والنظام معاً، ذلك أن الدولة الحاكمة، وفق الإيديولوجية الموائمة لفكرة (الروح المصرية)، هي من سلالة الشراكسة الوافدين من الشمال؛ والذين يجب التخلص منهم، من أجل امتلاك الذات، باعتبار ذلك هو الطريق المضمون لامتلاك المصير.. وواضح أن هذا الوعي الذي خالف مطامح الأحزاب الوطنية المناضلة منذ عقود ـ والتي لم تكن تطمح إلى أكثر من تحقيق الاستقلال، في إطار ملكية دستورية ديموقراطية ــ قد تضمن الوعي بلا جدوى النضال الديموقراطي، والتجارب النيابية.. ولا جدوى التصالح مع نظام غير أصيل وموال للمحتلين..
وهكذا، من أجل تمرير ناتج هذه الفكرة انتقى محفوظ مداراً نصياً منسجماً، مع الإيديولوجية المحايثة لذلك الدليل، وقد تمثل في حكاية فرعونية تتصل بتحرير المصريين من حكم الهكسوس المحتلين القادمين من الشمال أيضاً..
وقد انبنت هذه الرواية، بدورها، على القوة الإنتاجية الأيقونية البسيطة، حيث التناظر الكبير بين السياق السياسي والاجتماعي المحاقب لزمن الكتابة وبين مدار النص التاريخي، فالتشابه واضح بين وضع مصر والمصريين والعائلة الحاكمة، في الموسوعتين معاً.. فمصر ليست بيد المصريين، والمصريون مستعبدون والحاكمون الحقيقيون وافدون شماليون، ومن هنا ندرك حقيقة الإجابة التي قدمتها الرواية لسؤال المرحلة، والتي ترتبط بضرورة محاربة النظام نفسه، انطلاقاً من العمل المنظم والموجه سياسياً وعسكرياً..
وتشكل هذه الإجابة تطوراً كبيراً في إدراك الواقع المتبدي، ولابد أن لذلك علاقة بفشل البرامج السياسية للأحزاب الوطنية، وبعدم جدوى عمليات المنظمات السرية، وأيضاً لابد أن لها علاقة بولوج أبناء الطبقة الوسطى، إلى مدرسة الضباط أواخر الثلاثينات..
إن السؤال الأساسي في هذه الروايات الثلاث، هو: كيف نتحرر؟ وقد جاءت الإجابة متناظرة، من حيث البعد الإيديولوجي العام؛ وتتمثل هذه الأيديولوجية في محاولة تفعيل "الروح المصرية" وتحويلها إلى قوة مادية، خاصة وأنها تستطيع ــ بفضل تعاليها على الإيديولوجيات الحزبية المتناحرة ــ تشكيل بنية فكرية متشاركة ومؤطرة، لا تتقاطع داخلها إلا الأفكار التحررية. والواقع أنها، رغم كونها إيديولوجية متعالية موسومة برومانسية تقييم استبدالاً فريداً بين الإنسان والمكان والزمان..، فإنها فعالة، فيما يخص الحض الوجداني على السعي للتحرر، وعلى البحث عن الهوية(4)؛ التي وإن كانت تصور ــ من خلال تلك الإيديولوجية ــ رهينة بالتحرر، فإنها تبدو، مع ذلك ــ بفضل تصويرها البارع ــ أكثر سمواً من هويات المحتلين جميعاً..
لكن تناظر البعد الإيديولوجي العام، لم يمنع الروايات من أن تكون متمايزة، نتيجة تأثر لحظات الوعي المنتج، بالمتبدي المتحول. وذلك ما جعلها، رغم كونها تبدو متراطبة في تعالقها مع المتبدي الاجتماعي والذاتي للمنتج، كاشفة عن أيديولوجيات تحيينية ــ للتغيير ــ غير متناظرة: فقد سبقت الإشارة إلى أن الرواية الأولى، تسند فعل التغيير ــ الماثل في تنصيب أحد أبناء الشعب ملكاً ــ إلى القدر والآلهة مع تمجيد وتثبيت الإخلاص للآلهة، وذلك ما يشي بتأثر الفكرة، ب "سلفية فكرية"؛ بينما تسند الرواية الثانية، فعل التغيير إلى القوى الحية للمجموعة الاجتماعية، التي تحفز الجماهير على اغتيال الحاكم. وقد عبرت بذلك الرواية عن محاولة لتصحيح إيديولوجية كانت حاضرة آنذاك، ترى ضرورة مقاومة المحتلين والمتسلطين.. أما الرواية الأخيرة فتتشرب الروايتين السابقتين وتتجاوزهما في نفس الوقت. فبينما تبقى على احترام الابستيمي المهيمن، وعلى الولاء للأرض والملكة ــ الأم، تتجاوزهما، بفضل أسلوب التحرير المقترح: وهو أسلوب استراتيجي مبني على التخطيط المنهجي أيديولوجيا وعسكرياً..
وبصفة عامة، فهي روايات استعارت مداراتها النصية من التاريخ الفرعوني، بهدف رد الاعتبار للذات التي طمستها قرون طويلة من المسخ الممارس عليها، من قبل الحكام المتعاقبين على مصر منذ العصر الفرعوني. أما الاختلاف، الذي لاحظناه بخصوص الإيديولوجيات التحيينية، فيعود إلى تطور وعي نجيب محفوظ بالمتبدي: من الاعتقاد في ضرورة التغيير القدري، عن طريق وصول حزب الوفد إلى الحكم. في الرواية الأولى؛ إلى ضرورة توجيه النخبة المثقفة للجماهير من أجل الثورة على الحاكم.. في الرواية الثانية؛ ثم إلى الدعوة للعمل السري المنظم والهادف إلى التغيير الجذري في الرواية الثالثة.
وهكذا نخلص إلى أنها روايات مؤسسة على دليل ــ تفكري، أدرك أن الخلل ماثل في وجود الاحتلال والنظام المهادن له، ومن ثمة أدرك أن تصفية الخلل، المرتبط باستعادة الذات أو الروح بتعبير مثقفي تلك المرحلة، يستوجب التخلص المزدوج من المحتل والنظام.
وقد عمل نجيب محفوظ، من أجل الإقناع بذلك، على تصوير عوامل الخلل (المحتل والنظام) تدريجياً بوصفهما قوة عاتية تتحدى القدر والآلهة (الله) من أجل الحفاظ على سطوتها واستعبادها للجماهير.. (عبث الأقدار)؛ ثم بوصفها مستبدة بكل الخيرات.. (رادوبيس)؛ ثم محتقرة للمواطن الأصلي ومستعبدة إياه.. (كفاح طيبة).
كما يمكن أن نخلص ــ من خلال هذا التحليل الجزئي لبعض روايات نجيب محفوظ، التي بدت لنا منتجة انطلاقاً من القوة الإنتاجية الأيقونية ــ إلى أن هذا النوع من الرواية التاريخية، لا يختلف من حيث البناء عن الرواية بإطلاق، إلا أنه يمتاز بوضوح موضوعه الإيديولوجي، وبقدرته على التأثير السريع على المتلقي، واقترابه أكثر من الرواية الأطروحة التي تتغيا بشكل مباشر تعليم المتلقي شيئاً ما بهدف توجيهه وتأطير وعيه. لكن ليس من المؤكد أن ترقى كل نماذجه إلى المستوى الفني والجمالي الذي امتازت به روايات كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، والتي استطاعت أن تتجاوز هدفها المحدد في الزمن، لتصبح علامات فنية قابلة لأن تقرأ في سياقات وأزمنة مختلفة، وأن تقدم مع ذلك دلالات غنية، تتجاوز شرط وجودها الأول.
الهوامش:
1- C.S Pierce, Textes Fondamentaux De Sèmiotique, traduction et notes B.Fouchier-Axelsen etC.Foz, M.K, Paris, 1987.
- G.Deledalle. thèorie et pratique du signe. Ed. Payot Paris 1979.
2ــ هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، (العقل في التاريخ) ترجمة وتقديم: د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ط2، 1981، ص: 39.
3- Ian watt, Rèalisme et forme Romanesque, in Littèrature et rèalitè, ed. Seuil. 1982. p:11.
4ــ هيجل، العقل في التاريخ، مرجع سابق. ص: 63.
5ــ نفسه، ص.ص: 66 ـ 69.
6ــ نفسه، نفس الصفحات.
7ــ عبد اللطيف محفوظ "عن حدود الواقعي والمتخيل" ضمن مجلة فكر ونقد، المغرب. العدد 33. 2000.
8ــ ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، (المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها)، دار القلم، بيروت الطبعة الأولى، 1978. ص ـ ص: (9ـ 35).
9- Roland barthes, Lecon, ed. Seuil, Paris. 1978.
10ــ لقد استعرت مفهوم الفعل التذاوتي من نظرية التلقي، ويعنى التفاعل القائم بالضرورة بين النص ومتلقيه، ويحدد بالضبط ظاهرة الإدراك الموسومة بكونها موسطة دائماً بمعارف الذات المسبقة عن الشيء وانفعالاتها بخصوصه، وقدراتها التحليلية وقصدياتها الخاضعة لإرغامات زمانية ومكانية ونفسية..
11- P.Ouellet “une physique du sens” in Critique 1985 p184.
12ــ غالي شكري: مذكرات ثقافة تحتضر، دار الطليعة، بيروت 1970، ص: 257.
13ــ نفس المرجع، ص ـ ص: (160 ـ 162).
14ــ اجاريشيف: جمال عبد الناصر، ترجمة سامي عمارة، دار التقدم، موسكو. 1983 ص/ ص (15/ 16)
15ــ جاك ناصيف: "الاستمتاع المطلق في هوام الغرب للشرق" حوار مع ألين غرو ريشار ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر ع11. 1981. ص ـ ص (97 ـ 107)..
(1) إن وصف الوضعية السياسية والاجتماعية لمصر خلال هذه المرحلة، يتطلب بحثاً علمياً متخصصاً، يتجاوزني، ولذلك فقد اعتمدت فقط على ما أورده بعض المتخصصين أمثال محمد حسنين هيكل وأنور عبد الملك وغالي شكري ولويس عوض.. إضافة إلى ما ورد لدى بعض النقاد الاجتماعيين..
(2) من بين هؤلاء: باكثير والسحار وعادل كامل ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويحيى حقي.. انظر(13).
(3) خاصة وأن السلطة غالباً ما تؤول، في البلدان الشرقية، ليس إلى ممتلك القضيب، ولكن إلى من يكون القضيب موضوع رغبتها، أي الزوجة أو الأم (وخير دليل على ذلك، رواية رادوبيس) انظر (15).
(4) لقد كان لإيديولوجية الروح المصرية، تأثير كبير على شحذ الهمم والدفع بها إلى النضال من أجل استعادة المجد التليد الذي تنفرد به مصر، وما يدعم ذلك هو اعتراف مؤسس حركة الضباط الأحرار، وقائد الثورة، أنه قد تأثر برواية (عودة الروح) وبإيمانه بضرورة وجود بطل مصري أصيل يحرر مصر ــ كما جاء في كتابه "فلسفة الثورة". والواقع أن ما قام به عبد الناصر منذ تأسيسه لتنظيمه، إلى قيام الثورة، لا يختلف من حيث الجوهر عن مضمون ناتج فكرة رواية (كفاح طيبة).
1ــ تقديم عن الرواية والتاريخ:
إذا كانت الكتابة التاريخية نشاطاً معرفياً أصيلاً تعرَّفه الإنسان ومارسه مع بداية اكتشافه الكتابة حيث حاول من خلاله تدوين الحياة البشرية، وما يحكمها من عوامل، في امتدادها الزمني على الأرض(2)، وكانت الرواية جنساً تعبيرياً تخييلياً لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر(3)، فإنهما، وإن كانتا تختلفان من حيث البعد الأنطولوجي، تتعالقان وتتقاطعان في مستويات إبيستيمولوجية عدة: ويتحقق هذه التعالق ليس فقط في طبيعة أساس بناء خطابهما الماثل في سرد أحداث وقعت لذوات متحالفة أو متصارعة في الزمان والمكان، أو في كون موضوعهما المشترك ــ إذا استثنينا رواية الخيال العلمي ــ هو الماضي، بل في المتعاليات المتحكمة في إعطاء الشكل للأنواع الصغرى للكتابتين التاريخية والروائية. حيث تبدو البنيات الذهنية المتحكمة في إظهار سيروراتها هي نفسها تقريباً. ولا يبدو التميز إلا من خلال خصوصيات الخطاب، حيث يقبل الخطاب التاريخي الخضوع للتقييم الحقائقي بينما يقبل الخطاب الروائي التقييم الأيديولوجي، وذلك بسبب خضوع الأول لثنائية البث الحقائقي (الصدق والكذب) قياساً إلى ما يفترض أنه واقعي، وعدم خضوع الثاني لهذه الثنائية.
من أجل إظهار هذه التعالقات سنكتفي بوصف التشابهات القائمة بين أنواع الكتابة التاريخية التي حددها هيكل في كتابه "العقل في التاريخ" وبين أنواع الكتابة الروائية السائدة، على أن ننظر في أهم العلاقات الاختلافية عندما نتطرق للرواية التاريخية وعلاقتها بالتاريخ والواقع.
لقد مفصل هيكل التاريخ في كتابه المذكور(4) إلى ثلاثة أنواع كبرى، هي التاريخ الأصلي ويقصد به التاريخ الذي يكتبه المؤرخ وهو يعيش "أصل" الأحداث ومنبعها..(5) ويماثل هذا النوع الرواية الواقعية والرواية الطبيعية اللتين تتسمان بمحاولة وصف الجدل المعتمل بين القوى الفاعلة داخل الواقع المدرك والتي تتصارع بهدف تغييره أو تثبيته. وإذا كان هيكل قد أشار إلى أن هؤلاء المؤرخين وهم يدونون ما حولهم، إنما ينقلون ما يتبدى لهم إلى عالم التمثل العقلي(6) فإن الروائيين الواقعيين أيضاً وهم يحاولون نقل الواقع إنما ينقلون المتبدى (أي الشكل الذي يستطيع المدرك إدراكه من الدليل الحاضر في الوعي، في حدود معرفته به وحدود وضوحه في وعيه)(7).
ثم ثانياً التاريخ النظري، ويقصد به التاريخ الذي يكتبه مؤرخ، لا ينتمي إلى الحقبة المؤرخ لها. حيث لا تكون المشاهدة أو الحضور آليتين لإدراك الموضوع التاريخي، بل تعوضهما الوثائق المختلفة والتي ليست دائماً أمينة أو واقعية. وقد قسم هيكل هذا النوع إلى أربعة أنماط فرعية تحدد الهدف والخلفية. ومن الواضح أيضاً أن التاريخ النظري يشاكل إلى أبعد الحدود الرواية التاريخية التي هي الأخرى عودة إلى التاريخ الأصلي وفق استراتيجية معينة. والخطابان معاً يمارسان التمثل المضاعف للوقائع المختفية أصلاً خلف اللغة.
أما النوع الثالث: التاريخ الفلسفي، الذي يعني بشكل أو بآخر دراسة التاريخ من خلال الفكر، فيماثل الروايات التي تحول الشخصية التاريخية أو الحدث التاريخي إلى مولد وحسب، لتشيد من خلاله عوالم معقولة تحاول رسم الجوهري والعميق الخاص بتلك الشخصية أو ذاك الحدث...
وبما أن موضوع دراستنا الحالية هو الرواية التاريخية وكيفية تمثلها للواقع، فسنركز، قبل التطرق لعلاقتها بالواقع المزامن لإنتاجها، على أهم العلاقات الاتفاقية أو الاختلافية بينها وبين التاريخ الذي يعتبر مرجعاً لها، ومعياراً لرؤية دلالاتها ومعناها. وسنعالجها انطلاقاً من العلاقة اللغوية ثم أسلوب الكتابة ثم خصوصية المرجعية:
1ــ 2ــ العلاقة اللغوية (من الرواية الشفهية إلى الرواية):
إن التفكير الجدي في الحقيقة الثانوية خلف انتشار الدليل /رواية/ وقهر لمنافسيه في الدلالة على الجنس السردي الغربي الحادث في الثقافة العربية، يدعونا إلى الاستنجاد بمفهوم النسق السيميائي الذي يحدد لنا بدقة آليات قبول وإدماج الأدلة الجديدة في الأنساق. ويساعدنا من ثمة على معرفة الأسس التي بني عليها ذلك الاختيار. وهي أسس أيقونية تنبني، في المقام الأول، على علاقات التشابه بين المكونات النوعية للرواية الشفهية والرواية الأدبية، وفي المقام الثاني، بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية:
ولكي ندرك ذلك بشكل ملموس لنتأمل، في البداية، دلالات الرواية الشفهية التي يستند إليها المؤرخ ثم نقارنها بخصوصيات الرواية الأدبية.
إن الرواية في معناها اللغوي تعني النقل عن مصدر غيري. ولا تشير أبداً إلى الإنتاج بل إلى إعادة الإنتاج، لأن الفعل أو القول المروي ينتمي إلى ذات غيرية بالنسبة للرواية نفسها، ولذلك فإن فعل الرواية مشروط دائماً بالحفظ الذي هو نشاط الذاكرة، وبهذا المعنى تسمح الرواية للمؤرخ، عن طريق الذات الناقلة لمضمون الرواية، بأن يضع مسافة بينه وبين الحدث الفعلي. إنها بذلك تخفف من مسؤولية المؤرخ وتضعها على عاتق الراوية في حالة الآحاد، وعلى عاتق الرواة في حالة التواتر. وبغض النظر عن المعايير التي اعتمدت في انتقاء الروايات والأخذ بها، والتي وضح ابن خلدون أنواعها(8)، فإن تواجد المؤرخ في نهاية سلسلة الرواة، يضعه في موضع الحياد. الشيء الذي يوهم المتلقي بالموضوعية. بيد أن الرغبة في التواري خلف الآخر لا تخفي التورط بسبب الانحياز إلى رواية دون أخرى إذا وجدت، أو لجوء للرواية تارة والتغاضي عنها تارة أخرى، وهكذا..
إن لجوء المؤرخ إلى الرواية الشفوية اختيارياً أو اضطرارياً، هو إقرار بنسبية الحقيقة، بفضل ارتهان صدقها بصدق الآخر الذي لا يمكن ضمان مقدار مطابقة روايته للواقع الفعلي. وارتهانها إلى أخلاقية اللغة (بالمعنى البارطي للكلمة)(9)، التي وحتى وإن صدقت، فإنها وهي تنقل المرئي إلى مكتوب، تشيد عالماً لغوياً ممكناً منضدا على عالم الرواية المروي، فاتحة بذلك فجوات لتمرير سجلات الذات الراوية ومواقع نظرها وميولاتها السياسية وقد أطرت بقدراتها الإدراكية والتحليلية..
وهكذا نخلص إلى القول إن الرواية بمعناها اللغوي والثقافي، هي توصيف لخطاب حقيقي مصدره غيري. لكن بما أنه خطاب، فهو نتاج فعل تذاوتي(10) يشكل تضافر متزامن بين الوعي بالعالم وبالشيء المدرك الذي يتجسد أولاً بشكل ملموس في أفكار قبل أن يعطى للإدراك الغيري في شكل لغوي ما. وهذه السلسلة من العمليات التي تتم في الذهن، هي التي تخلق سياجاً سميكاً يفصل بين الشيء المروي في حقيقته وواقعيته المحضة، وشكل ظهوره في كتابة المؤرخ الذي يكون، بفضل كل هذا، قد وضع مسافة بينه وبين الحدث المروي. مؤكداً أن الواقعية الحقيقية، لما يرويه، هي واقعية الخطاب نفسه.
وبما أن أصل كل رواية، شهادة مرئية أو مسموعة، فإن دخول الفعل التذاوتي يجعل المصدر الأصلي منقولاً بأشكال مختلفة باختلاف الروايات سواء كانت آحاداً أو بالتواتر. وبناء على كل ما سبق يمكن أن نقول إن الرواية الشفهية من المنظور الدلائلي، هي نقل عن آخر أو عن سلسلة من الآخرين لحدث وقع أو لأفكار سادت ولم يشهدها فعلياً المؤرخ. وليس له معيار موضوعي للتحقق منها، لأنها تغدو حالة أشياء، أي تتموضع بين الواقع الذي لا سبيل إلى الإمساك به مباشرة، وبين الإظهار اللغوي المحكوم بإرغامات عدة(11) إنها إذن ليست واقعاً خارجياً ما، مادام الواقع الخارجي موسط وغير قابل لأن يدرك في ماديته الخالصة، بل هي فقط، نتيجة إدراك الواقع انطلاقاً من سيرورة تصورية تساهم فيها الفعالية اللغوية والمرجعية. وبسبب كل ذلك تفقد المقولة الحقائقية معناها. وهكذا يتضح أن الخصوصيات النوعية للرواية الشفهية سواء على المستوى المرجعي أو التداولي أو الإظهار اللغوي بدت في مرحلة تسمية الجنس السردي الحادث في الثقافة العربية مشاكلة ومناظرة لنوعيات مكوناته. وبذلك استعير الدليل (رواية) من المجال التاريخي للدلالة اصطلاحاً على الجنس الأدبي الذي ألفنا الآن دعوته رواية.
1ــ 2ــ أسلوب الكتابة في التاريخ وفي الرواية التاريخية:
تفيد الدراسات الفلسفية حول التاريخ أنه كتب تحت تأثير التصورات التي هيمنت في مراحل التدوين، وأن كل إعادة لكتابته هي خاضعة بالضرورة للتصور المزامن للحظة الكتابة. وذلك ما يعني أن التاريخ النظري الذي يهمنا في هذه الدراسة، وهو يعود إلى حقب ماضية ومنتهية، يعود مؤطراً بتصور ما عن هذا الماضي. وبذلك تكون المسافة مضاعفة، حيث يجد المؤرخ نفسه أمام خطابات وليس أمام وقائع، الشيء الذي يعني أنه يتحول إلى مؤول للخطاب ثم مؤول لموضوع الخطاب. لذلك يسود أسلوب التحقيق والتمحيص، فيصبح، من ثمة، الحجاج مهيمناً على أسلوب الكتابة التاريخية للعمل على إقناع المختص قبل القارئ العادي بمصداقية المستندات ومصداقية التحليل. وكل ذلك بهدف تضييق الهوة بين الواقعي والمحتمل. كما أنه لا يهتم بالتفاصيل الصغرى ومقصديات الذوات إلا إذا كانت حجة داعمة لتوجهات التحليل. أما آليات الإيجاز والحذف والاختزال التي يلجأ إليها المؤرخ أحياناً، وهو يقرأ نصوص الماضي، فإنها لا تؤثر سلباً على الكتابة التاريخية، بل قد تبدو ضرورية من أجل التملص من الزوائد غير المفيدة.
أما الرواية التاريخية فعلى العكس من كل ذلك، لا تحفل كثيراً بإبعاد شبهة المزج بين الواقعي والتخييلي، ولا تحفل بالتزام الأمانة، لأن طبيعتها تفرض المراوحة بين الواقعي والمحتمل. كما أنها لا تهتم بالضرورة بالكلي والعام، بل تتغيا إعادة بناء المعرفة بالتاريخ من خلال الخاص، لأنها غالباً ما تعمد إلى اختيار شخصية أو أسرة من خلالها يجري تقديم تاريخ المرحلة المختارة. ويفرض هذا الاختيار الاهتمام بالمقصديات التي تدمج بالضرورة العوالم الداخلية للشخصيات ومن ثمة تفرض على الكاتب، من أجل الإقناع الجمالي، تشريحها. مثلما تفرض الاهتمام بالفضاءات والأزمنة وتأثيثها بما يتصور ملائماً للحقبة.. وإذن يمكن القول إن الرواية التاريخية والتاريخ النظري، وإن كانا يتشاكلان في شكل تشييد عالمهما الممكن المنضد على العالم المعطي في الموسوعة التاريخية، فإنهما يختلفان جذرياً في أسلوب البناء، ومن بين الاختلافات الجلية اهتمام التاريخ بتوالي الأحداث وتغييب وجهة نظر مخصوصة توجه الخطاب.. في مقابل اهتمام الرواية بالشخصيات، واعتمادها وجهة نظر موجهة للسرد التاريخي في الرواية. وبإيجاز شديد، إذا كان المؤرخ يعتمد المنهج التجريبي المستند على الاستقراء، فإن الرواية التاريخية تستند إلى الاستنباط والافتراض، ومن ثمة تدمج داخل عالمها عوالم صغرى ممكنة تقوم بوظيفة التوجيه الدلالي الذي يميزها عن النص التاريخي المشخص لنفس الحقبة..
1ــ 3ــ خصوصية مرجعي التاريخ والرواية التاريخية:
إن مادة التاريخ الأولية التي يمكن دعوتها مرجعاً، هي بالنسبة للتاريخ الأصلي، الوقائع المحسوسة المدركة مباشرة من قبل المؤرخ، أو المسجلة في الموسوعة المزامنة له عن طريق التحقيقات والشهادات، وغيرها. وهي بالنسبة للتاريخ النظري مجموع الوثائق التاريخية المختلفة للحقبة المؤرخ لها، والتي كانت في زمن كتابتها تاريخاً أصلياً. وبغض النظر عن الإظهار اللغوي الذي سبق أن وضحنا كيف يحول الواقعية إلى واقعية الخطاب، والاهتمام فقط بالمادة التاريخية، كما لو كانت تدرك بشكل مباشر وملموس. فإننا نستطيع أن نميز الفرق بين مادة مرجع التاريخ ومادة مرجع الرواية التاريخية:
إن المؤرخ مهما كانت الحقبة التي يحاول التأريخ لها، يفرض عليه الاستناد إلى الأحداث الواقعية، بيد أن هذا لا يعني مصادرة حقه في مواكبة الأحداث بالتعليق الذي يرضي توجهاته الفكرية والسياسية، أو إدماج تأويلاته.. لأن المحاكمة الحقيقية التي يتعرض لها المؤرخ تستند إلى معيار صدق أو كذب الوقائع التي يسردها قياساً إلى ما وقع بالفعل وفق الشواهد والوثائق الموجودة.. أما التعليق والتحليل فلا يعتبر تزييفاً للتاريخ بل قراءة سياسية ممكنة ما. أما الرواية التاريخية فتشاكل التاريخ الفلسفي وفق تحديد هيكل، لأن مادتها المرجعية ليست الواقع كما هو بل المادة التاريخية كما بنيت من قبل المؤرخين الأصليين. ولذلك فالروائي لا يبحث عن حقيقة جديدة للتاريخ بل ينطلق مما انتهى إليه المؤرخ، لكي يصوغ الدلالة التي يود تشكيلها. وبفضل الاختلاف في خصوصيات المرجعين، تستطيع الرواية التاريخية أن تضيف إلى الأحداث ما تشاء وأن تحذف ما تشاء أيضاً لأن السؤال الذي يطرح على الرواية التاريخية، لا يتعلق بمقدار الوفاء للتاريخ ولكن بالفكرة الإيديولوجية التي من أجل التعبير عنها كانت العودة إلى هذه الحقبة التاريخية. وذلك لأنها وإن كانت تاريخية لا يمكنا أبداً أن تكون مصدراً لكتابة التاريخ، على خلاف الرواية الواقعية التي تدخل ضمن مصادر الكتابة التاريخية البعدية.
ومن الواضح أن اختلاف طبيعة المادة المرجعية يسمح بوضع فوارق بين الخطابين، فخطاب التاريخ النظري إذا كان يتغيا ليس البحث عن الحقيقة بل تشكيل وعي جديد بمكونات الهوية من أجل تغير الحاضر والمستقبل، فإن مادته تدحض بسهولة وتكشف نواياه. أما الروائي المؤرخ فينفلت من صرامة المحاكمة، ويستطيع من ثمة تمرير مشروعه عن طريق الأدلة التي يصوغ بها المادة التاريخية. ومن هنا خطورة الرواية التاريخية، وقدرتها على التأثير في تغير الوعي بالذات وبالعالم. ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلت ديدرو على سبيل المثال يعتبرها جنساً هجيناً يقزز المتخصص في التاريخ، ويخدع غير المتخصص.
2ــ علاقة الرواية التاريخية بالسؤال المحايث للكتابة:
لابد، قبل تحليل روايات نجيب محفوظ التاريخية الشهيرة، من التذكير بالقضايا التي طرحت في مقدمة هذه الدراسة،وذلك من أجل توضيح حدود ومرامي وأبعاد هذا التحليل.
لقد تمت الإشارة في هذه المقدمة إلى ثلاث قضايا أساسية وهي:
أــ إن النمذجة التي نقترحها تستند إلى خلفية ابستيمولوجية تتمثل في النظرية العامة التي صاغها بورس لتحديد أنواع وأقسام الأدلة، ولما كان من الصعب بسط هذه النظرية، فقد تم الاكتفاء بتقديم الأنماط التي تنمذج أنواع الروايات التاريخية في ضوئها، وهي الرواية المنتجة تحت مفعول الطاقة الأيقونية والرواية المنتجة تحت مفعول الطاقة التأشيرية ثم أخيراً الرواية المنتجة وفق الطاقة الإنتاجية المؤشرية.
ب ــ أن التحليل سيقتصر، تحت إرغامات الزمن الرمزي لهذه الدراسة، على النمط الأول وسيمثل له بروايات نجيب محفوظ التاريخية الأولى (عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة). وقد انحزنا إلى التمثيل بها دون غيرها لأنها الأكثر مقروئية وشعبية لدى عموم قراء الرواية العربية.
ج ــ اكتفاء هذه الدراسة بتحليل البنيات الأولية لدلالة الروايات، رغم أن تحليل النص الروائي تحليلاً حقيقياً يقتضي الاهتمام بمستوياته الأساسية، وأهمها الإظهار اللغوي الذي يعتبر المسؤول الحقيقي عن أدبية النص الروائي وجماليته، لأنه من جهة يشكل المعطى المادي الوحيد الذي يتعامل معه القارئ، ومن جهة ثانية هو الذي يجسد في نفس الوقت البنية الأولية للدلالة (الحكاية المقلصة) والبرامج السردية (الحبكة). إن الاقتصار على تحليل البنيات الأولية للروايات الثلاث، يعود بالدرجة الأولى إلى ملاءمتها لموضوع المؤتمر (الرواية والتاريخ)، حيث المشترك الفعلي هو المادة الحدثية وليس بالضرورة شكل بنائها وإظهارها.. كما أن التأويل الذي ستفرضه طبيعة القراءة لا ينسجم إلا مع مستوى البنية الأولية للدلالة ومع الحقبة المزامنة لإنتاج وتلقي تلك الروايات.
2ــ 1 روايات محفوظ التاريخية الأولى وطاقة الإنتاج الأيقونية
لقد كتب محفوظ رواياته الأولى أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ولم تكن هذه المرحلة متميزة عن المراحل السابقة عليها، والتي تبدأ تأثيراتها على محفوظ بدءاً من ثورة 1919.
إن ما يميز هذه الفترة سياسياً، هو خضوع مصر للاحتلال البريطاني، وللنظام الملكي الذي كان ينظر إليه بوصفه متحالفاً مع القوى الإقطاعية المستغلة والمعادية للتحرر والديموقراطية. وقد دأبت هذه القوى المتحالفة (الاحتلال والقصر)، على القمع العملي والمعنوي للقوى الوطنية الهادفة إلى التحرر(1).
إن شكل الواقع المظهر من قبل الدراسات المختصة في هذه الحقب، يساعدنا على استنتاج الفكرة المتحكمة في إنتاج تلك الروايات. فمن خلال، استقرائها، يتبين أن السياق الخارجي الذي تمثله محفوظ قاده إلى تصور أن الخلل العام، الذي يعوق ازدهار وتطور مجتمعه، يكمن في عدم امتلاك المصريين لزمام أمرهم. ومن ثمة، كان سؤال مدار الروايات الجوهري هو (كيف نتحرر؟). وقد فرض ذلك السؤال إجابات مرتبطة بأساليب التحرر الممكنة. وبالفعل، فإن روايات تلك المرحلة، قدمت إجابات متقاربة ولكنها مختلفة، من حيث الوعي بأساليب التغيير الممكنة. تلك الأساليب التي فضل محفوظ أن تستعار من الماضي المصري من أجل التحفيز على محاكاتها في الحاضر. وتشكل هذه الاستعارة، تجسيداً لإيديولوجية محايثة ومزامنة لفعل الإدراك والإنتاج. وتمثلت في فكرة الروح المصرية، التي ـ قبل أن تتراجع بعد أن تبين أنها مجرد نزوع رومانسي(12) ــ كانت متبناة من قبل بعض المفكرين(2).
تستلهم الرواية الأولى (عبث الأقدار)، حكاية الفرعون خوفو، الذي تتجسد حكايته بشكل يجعلها تمثل الحقيقة القدرية، التي تتجاوز الإرادة والتخطيط البشريين.
لكنها وإن كانت مؤسسة على فكرة تلغي الإنسان وإرادته، وتسند الفعل للقوى الغيبية فإنها، مع ذلك تجعل الذوات المساعدة على تحقيق ذلك الفعل القدري متشبعة بالروح الدينية والإنسانية، حيث تبدو متفانية في الاستجابة لقيمها، ومستعدة للتضحية بالنفس في سبيلهما. وبذلك ترتبط هذه الفكرة ضمنياً ــ ولو بنسبة قليلة ــ بحتمية العدالة الإلهية.
بيد أن أهمية الرواية، تكمن في تجسيد حكايتها لانتقال السلطة من فرعون إلى أحد أبناء الشعب الجنوبيين، ومن سلالة دينية إلى أخرى أقرب إلى روح الشعب.
وتشكل كل تلك المؤشرات إجابة مزدوجة عن سؤال التغيير: مزدوجة، لأنها في نفس الوقت الذي تشير إلى حتمية التغيير، وتحرض على الوفاء له؛ تسند تنفيذه إلى القدر. إن الرواية إذن، هي إجابة غيبية ذات لبوس رومانسية، عن سؤل واقعي.
إلا أن اختيار نجيب محفوظ لعنوان (عبث الأقدار)، يؤشر، في الواقع، على سخرية مضاعفة، تشكل في العمق إيديولوجيته الخاصة، الرافضة لشكل ظهور الواقع، ولكل متعالياته..
لقد أصدر محفوظ هذه الرواية أثناء بداية الحرب العالمية الثانية، أي مباشرة بعد أن تقلد حزب الوفد الحكم للمرة الرابعة في تاريخه، وهي المرة الأطول زمنيا (1936 ـ 1937) في الحكم. والواقع أن تلك العودة، لم تكن في الحقيقة نتيجة فعل إرادي نابع من إرغامات الواقع السياسي المصري ومن كفاح الحزب والمتعاطفين معه، بل نتيجة إرادة المستعمر والقصر، اللذين تعودا اللجوء كلما تعاظمت القلاقل الداخلية، أو تعاظم التهديد الخارجي، إلى حزب الوفد من أجل تهدئة الوضع، ثم حالما يتحقق لهما ذلك، يقومان بإقالة حكومته، والتنكر للامتيازات التي يكون قد حققها للجماهير (مثل معاهدة 1936 المبرمة بين النحاس باشا والإنجليز، والتي تقضي بإنهاء الاحتلال العسكري البريطاني لمصر(14). فقد أثبت الواقع أن المحتل يكون وراء تنصيب حكومة وفدية لقمع الشعب وإسكاته..
لقد أدرك نجيب محفوظ، دون شك أن تنصيب الحكومات الوفدية أو ذات الأغلبية الوفدية (1924 و1927 و1930 ثم 1936 ـ 1937)، بمثابة هبة قدرية، أقرب ما تكون إلى العبث.. ولذلك فقد انتقى حكاية تجعل التغيير صوريا، لأنها تشرطه بعلاقة القرابة، التي تبقي أواصر الوصاية قائمة؛ إضافة إلى طبيعة القرابة ذاتها، حيث الزواج مهدد دائماً بالطلاق...
إن المدار النصي للرواية، بفضل التحليل المؤسس (الأيقونية)، أي القائم على التشاكلات النوعية بين عالم الرواية وعالم الواقع المزامن للكتابة، ليوضح أشكال تجسيد فكرة العبث، التي تبدو ماثلة في شكل تحول مسارات الحكاية، ذلك أن ابن الشعب الأصيل (الوفد)، سيصل إلى السلطة، بفضل ظروف نابعة ليس من الرغبة الداخلية، ولكن من مسارات خارجية ومتعالية عن إرادته ومشيئته (الحرب العالمية الثانية). وقد أشرت الحكاية على ذلك، بفضل علاقة المصاهرة، بين ابن الشعب والحاكم. وبما أن هذا الأخير أب للزوجة، فإنه سيفرض عليه وصايته عن طريق ابنته(3) وبذلك تؤشر الرواية، بفضل العلاقة الأيقونية، بالواقع المحفز لسؤالها، على أن الوفد قد فقد قوته الذاتية والمحايدة، واصبح أداة مدعمة لاستمرارية السلطة التي كان من المفروض أن يواجهها.. ومن هنا، يمكن فهم العنوان بوصفه، تأشيراً على موقف محفوظ، من صعود الوفد إلى الحكم آنذاك، حيث يبدو أنه اعتبره صعوداً عبثياً، من جهة لأنه نابع من دوافع خارجية، ومن جهة لأنه مشروط بالرقابة التي تفرض الخضوع.. ومن ثمة، لم يكن صعوده إلا وهماً مرحلياً لاستعادة المصري لروحه.
والواقع أن هذا الموقع الذي عبرت عنه الأيدلوجية الخفية المحايثة للفكرة، هو نفسه الذي سيعبر عنه الوعي الشعبي بعد ذلك بقليل، خلال تقلد الوفد الحكم أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي ــ كما توضح التقارير السياسية المؤرخة للمرحلة، والتي سوف يستلهمها محفوظ، في رواية (خان الخليلي) لاحقاً ــ حيث كانت غالبية الشعب، لا تنظر إلى حكومة الوفد بوصفها رمزاً للتغيير أو ترهينا للديموقراطية، بل كانت تراها جزءاً من النظام العام الذي تمقته،ويتجلى ذلك بوضوح في عدم مشاطرة أغلبية الشعب لموقف الوفد من طرفي الصراع. ففي الوقت الذي كان الوفد يدعو إلى الحياد الكامل، كان الشعب يتمنى من الأعماق انتصار الألمان، على اعتبار أن ذلك سيكون مساعداً على التحرر من الإنجليز..
وهكذا، يمكننا القول، إن رواية (عبث الأقدار)، وهي تعبر عن جبرية التغيير، وتشجع على التفاني في مساعدة الفاعل الذي ينتدبه القدر للتغيير الإيجابي، ثم وهي تعمل على ترسيخ الروح المصرية في الذوات، فإنها تنتقد المتبدي وترفض شكله العبثي، داعية إلى شكل آخر للفعل، شكل يكون "واقعياً" وصادراً عن إرادة ذاتية. وهذا بالضبط ما سيعمل محفوظ على تجسيده من خلال إجابتيه المقدمتين في الروايتين اللاحقتين (رادوبيس وكفاح طيبة):
صدرت رواية (رادوبيس) سنة 1943، بعد أربع سنوات من صدور (عبث الأقدار). ومعنى ذلك أن نجيب محفوظ قد خلد إلى الصمت، خلال الحرب، ولا بد أن هذه المدة القصيرة قد ساهمت في تعديل وعيه بالواقع المتبدي. ذلك التعديل الذي سنلمسه في شكل تغيير الإجابة عن نفس السؤال المؤسس للروايات الثلاث (كيف نتحرر؟)، عن طريق التخلي عن فكرة القدرية، التي تجعل الفعل خاضعاً لقوى خارجية غيبية أو فعليه، والبحث عن مدار نصي، يجسد نقداً اجتماعياً عاماً للأفعال والسلوكيات، ويحفز على الفعل الإرادي: تقوم الحكاية المشكلة لمدار الرواية النصي، على وصف العلاقات القائمة بين ثلاثة أقطاب هي:
ــ رادوبيس، التي صورت بوصفها فاتنة دخيلة، ومستبدة، تسيطر على باقي الأقطاب، وتحظى بالاستفادة من كل الخيرات والامتيازات والإمكانات الإبداعية.. الشيء الذي جعلها تؤشر أيقونيا، على المحتل الإنجليزي حين جعل الملك وحاشيته وسيطاً لاستغلال إمكانات الوطن..
ــ فرعون (مرنرع الثاني)، الذي صور مستبداً ومهملاً لواجباته تجاه الملكة والرعية، نتيجة خضوعه لرادوبيس ورغباتها؛ ومن ثمة، بدا متحدياً لمشاعر رعيته القومية والدينية...
ــ أما القطب الثالث، فتمثله الملكة وباقي الرعية..
وقد انتهى هذا الصراع ب "انتفاضة" شعبية، قادتها النخبة، بعد أن فشلت الملكة سياسياً في إقناع الملك بالتراجع عن أعماله.. وقد نتج عنها أن وجه أحد أفراد الشعب سهماً قاتلاً لفرعون..
والواقع أن الفكرة المولدة لهذه الرواية، قد تجسدت في المدار النصي، استناداً على مبدأ الأيقونية البسيطة، حيث عمل محفوظ على مماثلة الواقع الراهن، بالواقع الذي يتصور أن الموسوعة المزامنة لفترة حكم مر نرع الثاني قد أفرزته. ولقد كان أهم مؤشر على ذلك، هو اشتراك الملك الراهن (فاروق) مع فرعون (مر نرع) في لقب (الملك العابث)، الذي نعتا به معاً من قبل رعاياهما.. الشيء الذي أشر إلى أنها تدعو ــ بشكل صريح ــ الفئات الحية في البلاد، من المثقفين والسياسيين، إلى تعبئة الجماهير وتحريضهم ضد المحتل عن طريق تصفية رأس النظام.. مثلما تدعو الحركات المتطرفة والسرية، إلى تعديل استراتيجيتها في المقاومة..
ولعل هذا الوعي بالواقع ناتج، دون شك، عن الإحساس الشعبي بفشل الأحزاب الوطنية، التي رغم تبنيها لمختلف أشكال النضال الذي خاضه الشعب، لم تفرز نتائج سياسية مقنعة. ومن ثمة، كان لابد من اقتراح إجابة أخرى لنفس السؤال (كيف نتحرر؟).
غير أن هذه الرواية، وإن كانت تحت إرغام الواقع المؤطر لإنتاجها، قد حاولت توجيه شكل نضال الحركات السرية؛ فإنها، مع ذلك، لم تنظر إلى ذلك الأسلوب بوصفه وسيلة للتحرر، أو للتغيير حتى.. وذلك واضح من خلال الأدلة الأيقونية المستنتجة من صمت الرواية عن مصير النظام والكهنة والرعية، وأيضاً من خلال تصوير الرواية للاحتفاء بجثمان فرعون، حيث يرتبط الموضوع الدينامي لذلك الاحتفاء، بعدم كفاية التصفية الجسدية لرمز النظام، وكذا بعدم كفاية العمل السري..
والواقع أن صدور هذه الرواية، قد زامن تعاظم السخط الاجتماعي على النظام وعلى التجربة النيابية المزيفة ــ والتي ساهم الوفد نفسه فيها ــ حيث تعاظم عمل المجموعات العاملة تحت الأرض (بتعبير هيكل)، وبصفة خاصة جماعة "الإخوان" التي خلقت جناحاً مسلحاً عرف باسم "النظام الخاص" تحددت مهمته في تنفيذ عدة عمليات استهدف العديد منها أماكن عامة للترفيه.. وقد بدا واضحاً أن المنظمات السرية لا تمتلك، القوة اللازمة لفرض التغيير، سواء على المستوى السياسي أو العملي..
ولا شك أن هذا الوعي، الذي هيمن بعد الحرب، هو الذي جعل نجيب محفوظ يدرك أن إزالة الخلل الكامن وراء ديمومة الاحتلال، ليس كامناً في اغتيال فرد اعتباري، أو إخافة الناس من ارتياد مواطن الترفيه.. بل بعمل منظم ــ مؤسس على استراتيجية مدروسة ــ يستهدف كل أركان النظام، وذلك بالفعل ما ستقوم الرواية الأخيرة بالتعبير عنه انطلاقاً من توظيف واضح لإيديولوجية الروح المصرية (كفاح طيبة):
ترتبط فكرة رواية (كفاح طيبة)، بدعوة صريحة للبحث عن الهوية المفتقدة، وذلك عن طريق الحث على اجتثاث الموانع القائمة دون انطلاقها الحر. وتتمثل تلك الموانع في الاحتلال والنظام معاً، ذلك أن الدولة الحاكمة، وفق الإيديولوجية الموائمة لفكرة (الروح المصرية)، هي من سلالة الشراكسة الوافدين من الشمال؛ والذين يجب التخلص منهم، من أجل امتلاك الذات، باعتبار ذلك هو الطريق المضمون لامتلاك المصير.. وواضح أن هذا الوعي الذي خالف مطامح الأحزاب الوطنية المناضلة منذ عقود ـ والتي لم تكن تطمح إلى أكثر من تحقيق الاستقلال، في إطار ملكية دستورية ديموقراطية ــ قد تضمن الوعي بلا جدوى النضال الديموقراطي، والتجارب النيابية.. ولا جدوى التصالح مع نظام غير أصيل وموال للمحتلين..
وهكذا، من أجل تمرير ناتج هذه الفكرة انتقى محفوظ مداراً نصياً منسجماً، مع الإيديولوجية المحايثة لذلك الدليل، وقد تمثل في حكاية فرعونية تتصل بتحرير المصريين من حكم الهكسوس المحتلين القادمين من الشمال أيضاً..
وقد انبنت هذه الرواية، بدورها، على القوة الإنتاجية الأيقونية البسيطة، حيث التناظر الكبير بين السياق السياسي والاجتماعي المحاقب لزمن الكتابة وبين مدار النص التاريخي، فالتشابه واضح بين وضع مصر والمصريين والعائلة الحاكمة، في الموسوعتين معاً.. فمصر ليست بيد المصريين، والمصريون مستعبدون والحاكمون الحقيقيون وافدون شماليون، ومن هنا ندرك حقيقة الإجابة التي قدمتها الرواية لسؤال المرحلة، والتي ترتبط بضرورة محاربة النظام نفسه، انطلاقاً من العمل المنظم والموجه سياسياً وعسكرياً..
وتشكل هذه الإجابة تطوراً كبيراً في إدراك الواقع المتبدي، ولابد أن لذلك علاقة بفشل البرامج السياسية للأحزاب الوطنية، وبعدم جدوى عمليات المنظمات السرية، وأيضاً لابد أن لها علاقة بولوج أبناء الطبقة الوسطى، إلى مدرسة الضباط أواخر الثلاثينات..
إن السؤال الأساسي في هذه الروايات الثلاث، هو: كيف نتحرر؟ وقد جاءت الإجابة متناظرة، من حيث البعد الإيديولوجي العام؛ وتتمثل هذه الأيديولوجية في محاولة تفعيل "الروح المصرية" وتحويلها إلى قوة مادية، خاصة وأنها تستطيع ــ بفضل تعاليها على الإيديولوجيات الحزبية المتناحرة ــ تشكيل بنية فكرية متشاركة ومؤطرة، لا تتقاطع داخلها إلا الأفكار التحررية. والواقع أنها، رغم كونها إيديولوجية متعالية موسومة برومانسية تقييم استبدالاً فريداً بين الإنسان والمكان والزمان..، فإنها فعالة، فيما يخص الحض الوجداني على السعي للتحرر، وعلى البحث عن الهوية(4)؛ التي وإن كانت تصور ــ من خلال تلك الإيديولوجية ــ رهينة بالتحرر، فإنها تبدو، مع ذلك ــ بفضل تصويرها البارع ــ أكثر سمواً من هويات المحتلين جميعاً..
لكن تناظر البعد الإيديولوجي العام، لم يمنع الروايات من أن تكون متمايزة، نتيجة تأثر لحظات الوعي المنتج، بالمتبدي المتحول. وذلك ما جعلها، رغم كونها تبدو متراطبة في تعالقها مع المتبدي الاجتماعي والذاتي للمنتج، كاشفة عن أيديولوجيات تحيينية ــ للتغيير ــ غير متناظرة: فقد سبقت الإشارة إلى أن الرواية الأولى، تسند فعل التغيير ــ الماثل في تنصيب أحد أبناء الشعب ملكاً ــ إلى القدر والآلهة مع تمجيد وتثبيت الإخلاص للآلهة، وذلك ما يشي بتأثر الفكرة، ب "سلفية فكرية"؛ بينما تسند الرواية الثانية، فعل التغيير إلى القوى الحية للمجموعة الاجتماعية، التي تحفز الجماهير على اغتيال الحاكم. وقد عبرت بذلك الرواية عن محاولة لتصحيح إيديولوجية كانت حاضرة آنذاك، ترى ضرورة مقاومة المحتلين والمتسلطين.. أما الرواية الأخيرة فتتشرب الروايتين السابقتين وتتجاوزهما في نفس الوقت. فبينما تبقى على احترام الابستيمي المهيمن، وعلى الولاء للأرض والملكة ــ الأم، تتجاوزهما، بفضل أسلوب التحرير المقترح: وهو أسلوب استراتيجي مبني على التخطيط المنهجي أيديولوجيا وعسكرياً..
وبصفة عامة، فهي روايات استعارت مداراتها النصية من التاريخ الفرعوني، بهدف رد الاعتبار للذات التي طمستها قرون طويلة من المسخ الممارس عليها، من قبل الحكام المتعاقبين على مصر منذ العصر الفرعوني. أما الاختلاف، الذي لاحظناه بخصوص الإيديولوجيات التحيينية، فيعود إلى تطور وعي نجيب محفوظ بالمتبدي: من الاعتقاد في ضرورة التغيير القدري، عن طريق وصول حزب الوفد إلى الحكم. في الرواية الأولى؛ إلى ضرورة توجيه النخبة المثقفة للجماهير من أجل الثورة على الحاكم.. في الرواية الثانية؛ ثم إلى الدعوة للعمل السري المنظم والهادف إلى التغيير الجذري في الرواية الثالثة.
وهكذا نخلص إلى أنها روايات مؤسسة على دليل ــ تفكري، أدرك أن الخلل ماثل في وجود الاحتلال والنظام المهادن له، ومن ثمة أدرك أن تصفية الخلل، المرتبط باستعادة الذات أو الروح بتعبير مثقفي تلك المرحلة، يستوجب التخلص المزدوج من المحتل والنظام.
وقد عمل نجيب محفوظ، من أجل الإقناع بذلك، على تصوير عوامل الخلل (المحتل والنظام) تدريجياً بوصفهما قوة عاتية تتحدى القدر والآلهة (الله) من أجل الحفاظ على سطوتها واستعبادها للجماهير.. (عبث الأقدار)؛ ثم بوصفها مستبدة بكل الخيرات.. (رادوبيس)؛ ثم محتقرة للمواطن الأصلي ومستعبدة إياه.. (كفاح طيبة).
كما يمكن أن نخلص ــ من خلال هذا التحليل الجزئي لبعض روايات نجيب محفوظ، التي بدت لنا منتجة انطلاقاً من القوة الإنتاجية الأيقونية ــ إلى أن هذا النوع من الرواية التاريخية، لا يختلف من حيث البناء عن الرواية بإطلاق، إلا أنه يمتاز بوضوح موضوعه الإيديولوجي، وبقدرته على التأثير السريع على المتلقي، واقترابه أكثر من الرواية الأطروحة التي تتغيا بشكل مباشر تعليم المتلقي شيئاً ما بهدف توجيهه وتأطير وعيه. لكن ليس من المؤكد أن ترقى كل نماذجه إلى المستوى الفني والجمالي الذي امتازت به روايات كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، والتي استطاعت أن تتجاوز هدفها المحدد في الزمن، لتصبح علامات فنية قابلة لأن تقرأ في سياقات وأزمنة مختلفة، وأن تقدم مع ذلك دلالات غنية، تتجاوز شرط وجودها الأول.
الهوامش:
1- C.S Pierce, Textes Fondamentaux De Sèmiotique, traduction et notes B.Fouchier-Axelsen etC.Foz, M.K, Paris, 1987.
- G.Deledalle. thèorie et pratique du signe. Ed. Payot Paris 1979.
2ــ هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، (العقل في التاريخ) ترجمة وتقديم: د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ط2، 1981، ص: 39.
3- Ian watt, Rèalisme et forme Romanesque, in Littèrature et rèalitè, ed. Seuil. 1982. p:11.
4ــ هيجل، العقل في التاريخ، مرجع سابق. ص: 63.
5ــ نفسه، ص.ص: 66 ـ 69.
6ــ نفسه، نفس الصفحات.
7ــ عبد اللطيف محفوظ "عن حدود الواقعي والمتخيل" ضمن مجلة فكر ونقد، المغرب. العدد 33. 2000.
8ــ ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، (المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها)، دار القلم، بيروت الطبعة الأولى، 1978. ص ـ ص: (9ـ 35).
9- Roland barthes, Lecon, ed. Seuil, Paris. 1978.
10ــ لقد استعرت مفهوم الفعل التذاوتي من نظرية التلقي، ويعنى التفاعل القائم بالضرورة بين النص ومتلقيه، ويحدد بالضبط ظاهرة الإدراك الموسومة بكونها موسطة دائماً بمعارف الذات المسبقة عن الشيء وانفعالاتها بخصوصه، وقدراتها التحليلية وقصدياتها الخاضعة لإرغامات زمانية ومكانية ونفسية..
11- P.Ouellet “une physique du sens” in Critique 1985 p184.
12ــ غالي شكري: مذكرات ثقافة تحتضر، دار الطليعة، بيروت 1970، ص: 257.
13ــ نفس المرجع، ص ـ ص: (160 ـ 162).
14ــ اجاريشيف: جمال عبد الناصر، ترجمة سامي عمارة، دار التقدم، موسكو. 1983 ص/ ص (15/ 16)
15ــ جاك ناصيف: "الاستمتاع المطلق في هوام الغرب للشرق" حوار مع ألين غرو ريشار ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر ع11. 1981. ص ـ ص (97 ـ 107)..
(1) إن وصف الوضعية السياسية والاجتماعية لمصر خلال هذه المرحلة، يتطلب بحثاً علمياً متخصصاً، يتجاوزني، ولذلك فقد اعتمدت فقط على ما أورده بعض المتخصصين أمثال محمد حسنين هيكل وأنور عبد الملك وغالي شكري ولويس عوض.. إضافة إلى ما ورد لدى بعض النقاد الاجتماعيين..
(2) من بين هؤلاء: باكثير والسحار وعادل كامل ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويحيى حقي.. انظر(13).
(3) خاصة وأن السلطة غالباً ما تؤول، في البلدان الشرقية، ليس إلى ممتلك القضيب، ولكن إلى من يكون القضيب موضوع رغبتها، أي الزوجة أو الأم (وخير دليل على ذلك، رواية رادوبيس) انظر (15).
(4) لقد كان لإيديولوجية الروح المصرية، تأثير كبير على شحذ الهمم والدفع بها إلى النضال من أجل استعادة المجد التليد الذي تنفرد به مصر، وما يدعم ذلك هو اعتراف مؤسس حركة الضباط الأحرار، وقائد الثورة، أنه قد تأثر برواية (عودة الروح) وبإيمانه بضرورة وجود بطل مصري أصيل يحرر مصر ــ كما جاء في كتابه "فلسفة الثورة". والواقع أن ما قام به عبد الناصر منذ تأسيسه لتنظيمه، إلى قيام الثورة، لا يختلف من حيث الجوهر عن مضمون ناتج فكرة رواية (كفاح طيبة).