كما القطارات التي كتب لها طريق واحد لاتتعدى مساره ، كذلك يمضي العمر محملا برغباته المقهورة التي تموت اذ لاتلتقي ومحطات رسمها لها صاحبها ، وكذلك يسير كل شيء الا الانهار .
توهان في كل شيء يتحرك مثل ايد لم يكتمل قطعها وعيون ظلت وهي تراقب الحركات المحفورة للخوف .
تسير ساعات الياس صفيقة لادم فيها لتعيد حماقات الندم فيها قاتلا لاامل في رخائه .
هكذا تبدا القصة مثل سرطان يستفز العقل مع اناس ، تعلموا من سادتهم ، كيف ينتهك الإنسان وهو في عبودية الإنسان .
يُسحب الوطن من حياته الهادئة المتلوية مثل افعى ساكنة تسير في صحرائها مطمئنة ان لاشيء يؤذيها في الغد لانها لم تؤذي احدا ، ليخرج لها فجاة من يقتلها . لقد كتب عليها انها افعى وكفى ، سحبا قسريا كما يسحب الملائكة الارواح لغاية معلنة وهي التردي في سوح الوطن ، فإذا به يجد نفسه مهزوما في ساحة ارض اخرى . الوطن لا يستعبد أحدا ولكن الإنسان هو من يستعبد الإنسان . يسترقّون البشر أولا ويعذبوهم حتى إذا ما وجدوا نفوسا متراخية ، حولوها من خدمة الوطن لعبوديتهم هم .
يرتسم الوطن في الذاكرة ، مصاصا للدم خارقا للحياة ولم يكن يوما شبيها بطفل يتوسل اهله .
هكذا كان حال مراسل السيد الضابط الجديد بطريقة منفلتة لا ضوابط فيها حين وقعت له هذه الحادثة التي تبدو مسلّية لمن يقرا أحداثها من بعيد ، خصوصا أولئك الذين يحاولون تسييس الأحداث اليومية ، ولكنها كانت معقدة جدا لمن يقع ضمن الدائرة التي كان يعيشها هو .
لم يكن حرا لكي يستطيع أن يعيش أحداث القصة بإرادته . ولو كان يعرف ادنى شيء من الحرية فانه لن يمر بها ذلك هو القدر المنفلت من اطار ضوابط لم يعتد عليها احد ولكنها رسمت كما ترسم الظلال بريشة رسام مبتدىء .
اختاره السيد آمر وحدته العسكرية ليقوم بواجبه فإذا هو يفاجأ بواجب اخر وحكاية أخرى ولنبدأ بالحكاية من أولها .
كان لكل ضابط مراسل واحد أو أكثر يقوم بخدمته وتنظيف مكان نومه وملابسه وسكنه في الجيش يختاره من بين الجنود الذين لديهم هذا الاستعداد وحين يذهب الضابط في إجازة فان المراسل يذهب هو الآخر في إجازة . وكلما كبرت رتبة الضابط صار بإمكانه إن يفرّغ ما شاء من الجنود لخدمته و خدمة عائلته ويستخدمونهم حتى في البناء وفي كل شيء خاص به .
ويمتاز الجندي المراسل ببعض الصفات التي يرغبها فيه الضابط مثل الجمال والاناقة والترتيب والطاعة وعدم المشاكسة حتى إن البعض يروح يسمي المراسل لهذه وغيرها من الصفات ( امرأة الضابط ) وهي صفة لايحبذها إلا عدد من الناس في مجتمع الجنود من أولئك الذين ولدوا ولديهم استعدادا طبيعيا للعبودية وما أكثرهم في مجتمع بلا ضوابط ضاع فيه الصحيح واختلط مع الخطأ .
وطن خربته الاوامر فضاع مع النجوم الصدئة لرتب الضباط كما تضيع الشمس خلف النائمين في الظلال .
أما ضابطنا فاختار حماية لعائلته المتكونة من زوجته الشابة الفائقة الحسن والجمال وابنتين صغيرتين جدا ، من سكان العاصمة ، وهو القادم من ريف المحافظات الأخرى ، مراسلا بصفات معكوسة كحماية لعائلته ، بعد أن حملق طويلا في الوجوه المستعدة ، شابا اسودا ضخما أحولا غير أنيق أميا من أولئك الذين لم يمروا بالمدينة إلا بالسيارة التي نقلتهم إلى التجنيد ومن ثم إلى الوحدة العسكرية ولم يعد يراها إلا كما يرى السجين ، ضوء النهار . ثم قال السيد الضابط لنفسه وقد ارتاح من انجاز هذه المهمة التي بدت له شاقة : انتهينا . وراح يبتسم في قرارة نفسه .
كان في رأي السيد الآمر إن هذا الجندي يتمتع بصفات تتناسب والمهمة الموكلة له وهي القوة ، و السذاجة مايجعله يحمي عائلته وتكون عيونه بعيدة عن زوجته لبعد الهوة بينهما فأين ابنة العاصمة الفاتنة من هذا المسخ القبيح ؟ لكنه نسي أمورا أخرى ستتدخل في صميم المسالة .
حين يذهب الضابط في إجازة فانه يذهب إلى بغداد ، اللامعة ، مثل فتاة لم تغادر شهر عسلها ، مباشرة ليأخذ زوجته وأبناءها الصغار من بيت أهلها في العاصمة إلى بيته هو في ريف المحافظات ويذهب الجندي المراسل الأحول إلى بيته هو حتى إذا ما قاربت إجازة الضابط على الانتهاء تبدأ مهمة الأحول وواجبه في حماية عائلة الضابط .
يلتحق الضابط الكبير إلى وحدته العسكرية ويقوم المراسل الضخم بجلب الأسرة إلى بغداد .
يتم الحجز لعائلة الضابط في القسم العائلي من القطار الصاعد نحو العاصمة حيث تقوم المرأة بالدخول إلى داخل الكابينة التي تشبه صومعة متعطش للعبادة . وتغلق الباب عليها مع طفلتيها الصغيرتين ليقوم هو الجندي الضخم بحراسة الكابينة من الخارج وليقوم من ثم بتلبية احتياجات عائلة الضابط أمام أي نداء ولو كان خافتا أمام اهتزاز عربات القطار .
لقد تعلم الجندي أن يجعل حواسَه المليون كلها في خدمة العائلة خوفا من العقوبة التي قد يوجهها له سيده الضابط الذي وضعه في هذا المكان الآمن ، في حين يموت أقرانه من الجنود في جبهة القتال في كل الأوقات إضافة لما تسببه لهم الجبهة من الأذى والجوع وقلة النوم والحشرات وضواري الأرض .
- يجب أن أحافظ على مكاني هذا بكل حرص . يهمس مع نفسه مع كل خبر سيء يأتيه من جبهة القتال .
كان مرتاحا جدا في موقعه ومتفانيا في اداء واجبه . ولأجل ماتفضل به عليه سيده كان لايتوانى أن يرمي بنفسه تحت عجلات القطار إذا ما طلبت منه سيدته زوجة الضابط .
كان يعمل كل ذلك في خدمة عائلة الضابط أولياء نعمته ،مثل كلب مخلص .
كان سعيدا أمام بعده عن أخبار الموت التي تطال أقرانه في كل الأوقات .
شيء واحد كان يؤذيه .
كان كلما دخل على سيدته التي تطلبه وجدها في ملابس النوم أو هذا ما كان يبدو له وهو الذي لم ير ملابس النوم في حياته . فكان وهو القادم من مجاهل الريف يذهب بعينيه بعيدا إلى حيث يحاول أن لا ير أيّ شيء . لكنه وأمام الحاف سيدته في الحديث معه كانت عيناه تسقطان دون إرادة منه بين جبلين متدثرين بالثلج أو نهرين يتجاوزان عذوبة الفرات ودجلة وكان يحاول أن يلوذ بعيدا مثل جندي محاصر وهو الذي خبر جنون الجبهات قبل أن توكل له هذه المهمة التي اعتقد الآن إن همها صار أعظم من أيّ هم .
وحين كان يخرج من حريق المرأة ليتنفس الهواء الذي يأتي مع القطار كان يظن نفسه خارجا من أتون فرن حجري كبير . فرن أكثر بشاعة من الجبهات لكنه فرن من نوع خاص لم يتعرف على مداه من قبل .
كانت اللعينة تقتل الرجل بحركاتها تلك ألف مرة ومرة . كانت تحاصره دون أن تقول له أي شيء . وكان هو لا يفهم أي شيء .
وراح يفكر أن كانت تلك هي عادة المرأة أو إنها تطبخ في بالها أمرا ما .
كانت الجبهة تحاصر الجندي لأنها تطلبه وتدعوه للعراك أما هذه المرأة فلا هي تتركه ولا هي تدعوه إنها تحاصره بعريها .
لقد ضاع عليه أي حد للادراك فهو لم يتعرف قبلا على نساء المدينة ليتعرف على المدى الواقع هو فيه .
كان ، وهو الريفي القادم من أعماق الريف يعتقد أن على المرأة أن تحتشم أمام الرجال . وكان يعتقد إن عليه هو إن يحترم وليّ نعمته .
وكان يخاف الضابط أن يقتله أو أن يرمي به إلى الجبهة لتأكله مثلما تأكل الكلاب فطائسها .
راح الرجل يعاني أمام كل خياراته التي ليس له الحرية فيها ولو لخيار واحد فقط فكل السبل مغلقة أمامه . وكانت المرأة تتسلى به لتضحك منه في قرارة نفسها .
خيار واحد كان يضعه أمام نفسه في كل مرة وهو أن يصل القطار إلى العاصمة ليستريح من معاناته كما يستريح المذبوح من عذاباته ، بالموت . ولكن حتى هذا الحل كان مؤقتا إذ سرعان ماتنتهي إجازة لتبدا أخرى فالضباط أنفسهم يتهربون من الجبهة كحال الجنود وأكثر . إضافة إلى إن تلك المرأة راحت تتجرا نحوه أكثر ، مرة بعد مرة ، وهو يخاف أن يسقط في الفخ وما أقساه من فخ .
وبالفعل فقد أسقطته المرأة في الفخ . إذ طلبته وكانت شبه عارية فحاول أن يهرب ببصره بعيدا دون جدوى . سألته :
- انظر ، هل تخاف عمّك ؟
- كيف لا وهو الضابط وأنا جندي عنده !
- وأنا ؟
- أنت ماذا عمتي ؟
- هل تخاف مني أنا أيضا ؟
- أنت أيضا ، عمتي .
- وهل ستحقق لي ما اطلبه منك ؟
- لو تطلبين مني أن القي بنفسي بالنار لما ترددت عن ذلك .
لقد علمته المدينة أن يكون كاذبا بامتياز ، وعلمته الحرب كيف يصوغ الكلمات المنافقة والمتملقة وهو يتمسح على نعال سيدته .
- ولو طلبت منك أن تمارس الجنس معي .
شدهته الجملة فوقف متشنجا .
- معاذ الله عمتي . قال ذلك وهو يرتجف كالملدوغ . ثم اردف أمام منظر جسدها العاري المخيف :
- سيقتلني عمي أن عر ف إنني أخونه !
- وسيقتلك أيضا حين اخبره عكس ما تفعله أنت بالضبط . فسيصدق من حين اخبره انك تحرشت بي ؟
- أنت بالطبع عمتي .
- هل تشتهي جسدي هذا ؟ وراحت تعرض مفاتنها أمامه .
حين تتجرا الكلاب أكل لحوم البشر في الجبهات ، فإنها تتجرا على الإنسان الحي نفسه ولا تخاف منه . ولقد جرأته هذه المرأة أن ينظر إليها الآن بحرية .
- لو راني سيدي الآن سيقتلني .فهو ضابط وأنا جندي . وأنت تعرفين الجبهة سيدتي . قال متوسلا .
- ضابط هناك في تلك الجبهة ، أما في هذه الجبهة فهو مجرد ....... قالت ذلك وهي تشير إلى مفاتن جسدها . وراحت تكركر باستهتار .
- عمتي ، هل آذاك سيدي لهذا الحد ؟ قال ذلك وهو يقف فوق الجدار الفاصل بين الجرأة الواثقة التي خلقها له جسد سيدته ، وخوفه من نقمة سيده الجبار الغائب .
- ليس شغلك ذلك أنا آمرك أيها الكلب وكفى . قالت له زاجرة .
وراح يتذكر كيف إن سيده الذي تخونه زوجته الآن ، كان هناك في وحدته العسكرية أكثر قوة من الوحوش الكاسرة بل هو يشبه إلها غاشما يحيي ويميت كيفما يشاء ويتصرف بقوانين طوارئ حربه المجنونة ، وبعيدا عن أي رادع سوى ضميره الميت .
وفي الوحدة العسكرية في الجبهة وفي خلفياتها راح بعض الجنود يتهامسون عن المدى بين معاناتهم وراحة زميلهم الأحول المحظوظ هناك .
وراحوا يلعنون الحرب التي لاتنتهي والعسكرية والو..................................طن .
*المراسل : هو الجندي الذي يقوم بخدمة الضابط في الجيش العراقي ويفرغ لأجل ذلك من التدريب .