احترقت الغمامة والموسيقى، والورد ودمى الأطفال، فلم أجد مكانًا أختبئ فيه سوى نهر كثير المياه، وهناك عشت طوال سنوات وحيدًا مستسلمًا لطمأنينة غامضة، حتى جاء في أحد الأيام صياد هرم، فانتشلني بسنارته من قاع النهر، وحدق إلي باستغراب وأسف، وقال: (ظننت أنك سمكة).
فقلت له متصنعًا المرح: (لا تخطئ، فالإنسان أفضل وأروع من السمكة).
فنظر إلى الشمس الآفلة بعينين مجهدتين، وقال: (مساكين أولادي، سينامون الليلة دون أن يأكلوا).
فأحنيت رأسي بخجل، ثم قلت له: (كيف صدقت ما قلته لك؟ كنت أمزح فأنا سمكة).
قال الصياد: (ولكن الأسماك لا تتكلم).
تيّمني هواه وشجاني... - نص : ضحى عبدالرؤوف المل
تيّمني هواه وشجاني من وجْد ما شجاني، فمن ذا يُبشرني بلقائه كي أحيا وأرقى بالروح ليعلو مَقامي؟!.. دندنت شفاه القلب حُبّك فهيّجت حروف القصيد والمعاني،فعشْ بالحُبّ مُزهراً مزداناً وقلْ ضُحاي كي تبعث في الروح الوحي والإلهام، قد ثار الوجد توّاقاً إليك، فتفتحت الخدود لقبلة تروي عُروشاً والثغر تبسّم صامتاً بأشجى نغمة ذواقة الهوى مُضنية التنهّدات...
إسمع صوتي الذي يهواك نبياً لبّى نداء فردوس قلب هائم والنفس ريّانة نشوى لمُهجة أطويها طي الرمال للكثبان...
حبيبي... كُن لكل مدنف صبّ به حرقة نورساً يلامس القلوب بأنّات، فمتى رغبت برؤيتي!.. أشعل ذاك الماضي وتذوّق نشوة مستقبل يحاكي نهج قلب تمنّى رضاك، وابتعد عن أطلال لسنا فيها إلاّ نقشاً سرمدياً غنّى تاريخ العشاق...
مـترجم أعـمى قصة : محمد الفشتالي
جئت للدنيا أعمى، هكذا شاء القدر. أحببت منذ ولعي الأول بالمدرسة "ابرايل " ثم أبا العلاء فيما بعد، فهما صنواي. عين القلب عندهما ترى مالا يراه ذو الاثنتين الجاحظتين. أراد القضاء أن أكون كفيفا، لا معرفة لي مطلقا بالنور وألوانه. الأشكال والمسافات هانت أمام مراس الحواس المستميت. أول أبجدية مرنتني هي ذبذبة الأصوات، وهي تنطلق من عقال الحلوق. لكل صوت بصمة خاصة على مسمعي. نمت تجربتي بأصوات العالم ودقائق طبائعها، ومع مرور الوقت غدوت خزانا لتفاصيلها. حواسي الأخرى كلها تشكلت بعد الأصوات. اليد كالعين حركتها لا تهدأ؛ ترى أشياء العالم الخشنة والناعمة. لما أقول ترى؛ أعني أن الاكتشاف يكون أدق من البصر، لأن العين ليست دقيقة... التذوقات كانت هي الأخيرة والأصعب، فقد طال تعلمها. الحامض على عدة تلوينات ذوقية، والمر بآلاف المذاقات، والمالح بدرجات متفاوتة جدا. أما الحلو فكان قليلا، لأنه لا يخرج عن سكر الصباح والمساء بدار الخيرية. بالنسبة للروائح، كنت معدم الشم. فالوسط الذي ترعرعت فيه هناك؛ روائحه الملوثة دائما عطلت ذاكرة الشم، فأضحت مشلولة منذ زمن طويل.
عزف الطَّــوَى – شعر : سعيدة الرغوي
تتشح الطبيعة برداء شتوي، تعانق عويل رياح الجبال السامقات، تتراقص أفنان الأشجار لتصدح موسيقى الطبيعة ،تتزاوج مياه الأنهار المنحدرة من عال مع مياه المنحدر، يا له من تزاوج جلل !.
تتأهب المدفئة لاحتضان حطب غابة منسية أُويْقات الحر، تلتحف الطريق الرئيسية ندى الطلِّ المتساقط في رقصة بِلًوْرِية، ترمم العجوز بيتها القرمزي الذي صيرته طيور اللقالق مخدعا لأحلامها، مأوى لأفراخها، تضع في الفرن الخُبْزَ البَلَدي والرغيف...تتآخى الأصوات وتتناغم موسيقاها فتموج الجُنوب الجامدة، وتُطْرب الأَنْفُس الظمأى اللاهثة وراء عناقيد السعادة المفقودة.
يا له من زواج طبيعي يَنِمُّ عن توَحُّدِ الأرواح والأجساد المغادرة لأدراج زمن الوهم المقتحمة لزمن الحقيقة والتوحد، أجْمِلْ بها من لوحة عذراء نسجت خيوطها يد إلهية لا تمتد إليها يد الزمن المتلاعب الخوان !. في الغرفة تسمع أصوات الأطفال، آهاتهم، ارتعاشاتهم وهم مرعوبون من يد تعبث بأحشائهم، ترقص ألوانا من الرقصات غير البريئة، تعبث ببراءتهم فلا يستطيعون لها ردا.
الفتاة – قصة : مسلم السرداح
انغلق دهليزا عيني كلاهما , ورحت في غيبوبة لانهاية لها , عميقة, غريبة ,ارتحلت معها أُلفتي مع المدينة, انحدرت نحو غربة بلا حد ، لقد لامست روحي نظرة من عينيها الواسعتين , البحريتين ، اذ وقفت امامي, تدلت , كل الثمار , وعرش الزيزفون في الحدائق , وتصاعد احساس حزين شد نياط القلب وراح ينتشر عبر الساحات والمسافات الماهولة ، العصافير اكتمل نشيدها باغنيات تنبعث من النادي , الخاص بطلبة الجامعة , وكدت اصرخ وانا ارى المنظر اللاغي لكل الصور ،
غريزتي الرجولية , استلمت في هذه اللحظة رسالة ، فيا طيور زقزقي , فانت جميلة , وتستحقين القبل , يامن لااجمل منك سوى الحياة نفسها , يا صنو هذه الفتاة الساطعة امامي الان مثل شمس آذار البهية.
الرسالة , مفادها ان هذه الفتاة , التي , ومنذ , مدة طويلة , وانا اتمنى ولو نظرة اهتمام واحدة من عينيها . والتي صببت كل روحي فيها , واقفة قبالتي الآن وهي تعلن علي الاهتمام العالي بي ، انها تدعوني،، وها انا ذا اغلق عينيَ , تماما ، رسالتها واضحة رسمتها عيناها الجميلتان فعلا اللتان تفوقان الخيال ، لم ا شك ولو للحظة واحدة في صدق الضوء المنبعث منهما ، ولكن طبيعة الخوف الكامنة في روحي , المحبطة , تجعلني ضعيف اليقين في نفسي , وذا دوافع واهية لإدراك إن مثلها تحب مثلي .
العبير - قصة: يسري الغول
"إليها وحيدة تغادر أصقاع المدينة،
لروح الشهيدة عبير يوسف سكافي، التي رحلت وفي قلبها شوق لحضن أبيها الدافئ"
***
"هــي"
جاءها المخاض عند جذع نخلة...
النخلة سامقة، الجذع طويل، والألم يفترش الوجه المغبر بالتراب. تتشبث المرأة بالهواء، تتأوه. آلام الطلق تفجعها. العينان تغوران في البعيد، وصورة الزوج خلف قضبان الفقد تراوحها، تلوح كطيف ملون. تواسي نفسها مع كل طلقة. تزفر الخوف، الجوع، الألم. تتمتم للريح: "ليته لم يخرج للبكاء على وجه القمر" ثم تذوب.
*****
"يوسـف"
أشرقت صورة أبيه في الحلم، وفي الحلم راوده حلم آخر. فقال مرتجفاً: "أهذا أنت يا أبي؟!"، سأل نفسه مرات عدة: "أبعثت من رقادك؟!" ابتسم له العجوز، ثم أشار بيده أن اتبعني فتبعه، وحين وصلا مقبرة المدينة، كان خيط النور يعانق جوف السماء.
سهاد..– قصة : الحسين النبيلي
يسوق شاحنته بهدوء تام عبر طريق رئيسية تربط بين مدينتين، كان في كل مرة يدخن سيجارة ليتخلص بها من الشرود الذي كان ينتابه كل حين، تارة يستمع إلى صوت المحرك المزعج وتارة أخرى يثيره أمر ما في الطريق، كان يسير بسرعة معقولة وهادئة كعادته، وبينما عجلات الشاحنة تدور كالرحى، كان يتأمل جمال الطبيعة المحيطة به. فجأة تبدى أمام عينيه جسد طفلة في مقتبل العمر على حافة الطريق، تشير إليه بأصبعها طلبا في أن يقلها معه. ورغبة منه في أنيس يبدد معه وحشة الطريق، توقف وأركبها معه.
كانت وسيمة مبتسمة وهي تسلم عليه، ملتمسة منه أن يوصلها إلى المدينة القريبة المقبلة في رحلته، ودون تردد يدوس على عجلة المحرك، وهو في سيره تجاذب أطراف الحديث مع الطفلة الصغيرة النحيلة ذات العينين الذابلتين وشعر أسود قصير ينسدل على كتفيها فوق كنزة زرقاء و تنورة طويلة، بعدما قدمت نفسها باسم سهاد ابنة تلك المدينة، ساردة أنها خرجت منذ صباح ذلك اليوم لقضاء بعض حاجيات المنزل في إحدى الضواحي، لكنها ضلت الطريق وفقدت ما كان بحوزتها من نقود العودة إلى المنزل، لذلك اضطرت إلى " الأطوسطوب"، ثم أنهت حديثها بالثناء عليه وشكرته كثيرا على جميله، بعدما كادت أن تفقد الأمل في الرجوع، خاصة وأن العديد من السائقين لم يأبهوا بها وهي تشير بأصبعها لهم.
عاشقة الظـل - قصة : جاسم الحمود
يبدو أنّ ساكناً جديداً حلّ في البيتِ المقابلِ لشرفتي ، كالعادة فهو طالبٌ جامعي ، منذ ثلاث سنوات ، وفي مثلِ هذه الأيامِ سكنَ ذاك الذي عشقته ، و هزمَني ، أنا التي ما خسرتُ حرباً ، أنا المدججة بأقوى الأسلحة ، أسلحة كثيرة و قوية ، هزمتُ كثيرين في المدرسةِ ، في الشارع ، في الوظيفة ، في الباص ، هزمتُ كلَ من قابلتهم ، لاحقوني ، شحذوا أسلحتَهم ، و أعلنوا الحربَ ، لكني هزمتهم ، أمّا هو فقد هزمني دون عراك و مطاردة ، و قبل أن يرفعَ سلاحاً ، عندما رأيته أول مرة كان جالساً ، يقرأ كتاباً بيده ، حاولت أن ألفت انتباهه ، تحركتُ في الشرفة جيئة وذهاباً دون جدوى .
في اليوم التالي راقبته ، و ما إن خرج إلى الشرفة حتى برزتُ مستعدة للمجابهة و التحرش ، التقت نظراتنا ، حييته بابتسامة ، ابتسم ، ثم جلس على كرسيه ، و بدأ يقرأ ، مضت الأيام أحييه بيدي ، أشير له ، فيكتفي بإرسال ابتسامةٍ هادئة ، قذفته بالحصى و الرسائل لاستدراجه ، فحافظ على وقاره و اتزانه ، أوقفت القتال في الجبهات الأخرى ، حشدت كل ما أملك من قوة وسلاح لهزيمته ، أعلنتها حرباً واحدة وجبهةً واحدة ، لكنني فشلتُ ، أطلقت سهاماً ورماحاً ، و امتشقت سيوفاً ، ولكنه لم يرمِ سهماً ، ولم يرفع سيفاً .