صمت إلى الأبد الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط، الطائر الريفي الشريد، بعدما سئم التسكع تحت نور المصابيح ومل التنقل بين الأرصفة وحقائبه مليئة بالجراح والهزائم، فمضى وهو يحمل تاريخه كالحطاب، وشفتاه في قاع الزجاجة.
وبرحيله فقد الشعر العربي أحد أهم شعرائه الطليعيين الذين ملأوا المنابر الثقافية ـ ولمدة طويلة ـ بحضورهم القوي عبر مواقف جريئة حارقة، وقائمة على الرفض والنقد الصريح، لأنه كان مهووسا بجوهر الوجود ومعناه. ومن ثم راح يستعيد البحث الرامبوي عن ذلك الاحتجاج الاجتماعي ـ الوجودي ـ، ويصرخ بأعلى صوته معلنا عبث العالم، داعيا إلى تغييره.
لقد اختمرت تجربة محمد الماغوط الشعرية في ظل ثنائية الصراع بين العرب والصهيونية على الصعيد الخارجي، وبين قوى التخلف والتقدم داخليا، وتشكل هذه الثنائية خلفية أساسية لرؤية الشاعر للعالم. إذ انخرط في حركة المجتمع يندد بالهزيمة وبالواقع الاجتماعي الذي أنجبها، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عنها.
وتتسع رؤية محمد الماغوط المنددة بالهزيمة في كل ما كتب من شعر، وهي أكثر احتفالات بالمحتوى السياسي وافتضاح السلطة العربية عقب هزيمة حزيران 1967 المريعة.
وتكمن أهمية محمد الماغوط في كونه استطاع أن يعطي للغته الشعرية حرية جنونية، إذ اتخذ تعبيره الشعري نبرة عنيفة في محتواه الدلالي، وفي شكله اللغوي والأسلوبي في آن معا، وهذا ما تجسد في نكهة العري التي مارسها الماغوط في معجمه الشعري عبر توظيف لغة الانتهاك، وتعمد البذاءة اللغوية المتحررة من أسار اللغة النمطية المقدسة "اللغة التراثية الفصيحة" ليحط في عالم الناس ويلتحم بمشاكلهم وتناقضاتهم جريا على مقولة" اندريه برتون: André Breton" حين يتعلق الأمر بالتمرد، ينبغي ألا يحتاج أحد منا إلى أسلاف" بيانات السريالية ص 80.
والمتتبع لأعمال محمد الماغوط الشعرية، يلاحظ أن البذاءة اللغوية اتخذت عنده حجما أوسع من شعراء جيله، لأنها مرتبطة عنده بالتمرد على المواضعات الاجتماعية المكبلة للحرية. ففي ديوانه: "حزن في ضوء القمر" قصيدة بنفس العنوان يقول فيها:
" وأنا أتسكع تحت نور المصابيح.
أنتقل كالعواهر من شارع لشارع...
أشتهي جريمة واسعة
وسفينة بيضاء، تقلني بين نهديها المالحين، إلى بلاد بعيدة.
حيث في كل خطوة حانة وشجرة خضراء وفتاة خلاسية.
تسهر وحيدة مع نهدها العطشان"(1)
ويقول في قصيدة المسافر":
بع أقراط أختي الصغيرة.
وأرسل لي نقودا يا أبي
لأشتري محبرة وفتاة الهث في حضنها كالطفل
لأحدثك عن الهجير والتثاؤب وأفخاذ النساء.
عن المياه الراكدة كالبول وراء الجدران
والنهود التي يؤكل شهدها في الظلام"(2).
{sidebar id=1} إن الشاعر ينزع إلى توكيد حضوره، والتعبير عن ممارسته عبر موقف قائم على الفضح وانتهاك "الحياء العام"، ولذلك فهو يبحث عن لغة تسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو خجل، لأنه يؤمن بحرية التعبير عن الأشياء كما هي، ضاربا عرض الحائط وقار اللغة وطهارتها. ومن ثم تأخذ الألفاظ عند محمد الماغوط نبرة عنيفة لأنها تعبر عن عنف الواقع المحيط به:
"لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية
تضطجع في دفتري كفخذين عاريين"(3).
ويبلغ هذا العنف عنده حد الاستهتار بالمعتقدات الدينية كما هو واضح في هذا المقطع الشعري الذي يقول فيه:
" أيها الإله المسافر كنهد قديم
يقولون إنك في كل مكان
... كن معنا في هذه العيون المهشمة
والأصابع الجر باء
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر
لنبكي"(4)
أو كما يقول في قصيدة "الليل والنهار":
و"كنت أحبك يا ليلى
أكثر من الله والشوارع الطويلة
وأتمنى أن أغمس شفتيك بالنبيذ
وألتهمك كتفاحة حمراء على المنضدة"(5)
يتضح من خلال هذه النماذج أن محمد الماغوط لا يتردد في استخدام لغة تنتهك مفهوم" الحياء والأخلاق العامة" وإن اصطدمت بما هو مقدس، لأن وظيفة اللغة ـ كما يؤمن بها ـ يجب أن تشكل خرقا للطهرية التقليدية في التعبير الشعري.
ومن ثم راح الشاعر يستعمل كلماته نابية أو فاحشة أو صفيقة حتى تجرأ على استخدام مفردات ك: بال وضاجع فص وفرج ومني والبصاق... إلخ.
وعلى العموم، فإن الشاعر الستيني في سورية أعطى لنفسه حرية مطلقة عبر من خلالها عما يريد، فالدرب "مقفر الفخذين"(6) ونحن "نزني بالريح إذا جعنا"(7) و"الأرض فخد امرأة نحبها"(8) و"نضاجع البكاء"(9) و"ضاجعت بقايا الكلمات"(10).
وإذا كانت هذه الكلمات "الصفيقة" شائعة عند هؤلاء الشعراء، فإنها في شعر محمد الماغوط تأخذ حجما أكبر ومساحة اشسع، لأنه يؤمن إيمانا راسخا بأن اللغة يجب أن تكون محررة من التقاليد وقيم الماضي الثقافية والتعبيرية والجمالية وتتجاوزها إلى لغة تتميز بـ "نكهة العري" ولذلك راح يعطي لنفسه كامل الحرية في توظيف نكهة العري هذه في تعبيره الشعري مثل: "الجراد المتناسل، تـأكل وتضاجح من أذنيها ـ غفاة على البلاط المكسو بالبصاق والمحارم ـ نتشاجر في المراحيض ـ أعطني الحلمة والمدية ـ نتثاءب ونتقيأ وننظر كالدجاج إلى الأفق..." (11).
إن الشاعر حريص في هذه الاستعمالات اللغوية على استحداث علاقات جديدة بين الألفاظ تتمرد على نمطية التعبير المتداول من أجل خلق لغة فظة جديدة عارية كاشفة. يقول في ديوانـه "غرفة بملايين الجدران":
"سأجعل كلماتي مزدحمة كأسنان مصابة بالكزاز
وعناويني طويلة ومتشابكة كقرون الوعل
ولكن كما هو الثدي الفوار
بحاجة إلى الأصابع الوثنية
والزنود المشمرة مع شعرها حتى الإبط.
كذلك أنا
بحاجة إلى شيء مجهول
له نعومة النهد وشراسة الصقر(12).
ويمكن أن نقول بأن محمد الماغوط هو الذي فتح باب توظيف مثل هذه اللغة لمن تلاه من شعراء الستينيات الذين راحوا يتفننون في مثل هذه التعابير.
وتنزع لغة الماغوط الشعرية إلى تسمية الأشياء بمسمياتها، مانحا إياها قدرتها على اختراق الطهرية التقليدية، لأن وظيفتها في نظره هي التعبير عن الإحساس الفاجع لتردي أحوال المجتمع التاريخية والسياسية، والمتمثلة في تبخر الحلم القومي في الوحدة العربية، وفشل المشروع الثوري الذي أعلن عنه في ثورة الثامن من آذار 1963 في سوريا بالإضافة إلى سلسلة الأحداث التي وشمت الذاكرة العربية في العصر الحديث.
وقد خصص محمد الماغوط لمدينته "دمشق" حيزا هاما في ديوانه: "ضوء في حزن القمر" مخاطبا إياها بنكهة العري، التي تطفح بالمرارة والألم على تبدل أحوالها بين الأمس واليوم. لقد أصبحت بؤرة للقبح والتشويه والفساد والاستكانة والضيم والإحباط. وهنا بالذات يقع الارتداد من: المدينة: دمشق "الموضوع" إلى الذات "الشاعر" يحث يتفجر اليأس والحزن على أحوال المدينة، وتتفجر في مجريات القصائد مشاعر خيبة الشاعر التي تنساب كالسيل ضاربة عرض الحائط وقار اللغة وحشمتها، وهي نتيجة لتجربة الحياة في المدينة، ولحقيقة وجوده الإنساني بها. يقول في قصيدة : "حزن في ضوء القمر":
"أيتها العشيقة المتغضنة
ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر
أنت لي
هذا الحنين لك يا حقوده!"(13)
وبعد إعلان عشقه لها يصف وضعها، فهي مسبية ومستباحة وحزينة:
..." دمشق يا عربة السبايا الوردية
وأنا راقد في غرفتي
اكتب واحلم وأرنو إلى المارة
من قلب السماء العالية
اسمع وجيب لحمك العاري
...تبدو حزينة كالوداع صفراء كالسل
ورياح البراري الموحشة
تنقل نواحنا
إلى الأزقة وباعة الخبز والجواسيس"(14)
إن ارتباط محمد الماغوط بمدينته "دمشق" هو بمثابة قدر يلاحقه ويحاصره في مجمل ما كتب من شعر، كما أنه يبعث في قصائده روائح ارتباط قدري لا مفر منه، وهذا ما يفسر شدة ارتباطه بها:
"لا أستطيع الكتابة ودمشق الشهية
تضطجع في دفتري كفخذين عاريين
يا صحراء الأغنية التي تجمع لهيب المدن
وفواح البواخر
لقد أقبل الليل طويلا كسفينة من الحبر
وأنا أرتطم في قاع المدينة
كأنني من وطن آخر"(15)
ثم نلاحظ كيف يصف حالها، وكيف يقارن وضعها بين الأمس واليوم:
"استيقظي أيتها المدينة المنخفضة
فتيانك مرضى،
نساؤك يجهضن على الأرصفة
النهد نافر كالسكين
أعطني فمك، أيتها المتبرجة التي تلبس خوذه
بردى الذي ينساب كسهل من الزنبق البلوري
لم يعد يضحك كما كان
لم أعد أسمع بائع الصحف الشاب
ينادي عند مواقف الباصات"(16).
إن الماغوط لا يقنع من مدينته دمشق ببقائه متفرجا خارجها، أو مبهورا بوجهها المادي، بل إنه يتحدث عنها من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، فهي تمثل في نظره الوجه السياسي للأمة العربية جمعاء. ولذلك فهو يخاطبها بنبرة عنيفة مباشرة لأنه يريد التعبير عن وجه الحياة المقزم الذميم فيها وهنا ترتفع نبرة الهجاء المطردة للمدينة، والسخط العارم عليها وهي نبرة لها أكثر من مصدر.
لقد بدا إحساس الماغوط بالضياع عندما رمته المدينة "دمشق" في طريق التيه الذي ألب عليه الحزن الداخلي والضغط المادي الخارجي، ومن هنا ارتبطت دمشق لديه بالقلق الدائم، وبالأمل الضائع والقهر الروحي والمادي، وبمراحل العمر الخاوية التي تنتقل ضائعة من جدب إلى جدب.
هكذا اصطدم الماغوط إذن بواقع المدينة المر، وهو ما دفعه إلى إحساس عميق باليأس والضياع والتعب، لأن المدينة أصبحت معادلا للقهر والخوف والعذاب الذي لا ينتهي. ومن ثم كان هم الماغوط هو إبراز دمشق كما هي عارية، وهي إذ تتعرى تظهر على حقيقتها بؤرة لكل ألوان الخسف والذل والبؤس والقهر.
وهذا ما يغذي لديه الجانب الساخط اتجاه واقعه الذي لا يرى فيه بارقة أمل، ومن تم يطغى توجسه من المستقبل، فيستشعر قرب نهايته حينما يقول:
"يتخيل لي أنني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند المنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوى على الحجارة كديدان التفاح
دون أن ينظر إلي أحد
إنني أرى نهايتي
ستهب ريح قوية آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات"(17)
نعم لقد ودع الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط أشياءه الحزينة ورحل تاركا دمشق وبيروت وعواصم العالم العربي جميعها غارقة في مجاري السل والدخان، وأناسها يتهاوون على الأرصفة.
نعم، لقد قذف الماغوط قلمه إلى الريح، ودفنه "كالطير بين الثلوج البيضاء" ومضى على فرس من الحبر ولن يعود.
الهوامش:
(1) محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر"، من قصيدة بنفس العنوان، ص 15.
(2) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "المسافر"، ص 24-25.
(3) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "جفاف النهر"، ص 35.
(4) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الرجل الميت"، ص 44
(5) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الليل والأنهار"، ص 48.
(6) فايز خضور: "عندما يهاجر السنونو" منشورات اتحاد الكتاب العـرب، دمشـق 1972، ص 19.
(7) فايز خضور: "رصهيل الرياح الخرساء"، ص 19
(8) محمد عمران: "مرفأ الذاكرة الجديدة" ص 127.
(9) محمد عمران: نفسه ص 74.
(10) محمد عمران: أغان على جدار جليدي" ص 134.
(11) محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر" الصفحات: 58-50-61-62.
(12) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "أوراق الخريف" ص 75-76.
(13) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: بنفس العنوان، ص 12.
(14) محمد الماغوط: نفسه، ص 11-12.
(15) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "جفاف النهر"، ص 35.
(16) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الفتل"، ص 71.
(17) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "وجه بين حذاءين"، ص 126.
د. امحمد برغوت: باحث في الأدب الحديث "المغرب"
حيث في كل خطوة حانة وشجرة خضراء وفتاة خلاسية.
تسهر وحيدة مع نهدها العطشان"(1)
ويقول في قصيدة المسافر":
بع أقراط أختي الصغيرة.
وأرسل لي نقودا يا أبي
لأشتري محبرة وفتاة الهث في حضنها كالطفل
لأحدثك عن الهجير والتثاؤب وأفخاذ النساء.
عن المياه الراكدة كالبول وراء الجدران
والنهود التي يؤكل شهدها في الظلام"(2).
{sidebar id=1} إن الشاعر ينزع إلى توكيد حضوره، والتعبير عن ممارسته عبر موقف قائم على الفضح وانتهاك "الحياء العام"، ولذلك فهو يبحث عن لغة تسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو خجل، لأنه يؤمن بحرية التعبير عن الأشياء كما هي، ضاربا عرض الحائط وقار اللغة وطهارتها. ومن ثم تأخذ الألفاظ عند محمد الماغوط نبرة عنيفة لأنها تعبر عن عنف الواقع المحيط به:
"لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية
تضطجع في دفتري كفخذين عاريين"(3).
ويبلغ هذا العنف عنده حد الاستهتار بالمعتقدات الدينية كما هو واضح في هذا المقطع الشعري الذي يقول فيه:
" أيها الإله المسافر كنهد قديم
يقولون إنك في كل مكان
... كن معنا في هذه العيون المهشمة
والأصابع الجر باء
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر
لنبكي"(4)
أو كما يقول في قصيدة "الليل والنهار":
و"كنت أحبك يا ليلى
أكثر من الله والشوارع الطويلة
وأتمنى أن أغمس شفتيك بالنبيذ
وألتهمك كتفاحة حمراء على المنضدة"(5)
يتضح من خلال هذه النماذج أن محمد الماغوط لا يتردد في استخدام لغة تنتهك مفهوم" الحياء والأخلاق العامة" وإن اصطدمت بما هو مقدس، لأن وظيفة اللغة ـ كما يؤمن بها ـ يجب أن تشكل خرقا للطهرية التقليدية في التعبير الشعري.
ومن ثم راح الشاعر يستعمل كلماته نابية أو فاحشة أو صفيقة حتى تجرأ على استخدام مفردات ك: بال وضاجع فص وفرج ومني والبصاق... إلخ.
وعلى العموم، فإن الشاعر الستيني في سورية أعطى لنفسه حرية مطلقة عبر من خلالها عما يريد، فالدرب "مقفر الفخذين"(6) ونحن "نزني بالريح إذا جعنا"(7) و"الأرض فخد امرأة نحبها"(8) و"نضاجع البكاء"(9) و"ضاجعت بقايا الكلمات"(10).
وإذا كانت هذه الكلمات "الصفيقة" شائعة عند هؤلاء الشعراء، فإنها في شعر محمد الماغوط تأخذ حجما أكبر ومساحة اشسع، لأنه يؤمن إيمانا راسخا بأن اللغة يجب أن تكون محررة من التقاليد وقيم الماضي الثقافية والتعبيرية والجمالية وتتجاوزها إلى لغة تتميز بـ "نكهة العري" ولذلك راح يعطي لنفسه كامل الحرية في توظيف نكهة العري هذه في تعبيره الشعري مثل: "الجراد المتناسل، تـأكل وتضاجح من أذنيها ـ غفاة على البلاط المكسو بالبصاق والمحارم ـ نتشاجر في المراحيض ـ أعطني الحلمة والمدية ـ نتثاءب ونتقيأ وننظر كالدجاج إلى الأفق..." (11).
إن الشاعر حريص في هذه الاستعمالات اللغوية على استحداث علاقات جديدة بين الألفاظ تتمرد على نمطية التعبير المتداول من أجل خلق لغة فظة جديدة عارية كاشفة. يقول في ديوانـه "غرفة بملايين الجدران":
"سأجعل كلماتي مزدحمة كأسنان مصابة بالكزاز
وعناويني طويلة ومتشابكة كقرون الوعل
ولكن كما هو الثدي الفوار
بحاجة إلى الأصابع الوثنية
والزنود المشمرة مع شعرها حتى الإبط.
كذلك أنا
بحاجة إلى شيء مجهول
له نعومة النهد وشراسة الصقر(12).
ويمكن أن نقول بأن محمد الماغوط هو الذي فتح باب توظيف مثل هذه اللغة لمن تلاه من شعراء الستينيات الذين راحوا يتفننون في مثل هذه التعابير.
وتنزع لغة الماغوط الشعرية إلى تسمية الأشياء بمسمياتها، مانحا إياها قدرتها على اختراق الطهرية التقليدية، لأن وظيفتها في نظره هي التعبير عن الإحساس الفاجع لتردي أحوال المجتمع التاريخية والسياسية، والمتمثلة في تبخر الحلم القومي في الوحدة العربية، وفشل المشروع الثوري الذي أعلن عنه في ثورة الثامن من آذار 1963 في سوريا بالإضافة إلى سلسلة الأحداث التي وشمت الذاكرة العربية في العصر الحديث.
وقد خصص محمد الماغوط لمدينته "دمشق" حيزا هاما في ديوانه: "ضوء في حزن القمر" مخاطبا إياها بنكهة العري، التي تطفح بالمرارة والألم على تبدل أحوالها بين الأمس واليوم. لقد أصبحت بؤرة للقبح والتشويه والفساد والاستكانة والضيم والإحباط. وهنا بالذات يقع الارتداد من: المدينة: دمشق "الموضوع" إلى الذات "الشاعر" يحث يتفجر اليأس والحزن على أحوال المدينة، وتتفجر في مجريات القصائد مشاعر خيبة الشاعر التي تنساب كالسيل ضاربة عرض الحائط وقار اللغة وحشمتها، وهي نتيجة لتجربة الحياة في المدينة، ولحقيقة وجوده الإنساني بها. يقول في قصيدة : "حزن في ضوء القمر":
"أيتها العشيقة المتغضنة
ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر
أنت لي
هذا الحنين لك يا حقوده!"(13)
وبعد إعلان عشقه لها يصف وضعها، فهي مسبية ومستباحة وحزينة:
..." دمشق يا عربة السبايا الوردية
وأنا راقد في غرفتي
اكتب واحلم وأرنو إلى المارة
من قلب السماء العالية
اسمع وجيب لحمك العاري
...تبدو حزينة كالوداع صفراء كالسل
ورياح البراري الموحشة
تنقل نواحنا
إلى الأزقة وباعة الخبز والجواسيس"(14)
إن ارتباط محمد الماغوط بمدينته "دمشق" هو بمثابة قدر يلاحقه ويحاصره في مجمل ما كتب من شعر، كما أنه يبعث في قصائده روائح ارتباط قدري لا مفر منه، وهذا ما يفسر شدة ارتباطه بها:
"لا أستطيع الكتابة ودمشق الشهية
تضطجع في دفتري كفخذين عاريين
يا صحراء الأغنية التي تجمع لهيب المدن
وفواح البواخر
لقد أقبل الليل طويلا كسفينة من الحبر
وأنا أرتطم في قاع المدينة
كأنني من وطن آخر"(15)
ثم نلاحظ كيف يصف حالها، وكيف يقارن وضعها بين الأمس واليوم:
"استيقظي أيتها المدينة المنخفضة
فتيانك مرضى،
نساؤك يجهضن على الأرصفة
النهد نافر كالسكين
أعطني فمك، أيتها المتبرجة التي تلبس خوذه
بردى الذي ينساب كسهل من الزنبق البلوري
لم يعد يضحك كما كان
لم أعد أسمع بائع الصحف الشاب
ينادي عند مواقف الباصات"(16).
إن الماغوط لا يقنع من مدينته دمشق ببقائه متفرجا خارجها، أو مبهورا بوجهها المادي، بل إنه يتحدث عنها من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، فهي تمثل في نظره الوجه السياسي للأمة العربية جمعاء. ولذلك فهو يخاطبها بنبرة عنيفة مباشرة لأنه يريد التعبير عن وجه الحياة المقزم الذميم فيها وهنا ترتفع نبرة الهجاء المطردة للمدينة، والسخط العارم عليها وهي نبرة لها أكثر من مصدر.
لقد بدا إحساس الماغوط بالضياع عندما رمته المدينة "دمشق" في طريق التيه الذي ألب عليه الحزن الداخلي والضغط المادي الخارجي، ومن هنا ارتبطت دمشق لديه بالقلق الدائم، وبالأمل الضائع والقهر الروحي والمادي، وبمراحل العمر الخاوية التي تنتقل ضائعة من جدب إلى جدب.
هكذا اصطدم الماغوط إذن بواقع المدينة المر، وهو ما دفعه إلى إحساس عميق باليأس والضياع والتعب، لأن المدينة أصبحت معادلا للقهر والخوف والعذاب الذي لا ينتهي. ومن ثم كان هم الماغوط هو إبراز دمشق كما هي عارية، وهي إذ تتعرى تظهر على حقيقتها بؤرة لكل ألوان الخسف والذل والبؤس والقهر.
وهذا ما يغذي لديه الجانب الساخط اتجاه واقعه الذي لا يرى فيه بارقة أمل، ومن تم يطغى توجسه من المستقبل، فيستشعر قرب نهايته حينما يقول:
"يتخيل لي أنني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند المنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوى على الحجارة كديدان التفاح
دون أن ينظر إلي أحد
إنني أرى نهايتي
ستهب ريح قوية آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات"(17)
نعم لقد ودع الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط أشياءه الحزينة ورحل تاركا دمشق وبيروت وعواصم العالم العربي جميعها غارقة في مجاري السل والدخان، وأناسها يتهاوون على الأرصفة.
نعم، لقد قذف الماغوط قلمه إلى الريح، ودفنه "كالطير بين الثلوج البيضاء" ومضى على فرس من الحبر ولن يعود.
الهوامش:
(1) محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر"، من قصيدة بنفس العنوان، ص 15.
(2) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "المسافر"، ص 24-25.
(3) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "جفاف النهر"، ص 35.
(4) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الرجل الميت"، ص 44
(5) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الليل والأنهار"، ص 48.
(6) فايز خضور: "عندما يهاجر السنونو" منشورات اتحاد الكتاب العـرب، دمشـق 1972، ص 19.
(7) فايز خضور: "رصهيل الرياح الخرساء"، ص 19
(8) محمد عمران: "مرفأ الذاكرة الجديدة" ص 127.
(9) محمد عمران: نفسه ص 74.
(10) محمد عمران: أغان على جدار جليدي" ص 134.
(11) محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر" الصفحات: 58-50-61-62.
(12) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "أوراق الخريف" ص 75-76.
(13) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: بنفس العنوان، ص 12.
(14) محمد الماغوط: نفسه، ص 11-12.
(15) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "جفاف النهر"، ص 35.
(16) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "الفتل"، ص 71.
(17) محمد الماغوط: نفسه، من قصيدة: "وجه بين حذاءين"، ص 126.
د. امحمد برغوت: باحث في الأدب الحديث "المغرب"